23 ديسمبر، 2024 1:43 ص

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي

لجنة الذرائعية
(٨)
هل الأدب علم…؟
ظني أكيد في حيز كبير من علوم ودراسات تتناول الأدب, وأحياناً يكون محوراً لها، رغم أنه لم يكن بحد ذاته علماً، ولا سيما أن سعته التكوينية تفوق أعتى علم من العلوم البحتية الأخرى، ومبعث هذا الجفاء بين الأدب والعلم أن الأدب يلجأ نحو حقيقة لا مهرب منها، من أنه يتبنى الخيال مركزاً ومرتكزاً، وتكمن في رأيي حقيقة لابد من تثبيتها، أن العلم تبنّى الواقع، والأدب تبنّى الخيال، والفلسفة تبنّت التأمل لذلك انفرد كل منهم بأحقيّة مهمة لايمكن أن يستغني عنها الآخر، فالبعض منهم يكمل البعض، ويقف منفرداً من هذا الثلاثي العملاق …

ولو عزلنا الفلسفة عن الاثنين لأنها الأصل فيهم، وتحدثنا عن عدميّة التصافح بين العلم والأدب لوجدنا أنهما أخوة بالتبادل، مع أن العلم يعتمد على الحقائق الوضعية في بحر الواقع، وكل من الأدب أو العلم يتفرّد بما لديه من اهتمام، ومن هنا تعوّض علوم أخرى بالنيابة عن غياب البحتية العلمية في مكنون الأدب، وتساهم تلك العلوم بدراسة الأدب لأهميته الإنسانية في مسيرة الحياة، ومع اهتمام تلك العلوم في دراسة الأدب إلا أننا نلاحظ اختلافاً وتصادماً بينها, وهذا شيء طبيعي في الحقل المعرفي، فالالتقاء والاختلاف في إرساء الجوانب المعرفية فوق أعمدة رصينة أمينة هو أمر طبيعي…

و يبتعد الأدب عن العلم بالذاتية والمكنون, لكون أهم عنصر في الأدب هو العمق الأدبي, والعمق الأدبي هو سفر جميل في الخيال والرمز، لذلك يكون للأدب تصافح مع علم يرتكز عليه ارتكازًا كليّاً بسياق التعبير اللغوي، و من تلك العلوم والدراسات كما يراه أنريك أندرسن أمبرت بقوله: إننا نختار ما بين كل الجوانب التي تقدمها دراسة الأدب، جانباً واحداً (هو النقد) وله تخضع البقية، لأننا متخصصون في هذا الحقل العلمي، وكل بقية العلوم مهما كانت أهميتها، سوف تأخذ مكاناً هامشيا” ([1]) . ولكنني اختلف مع هذا الرأي بسبب تعلق الأدب بكثير من العلوم والدراسات بشكل تبادلي . ومن أهم تلك الدراسات :

الدراسات والعلوم التي تتناول الأدب

١-الدراسة النفعية:

وهي الفائدة التبادلية بين الأدب والعلوم الأخرى، فكل علم من تلك العلوم يحفظ الأدب بين جنبيه، وسيلة تنقله إلى عوالم أخرى وإلى الأذهان, فهو لم يدرس الأدب لكنه لا ينفصل عن الأدب لأي سبب كان، ما دام الأدب يكون أحد شرائحه التكوينية.

إن التحدث عن مكونات العلوم من حيث القوة والضعف والنجاح والارتقاء والفشل والغوص في إبداع كل عنصر علمي، هو استخدام أدبي للنقد دون المساس بالأدب والنقد، فالعلوم لا تدرس النقد أو الأدب بذاته, بل تنتفع منه نقدياً وتواصلياً لتمرير مكوناتها في أثير النقل والإعلام, وانتشار المعارف وتوسيعها….

فالعلوم مثل التاريخ وعلم الاجتماع واللغة والتربية، تقوم بنفسها كخادم للأدب, ولا تجرؤ أن تعترض على سيدها الأدب, وبنفس المضمار يكون هو خادم لتلك العلوم لأنها تدرسه في تكوينه اللغوي والسردي والتعبيري و التناقض بين مكوناتها من حيث القوة والضعف والنجاح والفشل, وتلك هي النفعية بين الأدب والعلوم بشكل مقتضب…

٢-الدراسة الفلسفية:

وتلامس الفلسفة الجانب التنظيري في الأدب حين تحتل نظرية الأدب حيزاً كبيراً منه, فهي تدور في نطاق فلسفي بحت يخص علم الجمال، ونظرية التجنيس التي تهتم بهوية الأجناس الأدبية وتصنيفها تاريخياً وجنسياً، ومع تعشّق الفلسفة مع الأدب بتلك النظريات الفلسفية، لكنها في النتيجة لا تعطي أي رأي في أي موضوع معين يخص الأدب، لكنها تلقي الضوء على بعض المشاكل الفنية في الأدب, وطبيعة الأدب وأساليبه, والآراء والطبقات والأشكال والوظائف والتعبير الجمالي فيه، وقد عوّض التنظير عن الفلسفة في الأدب، وقد وجد أن الفلاسفة والمنظّرين هم الذين يكمّلون مناهجهم الفلسفية في الأدب من خلال التأملات, أمثال أفلاطون وأرسطو وهيكل و برجستون ومارتين وهيدجر وسنتيانا وأرتيجا….

٣-الدراسة الثقافية:

يعتمد الأدب على كثير من العلوم، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ منه كعلم النقد والجمال والبديع والبيان، الفونولوجيا والصوت ….وبقية العلوم الأخرى يخدمها الأدب كوسيط لغوي ونقدي، لكون الأدب يشكل الجانب الثقافي للإنسان في الحياة ومن تلك العلوم :

· علم التأريخ:

والتاريخ هو استحضار لصور الماضي الإنساني، فإذا بنينا هذا الماضي بالكتابة التي تعبر عن تجاربنا الشخصية، يصبح لدينا تاريخ أدب، وهو تفسير للوقائع التي أثرت في تكوين الأدب على امتداد القرون، والأدب هو النتاج الإبداعي في اللغة، و هو الخــَــلــْـقُ الخيالي الذي تؤلف اللغة مادته التعبيرية وطبيعته التكوينية، وهو جزء لا يتجزأ من الفن، مع العلم أن الفن: هو خلق عوالم خيالية للإنسان تعبر عن هواجسه وخلجاته وتصوراته عن الكون والمجتمع و يتضمن الفن ُ :

1. موسيقى إذا كانت مادته أنغاماً.
2. تشكيلي إذا كانت مادته الأبعاد الثلاثة والألوان.
3. أدب إذا كانت مادته اللغة.

وتعددت العلوم التي تدرس الأدب من حيث كونها ظاهرة إبداعية فنية بحسب الزاوية التي تتناول بها هذه العلوم الظاهرة الأدبية، تبدو حال الأدب شبيهة بحال غيره من الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية من حيث حاجته إلى حقول وميادين علمية تفسر إشكالاته وتصف طبيعة تكويناته وطرق إنتاجه وتــلقيه وتتناول تاريخه، أيضاً، فالعلوم التي تدرس الأدب من حيث كينونته كظاهرة إبداعية فنية ([2] ) وهي :

· تاريخ الأدب :

هو حقل علمي يختص بدراسة الأدب من حيث كونه ظاهرة زمانية قد مرّت من مرحلة إلى أخرى، يتحول فيها الأدب إلى مظاهر ووظائف تكوينية مختلفة من حيث الأهمية كالتي ترافق عناصره، وأهمية عناصره وأشكاله ومضامينه ذاتها، وتكمن وراء تلك التحولات والتغيرات الأدبية، أسباب اجتماعية وبيئية وسياسية وثقافية، و يقوم مؤرخ الأدب بدراسة هذه التحولات وأسبابها حسب الأمثلة المستوحاة من ذلك وهي :

1. دراسة الأسباب ومعرفة أثرها في هذه التحولات الأدبية, إذ يقوم بوصفها بأمانة ويحاول تفسيرها بردها إلى العلل والأسباب الكامنة ورائها.

2. يقوم المؤرخ بذكر الاتجاهات والمذاهب الأدبية وربطها بعصورها وبيئاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وطبيعة هذه المذاهب من حيث النشأة والخصائص, وأبرز أدبائها وكتابها كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها من مذاهب الأدب ومدارسه.

ومن أمثلتها :

1-تغير القصيدة من كونها متعددة الأغراض والموضوعات في العصر الجاهلي إلى قصيدة ذات غرض واحد في العصر العباسي. وغرض إنساني في عصرنا هذا….

2. تغير طبيعة النظم والأوزان والتصوير الأدبي. وظهور أجناس جديدة في الشعر كجنس قصيدة التفعيلة والنثرية والثلاثية وو…

3- نظرية الأدب ونظرية الأجناس الأدبية:

وتسمى هذه النظرية بـ ( النظرية الأدبية ) حيناً و( الشعرية أو الشعريات ) أحياناً أخرى، وتعرّف بأنــّـهـا : حقل مهم من الحقول التي تهتم بالظاهرة الأدبية. وتتناول النظرية الأدبية القوانين والأعراف الأدبية, فضلا ًعلى الأجناس الأدبية، وقواعدها النوعية, فهي لا تبحث في النصوص المعينة, وإنــَّـما تبحث في المسائل المجردة العامة، لقد كان لهذه النظرية تاريخ طويل من الجدال والنقاش في طبيعة الأدب ومنذ عهد الإغريق, فـ ( أرسطو طاليس ) الفيلسوف الأغريقي قد وضع نظرية ً عامة ً في تفسير الأدب على أنــّـه تقليد ومحاكاة للطبيعة, ومن ثم ّ توالت النظريات المختلفة إلى يومنا الحاضر, ومحتوى النظرية التي وضعها أرسطو طاليس في تفسير الأدب : أنّ الأدب تقليد ومحاكاة للطبيعة .

· علم الجمال والبلاغة والأسلوبية :

علم الجمال : هو واحد من العلوم التي تتناول الأدب من حيث إنّ الأدب يمثل واحدا ً من الفنون التي يبدعها الإنسان للتأثير الجمالي في الــقــُــرَّاء، بالرغم مِـن ْ أنّ علم الجمال قيمة من القيم, إلا ّ أنـــّـه ُ يدخل في العلوم الأدبية, وذلك لـِـكشفهِ عن الآثار التي يتركها النصّ الأدبي على قــرائِـهِ ومستمعيه جمالياً، وقد نشأ علم الجمال في رحم الفلسفة الحديثة منذ القرن السابع عشر على يد الفيلسوف (بومغارتن ) وتطور هذا العلم على يد الفيلسوف ( عمانوئيل كانط ).

أما علم البلاغــة : هو علم ٌ قديم يتناول النصوص الأدبية من حيث طبيعة الاستعمال الجمالي اللغوي من بيان وبديع وخيال, واستعارات ومجاز وتشابيه وطباق وجناس وتورية, وما إليه من محسنات بديعية وبيانية أخرى، وفيهِ تــُـدرسُ تلك الأنواع الجمالية من المجازات والاستعارات والكنايات وسواها.

أما الأسلوبية : هي علم يعد تطويراً لعلم البلاغة نشأ في العصر الحديث, يدرس بهِ الباحثون النصوص الأدبية في مستوياتها اللغوية المختلفة, وهذه المستويات هي : ( المستوى الصوتي – المستوى التركيبي – المستوى الــدِلالي )….

· علم السيمياء :

الســيــميــاء : هو حقل علمي يرتبط بدراسة العلامات أيــَّــاً كانتْ هذه العلامات وأنظمتها, ومنها : العلامات اللغوية والأدبية، هذا العلم قديم في تجاربه, حديث في اصطلاحاته وتنوع مجالاته. اهتم به القدامى من عرب وعجم منذ أكثر من ألفي سنة. وقد سُمي بأسماء عديدة منها: علم الإشارات, السميولوجيا, السميوطيقا, علم العلامات, علم الأدلة. كل هذه التسميات تعني ذلك العلم الذي يهتم بدراسة حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية. واللسانيات تعتبر جزء منه, لأن السيميائية تدرس العلامة اللغوية, وغير اللغوية, واللسانيات تدرس العلامة اللغوية فقط. يرى بعض الباحثين أن السيميولوجيا, والسميوطيقيا لفظان مترادفان, والبعض يرى أن السيمولوجيا تختص بالتصور النظري وهي بذلك لفظة عامة, أما السيموطيقيا تعني الجانب الإجرائي التحليلي, وهي بذلك منهج تطبيقي.

اختلف كثير من الباحثين في الأصل الذي تولدت منه هذه اللفظة, فمن منتصر للنشأة العربية, وآخر للنشأة الغربية، فالذين انتصروا للأصل العربي ربطوا نشأتها بالدراسات التي بدأت عند الفارابي والحاتمي، وابن سينا، والبوني، وابن خلدون، والغزالي، والجرجاني، والقرطاجني، وغيرهم. والذين رأوا أن نشأتها غير عربية ربطوها بالدراسات التي بدأت عند أفلاطون عندما أكد أن للأشياء جوهرًا ثابتًا، وأن الكلمة أداة للتوصيل، وبذلك يكون بين الكلمة ومعناها، أي: بين الدال والمدلول تلاؤم طبيعي .

وقد أوجد هذا العلم وطوره في العصر الحديث عالم اللغة السويسري ( فردينان دي سوسير) والفيلسوف الأمريكي ( شارل ساندرس بيرس )، ومِـنْ أهم هذه التصورات التي تقدمها مدارس السيمياء المختلفة,هـي :

1. سيمياء الدِلالة : تتناول النصوص الأدبية في عوالمها الدِلالية الخاصة.

2. سيمياء التواصل : تتناول الأدب في علاقته بكل ِّ من مقاصد المؤلف والقارئ بوصفِ الأدب ميدانـــــاً للتواصل والتبليغ بين الناس.

3. سيمياء الثقافة : والتي ترى في الأدب نظاماً من العلامات داخل ثقافة أشمل منه هي ثقافة المجتمع الذي ينتج الأدب ويتلقاه ويستهلكه.

· علم الاجتماع:

وهو دراسة العلاقات الاجتماعية وتعايشها في المكان والزمان لأي مجتمع على الأرض، وعلم الاجتماع ينظر بعين الاعتبار نحو ميراث التاريخ، ولكن بمنظور مختلف، فهو يبحث عن الأشكال التي تتكرر, وكما يوجد في نطاق علم التاريخ العام, تاريخ أدب، يوجد في نطاق علم الاجتماع العام، علم اجتماع أدبي، وهذا العلم الاجتماعي الأدبي، يختلف عن التاريخ الأدبي أكثر من أنهما يتحركان في الحقل نفسه، لأن مجال علم الاجتماع ينصب في مؤشرات الأحداث المتداخلة بين جميع الأفراد الذين يشاركون في الحياة الأدبية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ففي النهاية غايته الحياة الاجتماعية الأدبية وليس الأدب . ويتركب علم الاجتماع من:

· المكان الذي يحتله الأدب في مجتمع معين

· استهلاك الأدب

· نظام الحياة الأدبية

· التأثيرات على الحياة الأدبية

· وظيفة الحياة الأدبية

· علم اللغة واللسانيات:

لقد اعتبر العربُ اللغةَ ظاهرةً مقدَّسةً، وسمةَ انتماءٍ لجلدتهم، وتأمُّلاتهم وديمومتهم الحياتيةِ، ولارتباطِها العضويِّ بالنص القرآنيِّ، صاحبِ القدسيَّةِ, لكون اللغةَ جوهر مكمنه مكوناتِ الإنسان، فهي ترتبط به جَذْريًّا في الأصل والتجزئة، من حيث النظرة الفلسفيَّةُ الإسلاميَّةُ لتفسير مشكلاتِ الإنسان العربيِّ التي تتبلور في الذِّهنيةِ العربية من خلالِ المنظورِ اللُّغويِّ، لمعرفة أسرارِها وفكِّ رموزها المشفرة، وربطِها بالنَّظرةِ الفلسفيَّةِ الكونيَّةِ، في الرُّؤيةِ والخِطاب العربيِّ، اتضحت المسألةُ اللُّغوية بشكل جلي في المُنجَزِ التراثيِّ العربيِّ الكبير, من كتاباتٍ باللُّغة وعلومِها المختلفة، فتميزت اللغة العربيةَ بقدرةٍ لغويةٍ اتصاليةٍ بهذا التنوُّعِ والثَّراءِ والعبقريَّةِ السيكولوجية في تركيبِها وأدائِها….

تعريف اللغة:

هي قدرة الإنسانُ العضوية على النُّطقِ واللَّفظِ، للتعبير بها في كلُّ أمَّةٍ عن علومِها، و كلُّ شخصٍ عما يجول في ذاته وعقَله. يقول ابن جني في كتابه “الخصائص”، باب القول على اللُّغة: “أما حدُّها فإنَّها أصواتٌ يعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم”([3])وإذا كانت هذه هي معانيَ اللّغةِ منطوقةً, فاللُّغةُ المكتوبة هي الإعرابُ عن هذه المعاني وبنائِها برموز “علامات تدلُّ عليها”، الحروف المتجمعة في كلماتٍ أو مفردَاتٍ ثم عباراتٍ[4] وجمل… “.

هذه التَّعريفاتُ التي قدَّمها العربُ تشيرُ إلى أكثرِ الدَّلالاتِ الحديثةِ أهميَّةً ذِّهنيةُ واتصاليَّةُ ووظيفيَّةُ, نظرًا لارتباطِ اللُّغةِ بعلوم مثل علم النَّفسِ والفلسفةِ وغيرِها من العلوم، وانفرد علمُ اللُّغةِ بقوانينَ علميَّةٍ خاصةٍ به، بظهور علماءَ لِسانيِّينَ، أمثالَ: “دي سوسير وبلومفيلد وسابير وتشومسكي”( ([5] وغيرِهم، ظهرت معهم اللِّسانياتُ الحديثة، خاصة الأدبيَّةَ منها،التي تبحث بالعَلاقاتِ القائمة بين اللِّسانيَّاتِ والأدبِ والنَّقدِ والسِّيميائيات, لتساهمَ في بناءِ صيغةٍ علميَّةٍ دقيقةٍ للنَّقدِ الأدبيِّ‏‏، باستخدام الأسلوبِ العِلميِّ، “التجريب والاستقراء”…..

اللسانيات الحديثة:

فقد عُنِيَت اللِّسانياتُ الحديثةُ ([6]) “البنيوية” بتطبيقِ المنهجِ الوصفيِّ في دراسة اللُّغة, على أنَّها وِحداتٌ صوتيةٌ (phonemes ) تتجمَّعُ لتكوِّنَ وحداتٍ لغويةً(morphemes)، أو كلمات (words) إذا ظهر منها المعنى, ومن ثم عبارة عن تراكيبَ وجُمل(syntax) في سياق، وما عُرِفَ بنظرية البِنيوية التَّحويلية والتوليدية عند تشومسكي، والنَّظرية السُّلوكيَّة في اللُّغة عند

بلومفيلد، على فَهم اللغة أنها نظامٌ، ظاهرة اجتماعية تُعنى بالتَّواصلِ والتَّفاهم المتبادَل، وتقسيمها إلى:

-• لسانيات لغوية:

تبحث عن الصَّوتياتِ “التركيب – القواعد – المعاني – بِنية الدلالة”، وهي ‏تتعلَّقُ بقدراتٍ خاصةٍ بالإنسان، كالنُّطقِ والتذكُّرِ والإبصار والتفكير، وتتوقَّفُ على العواملِ الفسيولوجيَّة.

• – لسانيات تطبيقية:

تبحث عن وظيفةِ اللُّغة وعَلاقاتِها العِلميَّةِ والتربويةِ تتعلَّقُ بما يمارسُه الإنسانُ من أعمالٍ، وما يحيطُه من بيئةٍ، وتتوقَّفُ على العواملِ البيئيَّةِ.

-• لسانيَّات اجتماعيةٌ:

تبحثُ في العَلاقةِ بين اللُّغةِ والمجتمع، وباحتياجاتِ الإنسانِ إلى التواصلِ مع من حوله, وبنوعِ ومستوى المعرفةِ المتاحِ، والسِّياق الذي تُستخدَم فيه، وتتوقَّفُ على العواملِ الاجتماعيَّةِ.

-• لسانيات الأنثروبولوجية:

تبحث الصِّلةَ التي تربط اللغةَ بالإنسانِ، تتعلَّقُ بنوع المنطقِ الذي يحكُمُ العلاقاتِ بين مكونات اللُّغةِ، من أصواتٍ أو علامات مرقومةٍ مكتوبة، وبالمعاني المطلوبِ توصيلُها, ونوع ومستوى الثَّقافةِ السَّائدة في المجتمعِ، وهي عواملُ ثقافيَّة فكريَّة. إضافة لمفهوم التَّرابُطِ في المنظومةِ اللُّغوية، ووحدة المنطقِ النَّحويِّ الذي يحكُمُ هذه اللغة، باعتبارِها أصواتًا منطوقةً، تعبِّرُ عن الغرضِ المراد، ولكونِ اللُّغةِ هي الوظيفةَ الرَّمزيةَ العقليَّةَ التي يستطيعُ بها الإنسانُ شرحَ أفكارِه، فمِنْ غيرِ الممكنِ تصوُّرُ عمليَّةِ التفكيرِ، في غياب هذه الرُّموزِ المكونة من مفردَاتٍ، وأنَّ الكلماتِ التي تقوم بوظيفةِ وحداتِ الفكرِ البشريِّ، هي الوسيطُ الذي نشرحُ به أفكارَنا وآراءَنا، ونطرَحُ رُؤَانا المختلفةَ، وخطابنا المَعرفِيّ بيننا وبين الآخَرِ، نؤثِّرُ، أو نتأثَّرُ بحُكْمِ أنَّنا مخلوقاتٌ اجتماعيةٌ، فاللُّغةُ عاملٌ من عواملِ الانطلاقِ الثَّقافيِّ التي فتَحت الطَّريقَ نحو عمليَّاتِ الإدراكِ منذ نشأتِها، والتحمَتْ بالخطابِ الثقافيِّ وتجلِّياتِه المتنوعةِ.

تظلُّ الإشاراتُ، كإشاراتِ الصُّمِّ والبُكْمِ، تعبيرات الوجه، إشارات المرورِ وغيرها، مما تُعَدُّ علاماتٍ لغويةً، تستخدم الإشارة لغرضِ نقلِ المعلوماتِ، لكنَّها تستلزمُ وجودَ وسيطٍ لها، تختلفُ عن اللُّغةِ التي هي نظامٌ من العلاماتِ، يُعنَى بارتباطِ اللفظِ بالمعنَى أو ارتباطِ الدَّالِّ بالمدلولِ، منتميًا لصورةٍ ذهنيَّةٍ في الواقعِ، مثل كلمة: كتاب؛ أي: “الكتاب” كصورةٍ ذهنيَّةٍ….

وإن كان علمُ اللِّسانيات النَّفسيُّ يدرِّسُ العملياتِ العقليةَ للفهمِ والإدراك بأدواتٍ مستقاةٍ من اللِّسانياتِ، أوضح أنَّ استخدامَ اللُّغةِ يتأثَّر بعملياتٍ عقليةٍ غيرِ مباشرة، تطرح أسئلةً، يحاول الإجابةَ عنها، من بينِها: كيف يكتسبُ الإنسانُ اللغةَ، ويُنتِجُها، كيف تتأسَّس وتتطوَّرُ، ويتمُّ فهمُها باستخدامِ الدَّلائلِ….؟

وقد سبق فقهُ اللغةِ في التراث العربيِّ اللِّسانياتِ الحديثةَ من حيث اهتمامُه بالمقارنةِ بين اللُّغاتِ المختلفةِ، وهو يعني: العلمَ بالشيءِ والفهمَ له، “الفقه” بمعنى الفهمِ، فهم الكلمةِ، اصطلاحيًّا، وهو يُعنى بدراسةِ القضايا اللُّغويةِ، من حيث الأصواتُ والمفرَداتُ في خصائصِها الصوتيَّةِ والدلاليةِ، فالكلمة في اللغةِ العربيَّةِ هي الوحدة اللُّغويةُ الصغرى القابلةُ للإعرابِ، من خلالها تتكوَّنُ الجُمل، وجميع الكلماتِ في العربية هي كلِّيَّاتٌ بذاتِها، لكلٍّ منها دلالاتٌ عديدةٌ، بحسَب السياقِ الذي توجد فيه، بعددٍ محدودٍ من الكلماتِ ينتِجُ ما لا حصرَ له من الجُملِ المفيدة، من خلال تقلُّباتِها وتشكيلاتِها المختلفةِ، بينما تكون الوحدة الأساسيةُ في الكلامِ منطوقًاً أو مكتوبًا هي الجملةَ، بصفتِها قولاً مفيدًا…..

ومن أبرزِ علماء العربيَّة الذين وضعوا مصنَّفاتٍ في علوم اللغة: الخليل بن أحمد الفَرَاهيدي – سِيبَوَيْهِ – الأصمعي – ابنُ جِني – السيوطي – ابن فارس – وغيرهم، قاموا بالتَّعاملِ مع لهجاتِ القبائلِ الحضرميَّةِ والنَّجديةِ, للبحث عن جذورِ الكلمةِ ومواضعِها، وعلى ما أراد لها من وظيفةٍ بِنائيَّةٍ في الجملةِ، مع تقديم ملاحظاتٍ نوعيَّةٍ، ترقى لمصافِّ البحثِ العلميِّ المتخصِّص، وإنما ذُكِرت على أنها مفاهيمُ واردةٌ في كتب علماءِ العربيَّةِ من نحاةٍ وبلاغيِّين، دون أن تأخذَ حقَّها في الضبطِ العِلميِّ، رغم اتِّصالِها النقديِّ بالنُّصوصِ الفنِّية والأدبيَّةِ، وأهميَّتِها العلميَّة ([7] ) حيث تَتْبَعُ أهميَّةَ المنجَزِ الثقافيِّ العربيِّ.

4- الدراسة النقدية :

النقد الأدبي : هو أهم العلوم الأدبية, نشأ وتطور مع نشوء الأدب وتطوره، وهو الأقرب من بين العلوم الأدبية للنصّ الأدبي من أيِّ نوع ٍ كان، قصيدة أو مسرحية أو قصة قصيرة أو رواية أو قص قصير أو خاطرة، ويولي ذلك النصّ اهتمامه بالتحليل والفحص والوصف باحثًا عن مظاهر الجودة والإبداع والابتكار الأدبي، أو كاشفًا عن مواطن الخلل والضعف والركاكة في بناء الأعمال الأدبية, ليحكم على النص من جهة روعته أو من جهة ضعفه، وللنقد الأدبي في ذلك التحليل والفحص والتقويم مدارس واتجاهات مختلفة متباينة, فضلا ً على أنّ تاريخه يعود إلى أزمنة متقادمة للعرب، نقد ونقاد منذ عصر التأليف لديهم، فتناول النقاد العرب النصوص الأدبية -وغالبا ً ما كانتْ قصائد شعرية- فحلّلوها وحكموا عليها بالجودة أو الضعف ووضعوا في ذلك كتبًا مهمة مثل كتاب : ابن قتيبة الموسوم بـ ( الشعر والشعراء ) وكتاب : أبي هلال العسكري : الموسوم بكتابِ ( الصناعتين )، وقد تقدّم علم النقد في عصرنا الحاضر, وقد عمته النظريات والمناهج والآليات والمذاهب حتى تجاوزت السبعين في العدد, والمذكورة فعلًا في موسوعة النظريات الأدبية للدكتور نبيل راغب، ومن المناهج النقدية الحديثة، المنهج النفسي – المنهج التاريخي – المنهج البنيوي – وما يسمى بالنقد الثقافي … وغيرها من المناهج الحديثة والتفكيكي وآخرها المنهج الذرائعي….

النص والنقد:

اللغةُ: سياق ومعنى يحكمها نظامٌ، لها منطقُها الخاصُّ بها، بمنظومتها الداخلية، ويُفهَمُ من ارتباط منطقِ اللُّغة – فهي تعطي المعنى بين اللَّفظِ والعقل – من خلال ارتباطُها الوثيقُ بواقعِها، بحكمِ اقترانِه بالخطابِ الاجتماعيِّ، بروابطَ ضروريَّةٍ، تجعلُ منها نسَقًا مفتوحًا على مناطقَ عديدةٍ من احتمالاتِ الفهمِ والتَّأويلِ، فاللغةُ إدراكٌ عقليٌّ، منطقيٌّ، بين التَّحليلِ والتَّركيبِ النقدي، ويحكمها نقديًا التحليل والتفكيك والتشريح والتفسير الثابت Static)) والمتحرك(Dynamic)، فهي تقع بين استاتيكية التكنيك وديناميكية التعبير, وهما جوهرُ المنطقِ اللُّغوي حسب نظرية الإدراك …..

أنَّ النص العربي يختلف كثيرًا عن نصوص اللغات الأخرى، فهو يحملُ قيمةً فكريَّةً وفنيّةً بديعةً لأمة ذات خصوصية اجتماعية وفكرية وروحية، في الشكل والمضمون ويختزن التسابق بينهما، مرة يتفوق الشكل, و بأخرى يتفوق المضمون, وفي حالات كثيرة يحدث التوازي بينهما، وكذلك منطقيَّةً الأداءِ الفكريِّ المرتبطِ بالواقعِ، ومع قدرة اللغة العربية الفائقةِ على التخيُّلِ وتوليد الدَّلالةِ، باعتبارِها لغةً خلاَّقةً، تتكوَّنُ من عناصرَّ محدَّدة، تنتجُ تركيباتٍ وجُملًا لا نهايةَ لها، من احتمالاتِ مؤجلة بالتأويل, نظرًا لطبيعتِها الخاصَّةِ المشترَكة بين اللَّفظ والمعنى الذرائعي, ولأنَّها تنبع من مستوياتِ التَّحليلِ اللُّغويِّ، البنائي، “كتحليل الأصوات، والتراكيب، والألفاظ بدوال ومدلولات تشير إلى مفاهيم خاصة وعامة بحالات مؤجلة في أوضاع اجتماعية غير قابلة للعد، محدد بالتكوينات التركيبية المنتهية بالسيمانتك، حين يسلم راية التحليل للمجال البرغماتيكي المترع بالاحتمالات، بشكل تبادلي، وأحيانًا تكميلي، فاللغة العربية لها خصوصية مختلفة تمتاز بها، فهي مجموعةٌ من العَلاقاتِ اللُّغويةِ، تنبع أهميَّتُها في إنتاجِ المعنى، وإعادةِ إنتاجِه متتابعاً بالسياق، مركَّبةٌ من دالٍّ ومدلولٍ، تعنَى بالكلِّيات…

وقد ارتبط ذلك بالعمليَّةِ النَّقديةِ اللُّغويةِ بصفة النَّقد يعمل بالمفاهيم الكليَّةِ، فكلٌّ من اللُّغةِ والنَّقدِ يلازم كلٌّ منهما للآخَرِ، فمعرفةُ الفَرق بين الصِّفةِ والحال تبدو واضحةً في “جاء الرَّجلُ السَّعيد، جاء الرَّجلُ سعيدًا”….وهكذا حين يشار للمفاهيم العابرة للدال والمدلول نحو المفاهيم المؤجلة التي لا تحددها حدود، وهذا المثال عابر للبنيوية بغطاء ذرائعي لا يختص باللغة أكثر من المعاني الإنسانية المتعلقة بقضايا المجتمع بذريعة النقد عرّاب المجتمع, وليس اللغة, لكونه جزءًا منها….

[1] — أنريك أندرسون آمبرت – مناهج النقد الأدبي – ترجمة د. الطاهر أحمد مكي

[2] – نفهس المصدر السابق

[3] – ابن جني في كتابه “الخصائص”، “باب القول على اللغة “.

[4] – دائرة معارف القرن العشرين دائرة معارف القرن العشرين

[5] – اللسانيات: دراسة علمية للغات البشرية من خلال الألسنة الخاصة بكل قومٍ، تشمل: الأصوات اللغوية، التراكيب النَّحْوية – الدلالات والمعاني اللغوية – علاقة اللغات البشرية بالعالَم الفيزيائي الذي يحيط بالإنسان.

[6]- البنيوية: منهج فكري وأداة للتحليل، تقوم على فكرة المجموع المنتظم، اهتمَّت بنواحي المعرفة الإنسانية، في علم اللغة والنقد الأدبي، خاصة مفهوم اللغة صوت ومعنى، وعلى النظرية اللغوية أن ترصدَ المبادئ والقواعد التي تُعنى بالرَّبط بين الأصوات والمعاني.

[7] – مثل كتاب سيبويه في النحو العربي، وما له من أهميَّة علمية، وكثير من المعاجم والمؤلفات في الألفاظ والمعاني العربية، وفقه اللغة، وعلم المعاني وغيرها من علوم العربية.كتب النحو والتجويد والبلاغة وتفسير القرآن ودواوين الشعراء