(١)
هل النقد انشاء ، أم الإنشاء نقد…!؟
يوماً، حين خضت غمار علم النقد بعد اطلاعي على نقود الآخرين، ودفعني الفضول حينها، و ما يقال : أن النقد علم من علوم الأدب، قائم بذاته…تساءلت : أين العلمية في تلك المقالات النقدية الإنشائية المنتشرة في سوق النقد ، وهل النقد إنشاء أم أن العلم صار إنشاءً…!؟… والعجيب بالأمر، أن أصحابها ينعتونها (بالدراسات) النقدية ويوسمونها بأسماء رنانة وبمصطلحات غريبة، ويدخلون عليها كلمات أجنبية ليس لها صلة بما يكتبون، لا من قريب ولا من بعيد، وتحتل الصحف والمجلات والمواقع العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولو سألت أحدهم : ما مدرستك النقدية التي تحلل عنها ….؟ …يجيبك فوراً، الانطباعية !! ولا أدري لماذا جعلوا المنهج الانطباعي إنشاءً….؟!؟… وبدأت أقرأ كل كتاب نقدي يقع بين يدي لثلاث سنوات لأدرك شيئاً عما يدور، و ثبت لي بالبرهان القاطع :
أولاً : أن النقد علم واسع وهو أهم العلوم البحتية التي تحتضن الأدب, والعراب الحنون للأدب ، فلا يظهر اصطلاح أدبي إلا من رأس قلم نقدي، لذلك يتوجب اتباع الطرق في تطبيقه ليصطف مع العلوم البحتية الأخرى كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والعلوم و التي تطبق بطرق علمية عديدة و مختلفة….
ثانياً : إن علم النقد هذا ليس له صلة بما يكتب بعض نقادنا من قطع إنشائية تائهةٌ، تقوم بتعقيد النص أكثر من توضيح الظواهر الأدبية المتخللة لمفاصله حد القاع، تلك الكتابات هي إساءة وتجني على هذا العلم الكبير وأغلبها مترعة بأقوال لأسماء أجنبية….قال فلان وقالت فلانة، وكأن التحليل النقدي هو أقوال للآخرين دون النص …و اتضح لي أيضاً, أن نزوح نقادنا نحو الإنشاء، مبعثه صعوبة هذا العلم المرتكز على الفلسفة ارتكازاً كلياً، لكون اللغة التي ينشأ منها الأدب العربي لا تحلل بعمق، إلا عن طريق علم مبني على التجذير الفلسفي من دال ومدلول ومفهوم, وهذا مازاد النقد صعوبة، وصار عصيّاً على مدركيه، فهو يحتاج من يدرك العلاقة الوثيقة والفرق بين العلم والفلسفة، والمفردة والمصطلح النقدي, والنص والجنس والعمل الأدبي, وذاك ما يحتاج بحثاً وتقصيّاً وقراءة مستفيضة، ثرة، عن هذا العلم الكبير الواسع …..
ساحتنا الأدبية مترعة بالمصادر المترجمة لأي كلمة قالها أجنبي، لأننا شغوفون وعشاق لما يقوله أي أجنبي، ونصادق عليه بعشرة أصابع حتى وإن كان كفراً، أو صاحبه أميّاً ولا يحسن حتى كتابة اسمه، ولا يمت بصلة للأدب والعلم، أما إذا كان القائل عربياً ستحل علينا الشطارة ويلتهمنا الحرص، ونكون جزءاً من عاصفة هوجاء من البحث والتقصّي حول ما قال، لا لمساندته بل لإحباطه، ونجنّد كل طاقاتنا للبحث والتقصّي حتى نثبت سفه ما يقول، إيماناً منّا بالمبدأ العربي العظيم (مغني الحي لا يطرب )، حتى وإن كان صاحبنا أفضل المطربين، وقيل فينا-ونحن نستحق هذا القول- أننا ندفع بالناجح منا حتى يقع في الهاوية، وإن لم نجد له هاوية نحفر بأظافرنا عشرات الهاويات، ليقع في واحدة منها، لنتخلص منه ومن نجاحه المزعج ….!؟ وهذا ما عانيت منه أنا شخصياً من أقرب الأصدقاء, وأبعد الآخرين عن معرفتي، هذا الفعل ولّد سؤالاً كبيراً في داخلي : هل أننا نريد أن نثبت لأنفسنا أننا لا نفكر، وإنما نترك التفكير حكراً للأجنبي؟ ونحن نترجم ونصفق ونطبل له فقط …..!؟….وإجابة هذا السؤال حيرتني وشكلت رأياً شخصياً في داخلي لما لمسته بيدي، قد أكون على خطأ، وأتمنى أن أكون كذلك لأدحض صراحتي الوقحة، التي تلبّست بما عانيته واقعاً ملموساً، ولو تكلمت على ما لمسته من الأصدقاء الأجانب عنا، لخرجت عن المألوف وحتى من أرديتي…!؟!
ثالثاً : أدركت أيضاً، أن ما يكتب ليس نقوداً، بل هي تعليقات نقدية وآراء إن احتلت صفحة واحدة ونصفها أو ما زاد عليها، أما الصفحتان فهي تقرير نقدي، وما تجاوز الخمس صفحات فهو مقال نقدي، وعيب أن ننعت ذلك بالدراسة النقدية كما يفعل البعض من نقادنا، ولسبب بسيط، أن الدراسة النقدية ترتكز على منهج نقدي أو نظرية يحتل اسمها العنوان باعتمادية وأعمدة علمية تميز تلك النظرية بالتحليل أو الدراسة والتقصي و البحث… كذلك تحتاج الدراسة النقدية إلى إغناء بحثي للأمور التي تتناص مع ما يوازيها معرفة من بطون النص، في نصوص الآخرين، التي كتبت في موضوع البحث أو حوله، وهذا يحتاج تسميةَ المصادر التي يتناص معها النص, أو أسماء الأشخاص الذين تناص معهم الكاتب, وبشكل بحثي علمي, وهذا إغناء للنقد وحق مشروع للأديب على الناقد…
رابعاً – إن استمرار تلك الفوضى هدمت- وستلحق الباقي من أركان الأدب- بمعاول الإسفاف، ونشرت وستنشر الفوضى فيه والادعاء والتشدق والجهل والتخلف الأدبي، كما نراه الآن، وستفرز تلك التصرفات سلبيات في الأدب والنقد معاً نجملها بما يلي:
١- مادام النقد هو السلطة الحاكمة في الأدب، فإن انسحابه من الساحة الأدبية يمكّن الإسفاف والتعدّي وعدم الضبط من الانتشار بشكل واسع، وهذا الحال حتماً سيضيّع الرصانة, وينشر الجهل والتخلف الأدبي…
٢- ومن جهة أخرى، سينتشر الفقر الأدبي، بين أصحاب الأقلام ويبدأ الانزياح نحو السطحية الأدبية والخروج من العمق والرصانة نحو القصير جداً والومضة، والانسلاخ من خيمة الأدب العربي المترع بالعمق والإبداع نحو تمجيد أجناس أدبية أجنبية بسيطة، لا تنتمي لمجتمعنا أو ديننا، مثل الهايكو وغيره من الأجناس الغريبة… وهذا حدث فعلاً، ولم نكتفِ بفوضى السريالية وانسلاخها عن الواقع وانغماسها بالغموض حد الظلمة، بل رحنا نمجّد حرية النص بكسر الطوق الأخلاقي وتخريب الخلفية الأخلاقية للنصوص الرسالية بذريعة الأدب جزء لا يتجزأ من الفن ، والفن لا حدود أخلاقية فيه حسب راي اصحاب الحداثة….!؟
نسي العرب أنفسهم وأخلاقيات أدبهم ومعلقاتهم ورعيل الشعراء والعلماء والكتاب العرب، وسربلوا نحو إسفاف الرطانة و السريالية الفارغة الغارقة بالغموض والتغريب والتشتيت والفوضى والانفتاح نحو كسر الطوق الأخلاقي في الأدب، وغرقوا مع الغارقين في بركة الحداثة وما بعد الحداثة الآثمة, التي أقصت النص العربي من التواجد في الساحة العالمية النقدية, بحجة أنه ينتمي للغة صعبة, وضربوا التجنيس عرض الحائط، تأثراً بموجة رولان بارت، لا لشيء، أكثر من كونه أجنبي، وإختلطت الأجناس بالأجناس، وصار الكل يكتب بأجناس لا يعرفون هويتها …..
حان الآن موعد التصحيح والعودة نحو الوطن, بعد أن ذاق المهاجرون مرارة الهجرة نحو الغرب والذل والمهانة والانكسار الأدبي، ولاحت بالأفق شمس الصباح ، شمس الذرائعية، وهي نفحة من إخلاص للحرف الأدبي العربي، استلم تلك الرؤية النقدية ثلة من المخلصين للنص العربي, والتي اجتمعت على شرف الحرف العربي وأقسمت على الانتقام لسفك دمه، وإعادة شرفه وهيبته وهويته العربية, وقد تأسست حركة التصحيح والتجديد والابتكار من قبل تلك الثلة المخلصة للحرف العربي, وانطلقت من العراق ومصر والمغرب وسوريا الشقيقة, وأعتقد جازماً، أنهم واجهوا, و سيواجهون رياحاً صفراء و زوابعَ من أصحاب الأقلام المعوجة،وأصحاب تأليه وعبادة الصنم الأجنبي من اسم و قول مرطون , ليس حرصاً على مسيرة الأدب الرصين, بل هو حرص على مبدأ ( خالف تعرف)……يتبع في حلقة قادمة….