لجنة الذرائعية للنشر
دراسة ذرائعية بورغماتيكية لديوان (مناجم في حوض الشتاء )
عنوان الدراسة : الصناعة الرمزية والتعدين للخيال والذات
في ديوان :
(مناجم في حوض الشتاء ) للشاعر أحمد بياض
الدراسة من إعداد الناقد الذرائعي : عبدالرحمن الصوفي / المغرب
أولًا– مقدمة
الشعر العربي في الوقت الحاضر يختلف اختلافا كبيرا عن شكله المتعارف عليه في العصور السابقة ، خاصة مع ظهور موجات شعرية وافدة متعددة الأسماء والمسميات ، ومضة ، غمضة ، هايكو ، الواكا ، حر ، نثري ، ثلاثي … لذلك سنقدم لمحة موجزة عن التطور الذي عرفه الشعر العربي عبر مختلف العصور التاريخية .
الشعر العربي القديم حرص على الوزن والقافية ، وإذا خلا منهما النص لا يعتبر شعرا ، بل يخرج إلى الخطابة أو الفصاحة أو الحديث ، ومن أجل هذا الغرض ظهرت عدة كتب تدرس الأوزان والقوافي ، وكتب أخرى تجمع وتدون وتصنف الشعر إلى مجموعات بالاعتماد على الأغراض وموضوعات الشعر . نجد المؤرخين قد اعتبروا الشعر العربي القديم حاملا لمضمون الإمتاع والنفع والتعقل والتبصر والحكمة … كما أن الشعر العربي القديم يحمل الأخلاق والقيم العربية ، والافتخار بالانتماء للمكان المشكل لهوية وشخصية الشاعر ومجتمعه العربي .
عرف الشعر الجاهلي بالقصيدة المتكونة من أبيات ، كل بيت مستقل عما قبله وبعده في التركيب ، وتتصل الأبيات كلها في المعنى ، وتنتهي القصيدة كلها بحرف واحد في القافية ، وتمتاز بموسيقى تتحدد مع البحر المتبع .
أما شعر صدر الإسلام فارتبط بظهور الدعوة الإسلامية ، فأصبح الشعر مسايرا للجهاد لنصرة الدين الجديد ، والفخر بالرسول صلى الله عليه وسلم ، بلغة واضحة وسهلة بعيدة عن الغموض والغرابة . أما الشعر الأموي اتسعت مواضيعه ، وتطورت أساليبه تبعا للمظاهر السياسية والثقافية والفكرية ، وأضاف الشعراء العباسيون أساليب شعرية كان مصدرها الاطلاع على ثقافات أجنبية ، وخاصة الفلسفة اليونانية التي وسعت مدارك الشعراء ، كما أنهم نحوا نحو التفنن في المحسنات البديعية والتجديد في الألفاظ .
أما الشعر الأندلسي فظهر في ظروف جديدة لا مثيل لها في المشرق العربي ، ظروف اتصلت بالأندلس وتنوعا الطبيعي والثقافي والسكاني … فجمعت قصائدهم بين الذاتي والطبيعي والمجتمعي بهوية شعرية عربية .
عرف القرن الماضي أكبر تطور عرفه الشعر العربي مع ظهور الشعر الحر الغير ملتزم بنظام القافية الواحدة ، فتنوعت القوافي في القصيدة الواحدة ، وتتنوع معها كذلك الموسيقى الشعرية ، كما أن هذا النوع لا يعتمد نظام الشطرين بل يقوم على نظام الشطر الواحد الذي يطول أو يقصر حسب اكتمال المعنى وبحسب الإيقاع الموسيقي معتمدا الوحدة الوزنية لكل بيت تقوم على التفعيلة الواحدة .
قصيدة النثر تتميز بإيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية التي تعتمد الألفاظ وتتابعها والصور وتكاملها ، الحالة العامة للقصيدة بناء يتميز فيه شاعر عن آخر من حيث الصنعة و التوهج والإيجاز والخيال والرمز والعاطفة …
أما في العصر الحالي فيعيش الشعر ظهور أشكال جديدة وافدة من ثقافات أخرى ، وهي تجارب موضوع نقاش وجدال بين الباحثين و المهتمين .
– توطئة:
قد يتساءل الكثير من القراء عن سبب اختياري للرؤية الذرائعية التحليلية للناقد العراقي عبد لرزاق عودة الغالبي ، أترك الجواب لصاحب النظرية بنفسه يقول :
(… خرجت بفهم يقرأ أهمية النص الأدبي العربي الإنساني للمجتمع ، مقابل النظريات النقدية المادية التي تطغى على المنظومة الفكرية والأدبية العالمية ، وهذا الشيء غاب عن ذهن المتلقي العربي الذي لا يعي معطيات تلك النظريات التي لا تلائم الدين الإسلامي ، ويعتبر التفكيك أهم نظرية حديثة تحترم النص المبني على اللوغوس ، والذي يجعله غير منسجم مع الرؤية العربية الإسلامية ، كون التفكيك قلد تيارا عرف ب( ما بعد البنيوية ) ، وهو ضد النظرية البنيوية التي استكانت لافتراض التناسق في بنية النص الأدبي بناء عل منطق وقوانين لغوية صارمة وحاسمة لا تقبل النقض أو التغيير أو التعليل ، ولا يذكر شيء خارج نطاقها ، لذلك نحت النظرية التفكيكية إلى التشكيك بالعلاقة اللغوية ذاتها ، وفي منطق أنساقها وقوانينها ، إذ لم يعد النص في نظرها يمثل بنية لغوية متسقة لغويا ، تنطوي في داخلها على متناقضات وصراعات وكسور وشروخ وتغيرات عديدة ، يجعل من النص قابلا للتأويلات والتفسيرات التي لا نهاية لها ، وليس هناك من نص يستعصي على التفكيك كي تخرج من باطنه ما تخفيه ، لذلك تبدأ النظرية التفكيكية بتكسير السطح اللامع للنص الأدبي كي تبلغ أعماقه والتي لا يبوح بها . من ثمة تختلف الرؤية الذرائعية البرغماتيكية ، فهي تحترم الظاهر والباطن معا خصوصا النصوص القرآنية والكتب المقدسة الأخرى .
الكثيرمن النقاد والمهتمين لا يعرفون مضمون تلك النظريات وخطورتها على النص الأدبي العميق ، فأتباع تلك النظريات يقود نحو الهرطقة وتهديم الشكل الجميل للنص الأدبي العربي ، لذلك حاولت الذرائعية تعديل المسار الجائر والتعريف بالنص وماهيته وإقرار أهميته سواء بين القراء أو النقاد .
لا بد من الإشارة إلى أن المناهج النقدية الحديثة وما بعد الحداثة كانت اتجاهاتها مادية بحثه حين تعاملت مع الأدب نتاجا ونقدا ، وأهملت النقد الأدبي وما يحمله من قيم وفلسفة ، لأنها اعتبرته شكلا لغويا ، فظلمت الأديب من خلالها ، ومعها ماتت الكلمة النقدية على رأس قلم الناقد … )
من هنا انطلق أنطلق المنظر والمفكر عبدا لرزاق عودة ألغالبي واضع النظرية الذرائعية المتجهة صوب الخيمة العربية الإسلامية ، محترما الشكل والمضمون ، الظاهر والباطن .
– السيرة الذاتية للشاعر
الشاعر أحمد بياض من مواليد مدين مكناس
أستاذ وباحث في مجال التربية والتكوين
خريج المدرسة العليا للأساتذة
له مؤلفات عديدة في طريقها للنشر.
ديوان ( مناجم في حوض الشتاء ) يقع في 120 صفحة من الحجم المتوسط
لوحة غلاف الديوان للفنان محمد سعود .
ثانيًا_- البؤرة الثابتة في النصوص
البؤرة الثابتة المقصود بها الاستاتيكية المؤطرة للنصوص بديناميكية التنصيص ، سواء أكانت في الأفكار أو في الأيديولوجيات الإنسانية والبناء النظري الفلسفي …بهذه البؤرة نلمس أيديولوجية الكاتب الأدبية والفكرية ونظرته اتجاه ذاته ومجتمعه الذي هو جزء مكون للمجتمع العربي الكبير ، ونظرته الحاملة لرسالة إنسانية .
البؤرة الثابتة في نصوص ديوان (ديوان مناجم في حوض الشتاء ) رسالة إنسانية شاملة اجتماعية إصلاحية ، تنطلق من عمق التجارب الذاتية والتصورات الفكرية الثقافية والسياسية وخاصة الهزات التي عرفها العالم العربي سواء قبل ما سمي الربيع العربي أو بعده . رسالة إنسانية ذات عمق وحس مرهف وشعور فياض راصد للذات الاجتماعية وهزاتها وآلامها المشتركة وأحلامها التي تكسرت على صخرة الواقع العربي المؤلم .
إن الفكر يتصرف ويمارس قدراته الواعية في جدلية متناغمة مع الواقع ، علاقة بين الفكر والوجود كإنسان ذي فكر يطاوع دعوة الوجود وينشدانه ليقول حقيقته ، فالتفكير في الوجود الذاتي هو التهيؤ الموجود للقول والإفصاح عن الذات من اللغة الجامعة لهذه الثنائية المتشابكة الذاتي والموضوعي أي الفاعل والمفعول اللذان يظلان رهينين بالشعر. إن تاريخ الوجود هو الذي يتحمل كل ظرف وشرط إنساني متمحور حول رؤية فلسفية وثقافية وتاريخية ، وذلك ما سنلاحقه في مدخل الاحتمالات المتحركة .
ثالثًا-الاحتمالات المتحركة في النصوص شكلًا ومضمونًا
سننطلق في البداية من عنوان الديوان( مناجم في حوض الشتاء) ، وبعدها سنغوص في حلقات ومجربات النصوص الداخلية دون إهمال أي رمز أو دلالة …
عنوان الديوان مناجم في حوض الشتاء مركب مبتدأ وخبره . المنجم أنفاق تحت الأرض تحتوي على مواد خام من معادن مختلفة وهي من الموارد الطبيعية ينبني عليها الاقتصاد ، اللغة بدورها منجم ومادة خام يقوم عليها اقتصاد الفكر الفردي داخل المجموعة البشرية . ولقد أثرت كلمة مناجم في الأفكار العامة للنصوص وربطت بين حلقات أفكارها ، وأماطت اللثام عن سياق العاطفة والأحاسيس . أما الشتاء كفصل فهو الفصل الذي استهوى معظم الشعراء وأصبح مصدر إلهامهم بل استلهموا منه قصائدهم ، والمتعارف عليه أن فصل الشتاء فصل الأمطار والسحاب والبرق والرعود والفيضانات …يمكن إعطاء شكل هرم لعنوان الديوان قائم الذات، الزاوية الأولى كلمة (حوض) والزاوية الثانية (شتاء) والزاوية الثالثة (مناجم ). من خلال هذه الهرمية سنلاحق قصائد ديوان الشاعر أحمد بياض، وسنربط القصائد بعنوان الديوان من خلال غوصنا وملاحقتنا لمجريات النصوص الداخلية، أي ملاحقة الأفكار المتصلة فيما بينها بالتحليل، وجمع الأفكار واللهاث خلف الدلالات والرموز والأفكار المتعاقبة والمكملة لبعضها، نسلك طريق صياد اللؤلؤ، كلما غاص عميقًا كان صيده وفيرًا .
الزاوية الأولى …….حوض
أما الحوض فهو مجمع مائي في منخفض طبيعي من الأرض، محاط بجبال أو تلال عالية من كل الجهات، وقد يمثل منطقة مناجم فحمية أو معدنية، وهو كذلك تجويف عظمي في جسم الإنسان يحيط بأسفل البطن، وتطلق الكلمة كذلك على حوض الأذن وحوض الحمام وحوض السباحة، وحوض أو حياض الوطن أي حرماته ومقدساته …
يقول الشاعر أحمد بياض في قصيدة (عزلة )
قائم …فالحب
أنا وأنت
بحر ثالثنا
على خذ الميمنة
أنين شمس
وشوقنا الأسير
ميسرة
ريح تناجي ريح
أشواق قبل
لثمت قصر الموت
وما عانق السائرون روحك …
لديك
الماء والحطب
يتسم رمز الحوض الجامع للماء بحضور لافت لمفهوم الماء ضمن مفردات القصائد باعتباره مكونًا طبيعيًا يؤثر في وجدان الشاعر، من خلال علاقته الجمالية بالعديد من المكونات والمفاهيم بحسب قصائد الديوان …يتفاوت حضور الدلالة الرمزية للماء في القصائد ضعفًا وقوة أو قلة وكثرة ، الماء مكون يسهم أحيانًا في عزلة الشاعر، وزيادة المعاناة الذاتية ، ويفتح باب التأمل ومغادرة المكان إلى أفق آخر. وتبرز جمالية الماء من حيث كونه بحرًا حينًا أو نهرًا أو مطرًا أو حوضًا حينًا آخر، وما تتصف به البيئات المحيطة من جمال أو قبح …وتأثيرها في نفسية الشاعر المعذبة أو المتألمة . الماء هو وطن الموت الكامل الذي يكونه البحر اللامتناهي أو النهر الهادر أو الأمطار المنهمرة . وحدة الماء يستطيع تخليص التراب الذي خلق منه الإنسان وإليه يعود .
_ الزاوية الثانية……شتاء
تمركز الذات في المتن الشعري بمظاهرها وتجلياتها المتعددة ، والتي أصبح فصل الشتاء مصدر وحي وإلهام، وكأن الغيوم وتساقط الثلوج والأمطار من كبد السماء إيذانًا بانهمار الأفكار والرؤى الشعرية، ولوقع الشتاء سحرها الخاص في نفوس الشعراء بحضوره الجلي في روائع نصوصهم ، وإن تفاوتت علاقتهم به من حيث التوجس والأمان والحب والكره…
يقول نزار قباني
إذا أتى الشتاء
وحركت رياحه ستائري
أحس يا حبيبتي
بحاجة إلى البكاء
ويقول محمد الماغوط
بيتنا الذي كان يقطن على ضفة النهر
ومن شقة الأصيل والزنبق الأحمر
وتركت طفولتي القصيرة
تذب في الطرقات الخاوية
كسحابة من الورد والغبار
غدا يتساقط الشتاء في قلبي
تنتمي الذات الشاعرة إلى شخصية الشاعر ، يسهم فيها الوعي الشعري والرؤية الشعرية على صعيد الفضاء الخارجي والداخلي للنصوص ، يسعى الخارج الشعري بتنوعاته المختلفة ، فتشتغل الأنا الشاعرة أساسًا على فكرة الانتماء وإعلان المسؤولية الكاملة في حالات الذات وأوضاعها المختلفة .
يقول الشاعر أحمد بياض في قصيدة( وقع الغيم )
وسيمفونيتي المتهالكة
بما ارتوت من أحلامي
وشهوة الغسق
التي تقضم
أوكار ذهني
فكري
وزهرة حبي
صحارى موجي
وقصائدي العالقة
تحت
وقع الغيم
حضرت سيمفونية تصور ذاتها مرتوية بالأحلام وشهوة ليل دامس يقضم أوكار الذهن ، لكن الأمل والطموح الذاتي حاضر بقوة، بزهرة حب وولادة قصيدة تحت غيم ينذر بمطر قصائد في شتاء الخير..شاعر يقدم رؤيا شعرية لإعادة تشكيل الواقع وخصائص الوجود وظواهر الكون وفق رؤية إبداعية وجودية الأحاسيس والمشاعر ، رؤيا عامة بعيدة عن التفاصيل والجزئيات .
ومن قصيدة ( خلايا غائبة في جسد الكلمة )
يا زائري
هل قرأت ديواني الغائب
بين تابوت الفصول
وواد الحجر
الذات الشاعرة في سكة تعبيرية ، تعمل وفق آليات تضمنت التهذيب في صورة جسدية ، تأكدت في منظومة الكلام الذي أظهرته عاطفة مشحونة بالانفعال والحيوية .
الزاوية الثالية …….مناجم
المناجم هي مصادر استخراج المعادن القيمة من باطن الأرض عادة ، وتكون خاما ، تساهم مساهمة في اقتصاد الدول ، ويرتبط بها التعدين وهو نشاط إنساني منذ أقدم العصور.
وتختلف المناجم من حيث قربها من سطح الأرض أو التعمق في جوفها، وهذا النوع الأخير تتخذ فيه إجراءات متعددة لحماية العمال . ولقد ارتبط بكلمة مناجم نوع من الإبداع سمي أصحابه بأدباء المناجم ، ونخص بالذكر مبدعو مناجم جرادة بالمغرب . لقد حملت العديد من قصائد الديوان أحاسيس وهموم الإنسان المغربي والعربي عمومًا ، سواء قبل ما يسمى بالربيع العربي أو بعده ، على أساس أن الشاعر فاعل في مجتمعه ، وتحمل الكثير من حروفه وكلماته المتاعب والتضحيات التي تقتضيها العروبة ومصلحة المجتمع . الإنسان المبدع ليس مجردًا أو معزول الأحاسيس عن مجتمعه، ولا يستطيع الهروب عن الآلام والأحزان الجمعية المشتركة , يقول إيليا أبو ماضي:
كلوا واشربوا أيها الأغنياء وإن ملأ السكك الجائعون
يقول الشاعر أحمد بياض في قصيدة ( أغصان )
شابت
على أعين الموج
فرسان الطليعة
غبار النقع
فاجعة الأشواق
ليل على الأرجاء سهلا
والربيع يورق الاحتماء
تقاسم شفاه الزهر
قبلة على صبار الأنين
وبقايا نهار
يعالج سقم الأشعة
وعلى وشم الظلال
ضحايا رخام
على تابوت الصدر.
ويقول الشاعر أحمد بياض في قصيدة (أوردة المنفى وطقوس الريح )
على رماد المدن العارية
تفك السنابل مخالب الريح
في سراب حكاية
يتعثر مهد الأشواق
تشكر الأفواه صيحة الغربة
يرافق شقة الخيام لثام قبلة
على خذ الضريح .
الرمز في قصائد الديوان يحل محل كل شيء آخر للدلالة عليه بطريقة غير متطابقة ، إنها إيحاء ووجود علامات عرضية ، وعادة استعمل الرمز بملموس نحو مجرد حامل لدلالات متعددة نفسية وفكرية ومجتمعية وإيديولوجية وفلسفية …الرموز تحمل علامات دالة على المعقول ، تندرج ضمن المعقول المدرك المحسوس ، وهو بذلك يعكس الشعور ورغبة الشاعر في اختيار الرموز وصناعتها . سنأتي على تبيان كل ذلك من خلال المداخل العلمية التالية:
أ- المدخل البصري والبناء الفني و الجمالي :
الديوان المعنون ب(مناجم في حوض الشتاء ) يحتوي على مائة وعشرين صفحة ، تتوزعها ثمان وثلاثين قصيدة نثرية تختلف من حيث الطول والقصر ، وهذه القصائد هي : وقع الغيم – شهاب طقوس على ريح مساء راحل – خلايا غائبة عن جسد الكلمة – غربة الأنين – عزلة – أديم – سبع زهرات – وشل – فواصل – ضريح ليل عاري – إياب – رماد الشمس – عزف على أوتار الليل – همس – ضريح العنفوان – حنين على المعاصم – أغصان – أقواس – سبايا الدمع – خريف – غيث آخر – أن….وتئن الحروف – خلخال الفجر – رماد – غربة شاعر – زنجبيل – ريح الصدى على أوراق الجفون – أوردة المنفى وطقوس الريح – جدران – سيل الخطى على ضريح الليل – على ثوب زهرة في اصفرار الحقول – شفرة انتظار عالق – رعشة – غروب – هواء منكسر – زهرة المناسك وحلم صامت – بقايا عطر –
· التجنيس الأدبي للنص:
إن النصوص الماثلة بين أيدينا هي قصائد نثرية دلنا عليها الشكل البصري للنص ، وتناسق الألفاظ والسياقات الشعرية…
كل القصائد ذاتية إنسانية وجدانية تحمل الحس والهموم الفردية والوطنية والعربية ، بمسحة فلسفية مالت إلى الـتأمل تنبع من نظرية الفن للمجتمع . كما أن الديوان لم يخل من علامات الترقيم بكل أنواعها والحاملة لدلالات تتعدد بتعدد النصوص والمقاصد .
· _درجة العمق والانزياح نحو الخيال والرمز:
إن رمزية الذات في الفلسفة هي إرادة الحياة والعيش والبقاء ، ولا تكون أسباب العيش إلا بوجود نفس قادرة على إدراك الخير والشر. يرى بوذا أن الذات تتحقق من خلال قهر اللذة دون ألم ، ويرى سقراط أن الذات عبارة عن خليط من قدرات الإنسان وملكاته الشخصية ، وإنما ترتبط بقدراته على التحليل وبناء المنطق . أما الذات في الدراسات الحديثة فيمكن تقسيمها إلى ثلاث ، الذات الواقعية والذات المثالية والذات الخاصة . أما الفلسفة الإسلامية فحصرت مكونات الذات فيما هو عقلي أو ما هو أخلاقي . لا يمكن للطموح أن يحقق الذات بدون جرعات من الألم والمعاناة.. . وجد الرمز في الخيال مجاله الخصب وعالمه الواسع الذي يشتمل على تصورات تسكن العقل البشري عموما ، أي التفكير في مجالات تكون شرعية ومقبولة في جنس الشعر ، وتعد عمقا أدبيا مقبولا ومحمودا ، وهو مصدر اللذة والتشويق النصي ، وذلك ما سنلاحقه في تحليلنا .
يقول الشاعر أحمد بياض في قصيدة (ضريح العنفوان )
ما اسمك
الذي تردده
الشفة القانطة
من عزوف شوق الكلمة
ما اسمك
إن النصوص الشعرية قصائد وجدانية بامتياز كبير، فلا غرابة أن تميل إلى الخيال والرمز الضارب في عمقها ، ونسجل أن النصوص تجاوز حدود رمزيتها التسعين في المائة ، وتتجلى أهمية الخيال ، حين يحول الشاعر المألوف اليومي إلى صناعة شعرية ، يبت فيها الحركة والحياة …ولخدمة أغراضه الشعرية التجأ الشاعر إلى الأسلوب الخبري والإنشائي ، مما أكسب القصائد حيوية وحميمية منعشة ، من خلال الأخيلة والصور التي نقلتنا لفضاءات يسرح فيها الخيال ، وتحيا بها الطبيعة وتتجسد المجردات ، يطوعها الشاعر بين يديه ، أداة تأثير علينا ووسيلة إقناع لنا بأفكاره …ولم يغفل الشاعر الزج بعواطفه وأحاسيسه وآرائه ، ونظرته الخاصة إلى ذاته ومجتمعه والعالم .
ب-المدخل اللساني واللغة الشعرية
حسب علم اللسانيات ، تعمل المهارات الميكانيكية الحسية في العقل الإنساني المتلقي للأدب بشكل عام ، والشعر بشكل خاص، بأربع مهارات ميكانيكية تعمل على استلام المعلومات المؤثرة بالإحساس حسب نوع اللغة وجنسها ، منها الجانب الحسي المرتبط بالدلالة المرسومة من جهاتها المختلفة لتقرر هوية اللغة الحاضرة . يختلف الأديب عن الإنسان العادي في التعبير طبقًا لمعايير علمية ن وقد برع الشاعر أحمد فياض في صياغة مفرداته الوجدانية الرقيقة المدروسة في التعبير عن إرهاصاته الإنسانية بشكل مؤثر ، دون أن يحس ، حتما اكتسب ذلك من موهبته الأدبية المسورة بسور الخبرة في كتابة الشعر المكثفة، والمتلاحقة والقراءات المستمرة ، لذلك جاءت جمله بشكل مدروس، بأنظمة تكوينية قصيرة مغناة بمفردات متنافرة ومتماثلة من خيالية كاملة، أو إخبارية كاملة . كل الألفاظ التي وردت في قصائد الديوان فصيحة من قاموسه اللفظي الغزير بعيدة عن الابتذال، حتى حين يبلغ قصائده أحيانا قمة الغضب ، لم يستعمل ألفاظا دونية ، فبقي محافظا على اللباقة الأدبية الشعرية .
لقد انفرد الشاعر بصناعة المفردات والجمل بشكل يختلف عن القول العادي أو ما نقرؤه لمعاصريه في نفس التجربة الشعرية ، وهذا التفرد صار واضحًا في كل القصائد المشكلة برمزية غاية في الصنعة .
· الموسيقى الشعرية:
أما الإيقاع الموسيقي الشعري عند الشاعر أحمد فياض في قصائد الديوان فتتميز بالانسيابية والتنوع، جمل موسيقية معبرة ، تتخلل جمل النص ، وتنتقل أحيانًا بين ترانيم ترتكز على أصوات متعددة متناغمة ، ونهاية الترنيمات الموسيقية المتقاربة والمتباعدة تتغير من قصيدة إلى أخرى سعيًا وراء المعنى، تزاوج بين المفردات تحمل صوتا مسموعا مع الموسيقى ، وكأن الشاعر يعزف للكلمات وهي تتراقص بين أسوار الجمل .
ومن خلال قراءتنا الديوان لاحظنا بسهولة إن القصائد تنتظم في غالب الأمر في جمل قصيرة أولاها الشاعر عناية خاصة وفائقة . نغم خفي تحسه النفس عند القراءة أو الإلقاء ، نغم يشعرنا أحيانا بالحزن والكآبة، وآخر بالحماس …اختار الشاعر كلمات بعيدة عن التنافر وسهلة إخراج حروفها الموزعة بين الهمسية والصفيرية والقوية المسموعة …ونقدم مثلا من الموسيقى الشعرية قصائد ديوان ( مناجم في حوض الشتاء ) من قصيدة ( رماد الشمس )
تنتشر الخيام
جسور الصبر
مرآة أرض خالدة
وراء الضباب
قطر المدى
على خد الورد
ورعشة الجسد
نلاحظ مقدرة الشاعر على التلاعب بالشكل والمضمون والمعنى والموسيقى، بمضمون محبوك مغلق ببداية ونهاية ، فيجعل معنى الكلمات مدورا بالمعنى يسرق الحس والوعي ، ويجعل المتلقي يحس كيف سخر الشاعر الموسيقى لخدمة المضمون العام للقصائد ..
· الصور البلاغية والإنسانية في النصوص الشعرية:
تزخر نصوص الشاعر أحمد بياض بجمالية التعبير والصور النصية، فقد استطاع الشاعر بموهبته وخبرته الشعرية رسم أجمل الصور بالكلمات والتعابير، حيث استطاع أن يخلط ببراعة بين الكلمات والألوان والألوان والأنغام معا، استخدم علم الجمال والبلاغة وعلم البيان والبديع في بوتقة وواحدة ووظف الطباق والجناس والتشخيص والتشابه والاختلاف والقياس وعناصر بلاغية أخرى، بخبرة ومهارة وحرفنه واتزان، لذلك حين نقرأ لهذا الشاعر، وجدنا أنفسنا وجدنا نفسنا كأننا نسمع نغما ملونا مرسوما بأبعاد مختلفة مرسومة بلون فرشاة، مدروسة فنيا وأدبيا، وتلك سمة واضحة وإستراتجية واضحة في كل القصائد، والسبب يعود إلى الاهتمام الكبير بالصناعة الشعرية وجملها، باهتمام منقطع النظير، لذلك يحس القارئ بحلاوة النصوص وتأثيرها المباشر والمحرك للحس والوجدان . يقول الشاعر في قصيدة ( عل ثوب زهرة في اصفرار العقول ) .
وأصنع من الزجاج يتم يدي
وأشاطر الحفاة نرد الغبار…
معطف غجري على جسدي
تنهيدة شتاء
حين تورق على الحجر صلاة الغائب
وعلى مرآة الأرغفة
ما تبقى من شبح الهياكل .
· الصور الشعرية:
الصور الشعرية في شعر الرمز والخيال يمكن تقسيمها إلى ثلاث مستويات :
المستوى الحسي المباشر : يتم فيه تصوير الأشياء كما هي بعيدة عن الابتذال ، ونأخذ كمثل نموذج من قصيدة ( حنين على المعاصم ) من ديوان ( مناجم في حوض الشتاء ) .
هل ستعود ليلى
على أقراص الليل
فتنحني القطاف
برعشة الجسد
ليستحم الفراغ
في وهج الطفولة
حضور دلالة العنصر الحسي في الصورة الفنية متوزعة بين قصائد الديوان ، بين صور بصرية وذوقية وشمية وسمعية . إن الصورة المستمدة من عمل الحواس تجسد رؤية رمزية تستمد فعاليتها من التداعي السيكولوجي ، وتكرار الكثير من الصور في الديوان مثلها مثل اللوازم النغمية ، ووسيلة من وسائل البناء الجمالي الحامل للكثير من الدلالات في القصائد . إن الجانب الحسي التي تقدمه الرؤية البصرية هو أبسط هذه الدلالات وأقربها إلى ذهن المتلقي وتساعده على تذوق البناء الجمالي الفني …
المستوى الاستعاري : أي التفاعل مع الواقع الخارجي تفاعلا مجازيا ، ونأخذ نموذجا من قصيدة (عزف على أوتار الليل )
في الحانات المكسوة بالتراب
شفتي الريح
لثمة حارقة
تائهة
في ضباب الذاكرة
الليل يطفو على سطح البحر
كسير محيا نجمة
لم تعانق الضوء
يتضمن الديوان تعابير وأساليب بلغة رمزية غير حقيقية تقريرية مباشرة ، تتضمن استعارات ومجاز وكناية وأساليب بلاغية معروفة …صور شعرية خيالية عبر عنها الشاعر بواسطة انفعالات ، سواء كانت تلك الصور تشبيها أو مجازا أو استعارة …بكلمات رمزية فنية متماسكة ، تنم على تجربة شعرية تستخدم طاقة اللغة وإمكانياتها في الدلالة والتركيب والإيقاع…
المستوى الرمزي : أي التعبير بمنطق يتخطى حدود الحدس والعقل كلها في إدراك الوعي لها ونأخذ مثلا من قصيدة ( رماد الشمس )
آذار صوت الشمس
ولغة النحيب
صوت وراء الأسوار
معلقات طفولة
خط تراب
نشيد يبحث عن لغة
وينحت في الجسد
رحم الكلمة
لا أرض لك .
لقد وظف الشاعر الصورة الشعرية في نصوصه الشعرية بتكثيف تفصيلي مانحا إياها حركة الإحساس بعاطفة ازدحمت فيها الصيغ لتدخل التشكيل الشعري ، والصورة الشعرية في هذا المستوى من أصعب مفتح النصوص الشعرية ، نظرا لاختلافها وتنوعها وعمقها المرتبط بقوة الشاعر وعمق تجربته الشعرية . وتوضح أن أسلوب الشاعر في هذا النوع يرتبط بأسلوب التجديد والابتكار . وحضرت صورة الشاعر لذاته في صور مشكلة بالدهشة والمفاجأة والحلم.
ج– الثيمة أو الموضوع ومقاييس الدقة في الإبداع الشعري:
المقصود بها الرسالة الإنسانية التي يضمنها الشاعر لنصوصه الشعرية، بين الحروف والكلمات، أي من خلال استعراض الأفكار الجزئية التي تترابط فيما بينها مكونة فكرة كلية . الشعر الذي يخلو من الرسالة الإنسانية أو فكرة كلية هو شعر ينزل إلى دون المستوى المطلوب . إن الشعر لا تقتصر القيمة على المعنى التعليمي ، بل تتعداها إلى قوة التأثير في النفس الإنسانية ، وتلك هي غاية الأدب الهامة ..
– مقاييس نقد المعنى:
1-_ مقياس الصحة والخطأ:
التزم الشاعر بالحقائق كلها سواء كانت ذاتية أومجتمعية أو تاريخية أو لغوية أو علمية لأن الخطأ يضر بالحقيقة الشعرية ويفسد الشعر، ويخرجه من حيز الثقة والمقبولية عمد المتلقي . لقد توخى الشاعر أحمد بياض هذه الحقيقة بحذر شديد ، وهذا يعود إلى ثقافته العالية . لم نسجل على قصائد الديوان خروجها عن الحقائق الذاتية والمجتمعية الموضوعية وآلام الإنسان العربي سواء قبل ما سمي الربيع العربي أو بعده .
2-مقياس الجدة والابتكار:
ليس مطلوبا من الشاعر أن يقدم معان شعرية جديدة ، لم يسبقه لها أحد من سابقيه ، فهذا طبعا شبه مستحيل ، لكن المطلوب أن تكون للمعاني الشعرية مكانة نقدية متميزة ، أن تتصف بالجدة والابتكار.
لقد قدم الشاعر معان في غاية الأهمية بأسلوب فيه طموح الخلق والابتكار وخاصة على مستوى الصورة الشعرية والرمز والخيال .
3- مقياس العمق والسطحية:
المعنى العميق هو المعنى الذي يذهب بالمتلقي بعيدا ، بدلالات رمزية ومعنوية عالية التأثير، تستدعي إلى ذهن المتلقي معان وخواطر كثيرة ، تثيرها الرموز والدلالات السيميائية التي يستشفها الناقد من خلال المخبوءات في النصوص الشعرية . المعنى العميق يعكس موهبة الشاعر وتميزه ، وقدراته العقلية والذهنية وثقافته العالية ، تكون النصوص عميقة إذا اعتمدت التأمل الفلسفي الموشح بالحكمة التي تختزل بقدر كبير التجربة الإنسانية ، وتقديمها في عبارة موجزة .
– مقاييس نقد العاطفة:
المقصود بالعاطفة الحالة الوجدانية التي تدفع الإنسان إلى الميل للشيء أو الابتعاد عنه ، وما يتبع ذلك من حب أو كره ، وسرور وحزن ، أو رضى أو غضب ، ومن أبرز مقاييس نقد العاطفة ما يلي :
1-مقياس الصدق الكذب
الدوافع التي دفعت الشاعر لكتابة نصوصه ، دوافع حقيقية ، وليست زائفة ، تؤكد صدق العاطفة …الدوافع كلها حقيقية وتتجلي في تتبع كل قصائد الديوان المشكل عاطفة من هموم ذاتية من عمق واقعها المجتمعي المغربي والعربي ، وخاصة جروح الأمة العربية من المحيط إلى الخليج بعد النكسة العربية ، وتعاظمت المأساة بعد وقبيل ما يسمى بالربيع العربي ، لوضع تاريخي حرج تمر منه معظم البلدان سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي…وويلات التطرف والحروب الدامية ..
2-مقياس القوة والضعف
المقصود بها مدى تأثير النصوص الشعرية في نفس القارئ ، فإن هزت وجدانه كانت عاطفتها قوية ، هذا المقياس يتأثر طبعا بأمزجة الناس وطباعهم ، فمن الناس من يحب الشعر الثوري ، ومنهم من يعشق شعر الغزل ، ومنهم من يعشق شعر وصف الطبيعة…أما قصائد الديوان فلا بد أن القارئ سيجد ضالته في قصيدة تسكن وجدانه ، وتثير في عقله أسئلة فكرية ووجدانية وفلسفية عميقة …
…