23 ديسمبر، 2024 1:11 ص

حركة التصحيح والتجديد والإبتكار في الأدب العربي

حركة التصحيح والتجديد والإبتكار في الأدب العربي

عمق النص الأدبي بالانزياح نحو الخيال والرمز
بالمنظور القرآني و العلمي
مقال (١٢)
وقبل أن ندخل هذا الخضم الجنسي الأدبي المضمخ بالخيال، الذي يفوق الواقع روعة وبناء، ولو أطلق العنان لكاميرات وريَش الرسامين من الأولين والآخرين في هذا العالم, لما استطاعوا الإحاطة بعظمته واتساعه، فالخيال عالم واسع يشمل ما أبدع الله في عوالمه، ولم تصله يد أو عين مخلوق في الواقع بشكل ملموس، هو تصور بمنظور ميتافيزيقي لحوادث وبنى ومخلوقات لا تسكن الواقع ولا تشبه محتواه الحركي والبنائي, وتشكل رؤيتها إثارة وانبهارًا لسكان عالم الواقع, وتلك التصورات لا تسكن إلا العقل البشري ذا الأفق الواسع, وأعني به الأديب, وهذا التصور هو إطلاق العنان للعقل البشري بالسفر والتفكير في مجالات لا يقبلها الواقع لكونها ضرب من ضروب المستحيل، لكن تلك الأفكار والتصورات تكون شرعيّة ومقبولة في حقل الأدب, وتعد عمقًا أدبيًا محمودًا، يشكل في جميع مستوياته الدنيا والعليا، مجالًا أدبيًا أو فنيًا, يجسد من خلالها عناصر اللذة والتشوق، حين تبث فيه الروح والحركة وقد تحدث تلك التصورات في الواقع المعاصر, على سبيل المثال : كان القمر حلمًا من أحلام العشاق قبل قرن تقريبًا لكن عملية الوصول إليه جعلته ينتقل من الخيال إلى الواقع….

و(الموبايل) كان حلماً أن تتصل بشخص من أي مكان كان فوق الأرض أو تحت أعماقها أو محلقًا في السماء، وصار واقعًا ملموسًا ولعبة بيد الاطفال، إذًا الخيال هو كل شيء يحلم به الإنسان ولا يستطيع بلوغه في الواقع المرئي والملموس، فوسيلة الانتقال عبر الزمن كثيرًا ما تشغل بال الإنسان وخياله في عبور آفاق الزمن على أجنحة التأمل الممزوج بالتطورات والمكتسبات العلمية, وأحيانًا تكون التصورات قريبة على الواقع الإنساني, كتصورات المعوزين لحاجات لم يمتلكها إلا الأغنياء, وتصورات أخرى تخص العدل والحياة لم تسكن الواقع إلا مرة أو مرتين مثل المدينة الفاضلة، التي تعد ضربًا من ضروب الخيال السياسي لم يتحقق قط في أي عصر مضى، لكن ربما سيأتي يوم ونرى الانتقال عبر الزمن, وفي المدينة الفاضلة بالذات، والتي حلم بها الفارابي, و قد يتحقق حلمه فعلاً، حين تتوفر ظروف هذا الحلم في الواقع ، كما توفرت ظروف من سبقه من الأحلام الخيالية التي أصبحت واقعاً ملموساً….

الخيال كما ورد في القرآن الكريم
نستنتج من ما تقدم، أن كل خيال يسكن العقل حين تتحقق جميع مكوناته في الواقع الأرضي، يصبح واقعًا ملموسًا ومرئيًا, وينزاح من الخيال نحو الواقع، وجدلية تحقق الخيال وانتقاله إلى ساحات الواقع مسنودة من الكتب المقدسة، وحكايات الأنبياء وإسراء و معراج الرسول محمد (ص) والغيبيات الخمس التي ذكرت بنصوص قرآنية هي خير مثال :
1/علم الساعة. 2/ علم نزول الغيث
3/علم ما في الأرحام.
4/علم ما تكسب النفس غداً.
5/ علم كل نفس بأي أرضٍ تموت.
(بسم الله الرحمن الرحيم ….إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الَسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بَأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ) سورة لقمان
في تلك الآية الكريمة من سورة لقمان ذكر الله خمس غيبيات كانت في ساحات الخيال, وتحقق منها اثنتان ودخلت عالم الواقع بما أعطاه الله من علم ما يخص الغيث ووقت نزوله، صار خبرًا بسيطًا من أخبار الأنواء الجوية، ونزلاء الأرحام، مع تطور علم الأشعة والسونار وإمكانية معرفة الجنين وجنسه ذكرًا أم أنثى والساعة التي يولد فيها، و غزو الفضاء بالأقمار الصناعية والمركبات التي تتحكم في السحب و هطول الأمطار بل في المناخ كله، وبقي منها ما يتعلق بمفاتيح الغيب الثلاث التي يخص سرها الخالق نفسه، حتى هو جلّ شأنه من يجيز بعلم لبني آدم ليسمح بفك طلاسم تلك الغيبيات الثلاث الباقية :علم الساعة و علم ما تكسب النفس غداً, و علم كل نفس بأي أرضٍ تموت…..
موقف العلم من الخيال:

التشاؤم في العلم يقود نحو الظن بأن النعمة نقمة، كما يظن بعضنا بأننا ضحايا نجاحات العلم والمعرفة والابتكارات العلمية التي – بفضل الله- تنهال علينا كالمطر، حتى وصل الأمر بهؤلاء المتشائمين أن يسخروا من المنجزات العلمية، وينعتوها بالسجن الكبير, وهم سكان هذا السجن، لكن الله وازن الأمر بالمتفائلين والذين هم
الأكثرية في هذا العالم لحفظ نعمته، فهم يؤكدون بأن الأشياء التي لا يمكن معالجتها اليوم علميًا، من الممكن أن تعالج مستقبلًا بالعلم، ويستندون في تفاؤلهم هذا على
تطور المنجزات العلمية والدور الجدّي الذي يلعبه العلماء في تحسين وتطوير حياة البشر وحل مشاكلهم ……

انسحبت تلك الحلول حتى على المشاكل الأخلاقية، في ميادين الفلسفة والأدب والفن ، كالصالح والطالح و الصح والخطأ في المجتمع أو الظواهر الاجتماعية الشاذة بالمجتمع, مثل القتل والسرقة وجرائم الشرف والاعتداء الجنسي, وغطت أيضاً تلك المعالجة التصحيحية حتى المثلية والعوق الجنسي وشذوذه . فقد وضعت جميع تلك الظواهر اليوم على طاولة التشريح في المختبرات العلمية، بدأت دراسة العلماء المستمرة عليها، وأهم شيء يجتذب العلماء ويثير اهتمامهم، هو تركيبة العقل البشري الذي يعتبره العلماء أعقد تركيبة في الكون قاطبة، فهو مركز التفكير لدى العالم البشري، والأمر الثاني الذي يستحق التركيز بالدرجة الثانية، هو دراسة تطور الجينات والصفات والأنواع، والحكم عليها من خلال العلوم المختبرية الصرفة كالفيزياء والأحياء والكيمياء، وأي سؤال أو إشكالية يحال حلها والبت فيها إلى المنظور العلمي، وهذا لا يعني إلغاء أو إسقاط الأسباب الاقتصادية أو الإنسانية من هذه البحوث، بل أنها تسير بالتوازي ضمن منهج العلوم الحديثة، حيث لا يمكن عملياً الفصل بشكل قاطع بين العوامل الاجتماعية، والأيديولوجية، والعلمية، والتكنولوجية ، لأن تأثيرها متبادل….

تنتمي جميع تلك الأفكار والنظريات التي توجه العقول المبدعة للحضارة الإنسانية المعاصرة اليوم و لما يسمى بالعلوم الحديثة أو غير الكلاسيكية أو غير النيوتنية – نسبة إلى العالم نيوتن، والصفة المشتركة بينها جميعًا هي تخَيُّلها للعالم والمحيط على أساس أنه متكون من أربعة أبعاد أو أكثر، وليس عالم ثلاثي الأبعاد كما تصوره نيوتن المبني على هندسة أقليدس، وكما اعتقد مفكرو القرن التاسع عشر ومن بينهم المثاليون والماديون الديالكتيكيون، وبسبب حساب هذا البعد الرابع بدرجة رئيسية، فإن هؤلاء العلماء قد توصلوا إلى الاختراعات والاكتشافات النووية والالكترونية والكهرومغناطيسية التي تغطي سكان العالم المعاصر- والتي يعتبرها المتشائمون سجون- وانفصلوا عن قوانين نيوتن وهندسة أقليدس، التي ترى العالم بثلاثة أبعاد، وقدموا تعريفات جديدة وغريبة للمادة والروح والحياة بأسرها….
الخيال والبعد الرابع:
وما أريد قوله أن الله هو صاحب القول والفصل بخلقه وعوالمه, وهو خالق الحياة محدودة بالأبعاد الثلاثة المعروفة في علم الفيزياء والرياضيات في تكوين المجسمات (الطول والعرض والارتفاع)، وخلق العقل والحواس وجعلها مقوداً للإنسان فصار مخيراً بها، ومسيراً بما يملك الخالق من أسرار، فحواسنا التي نشأت منذ مولدنا في عالم محدد بتلك الأبعاد، ولكن هناك بعداً رابعاً يخص الزمن, جعله الله بيده وبعلمه, ولو افترضنا أن وجودنا تكثر فيه الأبعاد، ربما سنتمكن من بلوغ الزمن بأشكاله الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل)، حين يجيز لنا الله العلم بمشيئته، لله أسرار في خلقه، خلق الجسد وأطلق العنان لعلم الطب والنفس في الجسد، ومسك هو الروح سراً من أسراره, كما خلق الأبعاد ومسك الزمن سراً من أسراره…..
وقسم البعد الرابع الزمن إلى قسمين: خيال وواقع, ووضع جذور الخيال في ساحات الواقع, وقسم عقل الإنسان إلى قسمين، العقل والحواس, والدليل على ذلك أن الإنسان لا يبدأ عملًا إلا ويحسب خطواته في الخيال, ثم يخطط في خياله، وحين يهتدي إلى القرار ويطلق التنفيذ، يبدأ الانتقال من حيز الخيال نحو حيز الواقع داخل الأبعاد الأربعة، إذاً الخيال والواقع توأمان سياميان في داخل العقل البشري لا ينفصلان عن بعض إلا بموت الشخص….
“فإننا نتحرك ( ) أثناء النوم بأحلامنا بمقود عقولنا ومشاعرنا في أبعاد أخرى غير التي نعرفها في اليقظة، فمن الناس من يرى في نومه أحداثًا قد تتحقق بعد ساعات وأيام أو شهور .. فأين كنا أثناء النوم ….؟ وفي أي بعد كان عقلنا الباطن يتجول….؟ من المؤكد أننا لم نكن أثناء النوم موتى، ومع ذلك كنا غائبين بوعينا غير شاعرين بأجسامنا، وبذلك كنا ميتين بالنسبة لهذا العالم، ولكننا أحياء أثناء النوم في العالم الآخر، لنتجول بأحلامنا في عالم غير محدد بالأبعاد الثلاثة، بل ربما كنا نمر بتجربة أبعاد أربعة، أو أكثر، فنرى بعض أحداث الماضي ماثلة أمامنا بالرغم من أنها قد انقضت، أو قد نرى أحداثًا لم تحدث بعد, وإذا بها تحدث في المستقبل …!!! ….
ربما ينطلق هذا الشعور أثناء اليقظة، فيرى بعض الناس أحداثًا قبيل وقوعها، فهل معنى هذا أنهم يعيشون في بعد رابع للحظة من الزمن؟ وليس البعد الرابع الزمني نهاية مطاف الأبعاد.. بل هناك بعدًا خامسًا وبعدًا سادسًا وبعدًا سابعًا…..والموت هو الطريق الوحيد الذي سيحررنا من عالم الماديات (المحكوم بالأبعاد) مصداقًا لقوله تعالى : (بسم الله الرحمن الرحيم ….لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد…. صدق الله العظيم) سورة ق”….
ويعود اكتشاف البعد الرابع إلى بداية القرن التاسع عشر الذي شغلته الثورة الصناعية الأولى بمكائنها البخارية، والنصف الثاني من ذلك القرن انشغل بمرحلة اختراع الكهرباء، حتى بلغت تلك المخترعات والمبتكرات العلمية ذروتها حين توجه العالم أينشتاين في أطروحته الشهيرة – النظرية النسبية الخاصة سنة 1905 – التي ربط فيها بين الزمان والمكان في وحدة واحدة، واعتبر أن العالم الذي نعيش به يتكون من أربعة أبعاد, يشكل الزمان بعده الرابع, إضافة إلى الأبعاد المعروفة الأخرى – الطول والعرض والارتفاع أو السمك – وينكمش فيها الزمان إذا عُبر المكان بسرعة هائلة، ثم جاء بعده أستاذه عالم الرياضيات منكويسكي الذي وضع مصطلح – الزمكان – الذي وافق عليه أنشتاين بعد وفاة منكويسكي سنة 1910، وابتكر أنشتاين أيضاً معادلات حركة الأجسام في نظريته في تكافؤ الطاقة والكتلة والتي تقوم على : أن الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء، وتقديمه لمفهوم جديد للجاذبية يختلف عن النيوتنية، ومازالت كيفية تفاعل الضوء والمادة لغزاً محيراً، وقد تمت البرهنة التجريبية على صحة أكثر من تسعين بالمئة لحد الآن من نظرية أينشتاين، التي تفرعت عنها العديد من نظريات الفيزياء الحديثة لاحقاً، والتي بفضلها دار غاغارين حول الكرة الأرضية ووضع أرمسترونغ خطواته على القمر .

من الصعب التفكير والتخيل بالأبعاد الأربعة إذا لم تكن لدينا قدرات في مستوى متقدم في الرياضيات والفيزياء، والسبب أن المكان والزمان الذي نعيش فيه بحياتنا اليومية يختلف عن المكان والزمان الذي يتخيله الرياضيون، فنحن لا نرى الزمن وهو البعد الرابع في نظريات الفيزياء الحديثة “( ) ، لكون الدماغ البشري مصمم لرؤية عالم ذي ثلاثة أبعاد فقط ، لهذا فإن الوسيلة البشرية الوحيدة لرؤية الزمان بشكل حقيقي ملموس، تخيله كصورة تجريدية في الرياضيات والفيزياء، ومن خلالهما يمكن تصويره فنيًا أيضًا, وإيضاحه بالرسم والتصميم كما حاول- ويحاول باستمرار- الرسامون والنحاتون في كل أنحاء العالم تصوير تلك الظاهرة، لذلك فلابد لنا أن نتنبه إلى أن هناك تصوران مختلفان لما يمكن أن يكون عليه البعد الرابع:

الاعتقاد الأول: يتصور علم الرياضيات الأبعاد العليا التي يزيد عددها عن ثلاثة على كونها أبعادًا إضافية في المكان…

الاعتقاد الثاني: أن تصورات علم الفيزياء وعلوم الفضاء للبعد الرابع على أنه الزمن…..

لقد كان التصور الوحيد للبعد الرابع وحتى إثبات صحة نظريات أينشتاين سنة 1919, قد تم من خلال علم الرياضيات الذي صوّره على كونه بعدًا مكانيًا, فقط مثل الطول أو العرض (ومازال العديد من العلماء يضعون نظرياتهم على أساس هذا البعد المكاني) وقد شغلت فكرة الأبعاد الأربعة المكانية العالم، ليس علماء الطبيعة والرياضيات فحسب، بل عقول وخيال الكثير من المثقفين والكتاب والفلاسفة والفنانين منذ أول عالم رياضيات اهتم بها وهو الروسي لوباتشيفسكي سنة 1828 ولحد الآن، وقد كتب عنها المئات من المقالات والروايات والكتب منذ القرن التاسع عشر، لكن الغالبية اليوم تعتبر البعد الزماني كما جاء في النظرية النسبية، هو البعد الرابع الوحيد المبرهن تجريبيًا لحد الآن، أما البعد المكاني الذي تعول عليه الرياضيات فقد ظل افتراضًا رياضيًا بحاجة إلى براهين ملموسة ….

مكانية الخيال

فكرة البعد الرابع المكاني ووجود مكان آخر أعلى من عالمنا ثلاثي الأبعاد هي من أفكار الأوربين خلال الثورة الصناعية الأولى والثانية في القرن التاسع عشر كما أسلفنا، حيث انبثقت من تطور علم الرياضيات والهندسة ورياضيات المنحنيات والسطوح الأهليجية أو ما يطلق عليه علم الرياضيات والهندسة اللاإقليدية، وتلعب الهندسة الإهليليجية دوراً هاماً في النظرية النسبية وفي هندسة الفضاء الزماني.
لقد ظلت هندسة إقليدس تمثل أسس علم الهندسة على مدى ألفين من السنين، ومن أبرز مميزاتها أنها لا تستعمل سوى المسطرة والفرجال لإنشاء الأشكال, ولا تأخذ بعين الاعتبار القياسات أثناء الحركة، لكن التطور الصناعي والعلمي أدى إلى ظهور مسائل هندسية لم يتم حلها إلا في القرن التاسع عشر, ومن هذه المسائل تقسيم زاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، إنشاء مكعب حجمه ضعف حجم مكعب معلوم, وإنشاء مربع مساحته تساوي مساحة دائرة معينة، وهذه المسائل يستحيل حلها باستعمال المسطرة و الفرجال فقط .

وحينما قسم الله الوجود واقعًا وخيالًا، الواقع مفهوم بزمكانيته الملموسة, والخيال معروف بمكانية المجهولة لا تخرج عن العقل البشري بمقارنتها مع محتويات التكوينات وسكان الواقع، لذلك ينزاح الخيال نحو الواقع لو توفرت الظروف المتشابهة في العالمين، وما دام الواقع يمتلك سكانًا ومكونات ملموسة إذاً تصورها في الخيال يتم في العقل بشكل متباين، والسؤال الذي يطرح نفسه :

– هل هناك خيال لا يمتلك مكونات الواقع…؟
– وهل بالإمكان تصور حدود هذا الخيال ومكوناته….؟

الإجابة على تلك الأسئلة تكمن خلف التصورات العقلية التي تقع خلف الوجود الإنساني, فلو تبحرنا بقوله تعالى : وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) من سورة آل عمران :

تفسيرالآية الكريمة:

رواه ابن جرير فقال : حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد، عن أبي خثيم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى بن مرة قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله(ص) ، شيخا كبيراً، قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره . قال : من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية . هذا كتاب صاحبي : ” إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار…؟

: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

” سبحان الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟”

المعنى الراجح : أن يكون المعنى : أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله، عز وجل : ( كعرض السماء والأرض ) والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار .

ومن نظرة علمية، هي أيضًا من أملاك الله جل شأنه، تكون أسرار الله في الجنة والنار والبرزخ ويوم القيامة، وهي عوالم وأبعاد أخرى لا يعلمها إلا الله, وقد أثبت علم الفضاء ذلك من أن الكون يتكون من آلاف المجرات, ومنظومتنا شمسية تسكن مجرتنا بتسعة كواكب, وعالمنا الأرضي واحد من تسعة كواكب من آلاف المجرات، سمح الله للأديب الملتزم أن يتجول في خياله بتلك العوالم متى شاء بشرط أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، ولا يؤذي أحدًا بما يملك من أدب…..

وخلاصة القول أن رحلتنا في عوالم الخيال تخص العقل فقط، هو المتحرك والجسد الثابت، أي وضع الله سبحانه وتعالى في هذا الصندوق الصغير عوالم لا يحصيها العقل نفسه، فهو يرحل ويتجول في عوالم الله, والجسد باقٍ في مكانه…. ويشتد عند الأديب هذا النوع من الخيال فتراه يحلق فيه وينسى حتى نفسه, يسبح في أحلام اليقظة, لا تقيده حدود إلى حد ذكره الخالق جل شأنه في سورة الشعراء(بسم الله

الرحمن الرحيم : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227)…. صدق الله العظيم …..

الأدب العربي بطبيعته الانزياحية نحو الخيال والرمز، والتي أبعدته عن المعنى الواقعي، وأقصد بذلك الأدب العربي تحديداً، غواية بالمنظور القرآني كما ورد في تلك الآية الكريمة, حيث ثبت أن الشعراء بالتشخيص والتعميم (الأدباء) يهيمون في الخيال والرمز الأدبي, وهذا الهيام خوض في اللاواقع بمفترض الخيال البعيد الملموس، فهو الكذب الغير مقصود في أعمالهم الأدبية من تشخيص وخيال ورمز, بقصد الأدب والهيام في عمق جنباته الخيالية الواسعة، وليس بقصد الغواية والعصيان، لذلك خصّهم الله بالقول فقط دون الفعل، فهم قد يكذبون في خيالهم لأن الخيال يبعد عن الواقع كثيرًا، لكنهم لم يقصدوا هذا القول من أجل المنفعة، وهذا المعنى يأخذنا إلى أن الأدب يذهب في الخيال بعيدًا عن الواقع, لكنه غير مضر في جوانب الحياة, وقد قادني هذا القول إلى ناحيتين:

١-استثناء الأدب من الكذب لأجل المنفعة في القصد نحو الخير في الحث في القول وعدمية الفعل، لكون الغواية والهيام تخصّ الخيال المسند بنفي الفعل المقترن بالقول ربانيًا وخلافه، أي لو أبعد هذا التحليل الدلالي بتفسير وعظي، حينها يقع الشعراء جميعًا تحت طائلة العقاب الرباني كونهم كذّابين بالفعل، و بذريعة التمرّد على الخالق…

٢- وبنظرة فإن الأدب رسالي إيجابيّ الاتجاه، يحمل بين طياته الفضيلة والحكمة والموعظة والأخلاق الحسنة والمثل العليا، والتي حملها الواقع والخيال، لذلك تحتم ختام كل دراسة نقدية ذرائعية بخلفية أخلاقية، لكون تلك الرؤية النقدية لا تقحم نفسها إلا في الأدب الأخلاقي الرصين الذي يدعم المنظومة الأخلاقية العالمية، التي تلتزم بالمواثيق الإنسانية, والابتعاد عن نشر التفرقة والطائفية والعرقية, وملاحقة الجريمة والظلم ومصادرة حقوق الآخرين، وفيها أصبح الأدب عرابًا للمجتمع, والنقد عرابًا للأدب بشرط أن ينضوي الأدب برمته تحت الآية(227) ليكون الخيال غير مؤذٍ, وصاحبه مؤمن بالقيم والأخلاق الإنسانية …

الرمزية في الأدب:

مذهب الرمزية هو مذهب أدبي فلسفي حداثي فرنسي، يعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة بواسطة الرمز أو التلميح أو الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي الأدبية المخبوءة خلف تلك الرموز و التلميحات والايحاءات التي لا يعبر عنها لغوياً، ويحجم الأديب بالقسط عن التعبير عنها بشكل مباشر, ولا تخلو الرمزية من تمييز بمضامين فكرية واجتماعية مترعة بالقيم، التي تدعو إلى التحرر والانفلات من القيود، والتمرد عليها, متسترة بالرمز والإشارة، وتعد الرمزية الأساس المؤثر في مذهب الحداثة الفكري والأدبي الذي خلفه…

وتنشط الرمزية في المناطق التي يشاع فيها الظلم والجور والتعسف وتكميم الأفواه ، و لم تكن الرمزية وليدة القرن العشرين فحسب، فقد دكّت جذورها في أعماق التاريخ حين انبثقت وليدًا مدللًا من رحم نظرية (المثل لدى أفلاطون)، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر عن حقائق مثالية، وتنظر نحو عقل الإنسان الواعي والظاهر في الواقع كعقل محدود، وبأنه يملك عقلًا غير واعٍ أرحب من ذلك العقل، ويقصد بذلك سعة الخيال وليس الوعي في محيط الواقع…

وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت ملامح وظروف و عوامل اجتماعية وثقافية لولادة الرمزية من جديد، وسبب عودتها تتمثل بذريعة انغماس الإنسان الغربي في المادية التي زرعتها الفلسفة الوضعية، ونسيان كيانه الروحي، وقد فشلت المادية والإلحاد في ملء الفراغ الروحي، ونشأ صراع حاد في البنى الاجتماعية والأدبية بين إرادة بعض الأدباء والمفكرين من حرية مطلقة وإباحية أخلاقية، وبين ما يمارسه المجتمع من ضغط وكبح لجماحهم، وهذا الصراع زاد من تأثرهم بالنظرية الأفلاطونية، وساعدت كتابات الكاتب الأمريكي (ادجار الآن بو ) في تسريع هذا الاتجاه – وثبت ذلك الإعتقاد، من أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبقَ إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره، خصوصًا في جو سياسي واجتماعي وديني مشحون….

وقد نشأت وتطورت تلك الولادة الجديدة على يد الأديب الفرنسي (بودلير 1821 – 1967م) و( رامبو (و(مالارراميه 1842 – 1898م) وهو من رموز مذهب الحداثة و من أمريكا) يمي لويل. (و (بول فاليري 1871-1945م ومن بريطانيا: (أوسكار وايلد). ) ومن ألمانيا) ر.م. ريلكه) و(ستيفان جورج )……

وصار للرمز أهمية عظيمة في الأدب الحديث، وبدأ بتنافس شديد مع الخيال وأحياناً يتفوق عليه، ومن الأهمية بمكان التمييز بين الأساطير كفكرة للنص، و الرمز كأداة لتوصيل الفكرة بمعنى واسع، فالجودة والحرفنة في توظيف الرمز في النص الأدبي بشكل مناسب يمنح النص بعدًا أرحب وحركة فاعلة في دواله ومدلولاته ومفاهيمه إن اقترنت تلك الرموز بقرائن ذكية تشير نحو دوال ذات مدلولات و مفاهيم خاصة وعامة لمعان مؤجلة في النص، تجتاز عناصر الزمن، الحاضر و الماضي حتى تدرك المستقبل، بنعومة ويسر و تناسق بديع متزن، فينتج عن ذلك براعة في استخدام و اختيار الرمز المعبر عن الفكرة التي يطرحها النص من قبل الأديب المتمكن الذي يستحق عنها تسميته بالأديب الرمزي …..

ملامح الرمزية :

١-تهدف الرمزية إلى التزاوج والتقارب بين الصفات المتناحرة رغبة في الإيحاء والجمال البلاغي في التعبير مثل تعبيرات: الضوء الضاحك، الشمس المرة المذاق ،والنهر الحزين وتلك جرعات تشخيصية للجوامد والعناصر غير العاقلة لتحريك المعنى وإعطائه حركة وحيوية…

٢-دعى الرمزيون إلى التحرر من الأوزان والاتجاه نحو الشعر المطلق مع التزام بموسيقى الشعر الحر, وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور- وشجعوا على الموسيقى الداخلية بقصيدة النثر والتفعيلة بقصيدة الوسيط لتحرير الشعر من الأوزان التقليدية.

٣-وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح و الأرواح مستقرًا لهم ،لأنهم يرومون البحث عن عالم مثالي مجهول, يسد الفراغ الروحي ويعوّضهم عن غياب الأفكار الدينية، و وجدوا أن الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال, بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية.

٤-ركز الرمزيون على تقديم تجربة أدبية جديدة تستخدم فيها المفردات لاستحضار الحالات الوجدانية، سواء أكانت شعورية أو لا شعورية، بغض النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى تلك المفردات، واستثناء المحتوى العقلي الذي تختزنه، لكون قوام تلك التجربة الأدبية، وجداني في الدرك الأول….

٥-الرمز هو مكافىء موضوعي، يُشتق من الواقع الخارجي، و هو نسق مختلف عن الطرائق التصويرية التقليديّة، و عنده يتجنب الأديب عقد المماثلات بين طرفي الصورة، ويقوم الرمز منفرداً بتوصيل الدلالة نحو المدلول أو الشيء المرموز له عن طريق التمكن الفكري للمتلقي .

٦- يوحي الرمز للحالة بشكل إيحائي غير مصرح به، ويبث الإثارة في الصورة ثم يتركها تكتمل من تلقاء نفسها، لتتسع الدوائر في ماء، و كأنك ترمي حجرًا فيه، وذلك عن طريق الفعالية الإدراكية للمتلقي…

٧-يقوم الرمز بطريقة الإيحاء بالدلالة وليس بالتصريح بها، ويتم الكشف التدريجي عنها بالكيف أو الإدراك الشخصي, لا بالإفضاء بها كمعلومة متكاملة….

٨-الرمز هو قدرة وإمكانية على الإشعاع الطيفي كالآثار التشكيلية، ومن خلاله يصبح القارئ مشاركاً للكاتب في تعبيره الرمزي…

٩- للرمز إمكانية على التعبير عن المشاعر المبهمة والأحاسيس الخفية العميقة ويقوم بوظيفة ترجمة أسرار النفس البشرية التي تعجز اللغة العادية في التعبير عنها بشكل كامل، كما يعطي الرمز للمتمكن من كشفه أدق الهنات والإشارات النفسية وفروقها الخفيّة. …

عناصر النصّ الأدبيّ:

 عنصر اللغة: لفظًا وكتابة, تشكل البنية الأساسية للنصّ الأدبيّ.
 الأفكاروالمعاني: وتعد الأفكار عنصراً أساسياً فيه، فهو يقوم على تفسير مظاهر الحياة الطبيعية للإنسان وحركته اليومية فيها، ويحمل هذا النص سمات عديدة منها :
 الأصالة
 والطلاقة
 والجمال.
 عنصر الخيال، إنّ الخيال ذو مكانة متميزة في الأدب، فهو ضروري لصياغة الواقع وبنائه في عالم الأدب.
 عنصر المعاني، تعّد المعاني عمادة النصّ الأدبيّ، وقوام جميع ألوان الأدب.
 العاطفة: و تعكس كل ما في الصدور من مشاعر، وأفكار، وأحاسيس، وانفعالات.
 الصور الجمالية: حيث أن الصورة البيانية ذات أهمية كبرى, لأنّها تقوم على تجسيد كل ما هو تجريدي وبث الشكل الحسي فيه.
 الأسلوب: ويجب أن يكون الأسلوب ذو ألفاظ متناسقة، ويتّسم الأسلوب بعدة سمات:

سمات الأسلوب :
 قوة الأسلوب المقصود به فصاحة الكلمات.
 ووضوح الأسلوب المتمثل في حسن انتقاء الكلمات.
 والأفكار، والجمل، وجمال الأسلوب.
 وانزياحه نحو الخيال والترميز، حيث يكون هناك انسجام في عناصر النصّ الأدبيّ.

 الصدق: المتمثّل بالصدق الشعوري المفعم بوجدان الأديب، والصدق الواقعي المتمثل بصدق تعبير الأديب عن واقعه وتجاربه.

 الإيقاع الموسيقي والسردي: حيث تضفي جمالًا ورونقًا, لذلك تجد الأديب مرة عازفًا يستخدم الكلمات أنغامًا موسيقية، ومرة رسامًا يرسم بالكلمات أجمل اللوحات الأدبية, وأخرى مصورًا فتوغرافيًا فيصور لك أجمل الصور الملونة بالكلمات في النصّ الأدبيّ.

هل لغة الرمز لغة خاصة وغريبة…؟ :

إن اللغة الرمزية عابرة للمعجم اللغوي، ولعلوم البلاغة من بيان وبديع، فلا بد من البحث عن لغةٍ ذات دلالات ومفاهيم جديدة تستند على التلميح والترميز، وتغوص في المدلولات نحو أعماق التعبيرَ للبحث عن مكنونات العمل الأدبي الداخلي لتنقل المعنى بشكل مخبوء بجميع حالاتِه باتجاه المتلقي من خلال إثارة الأحاسيس الكامنة وتحريك القوى الانفعالية والفكرية لأحداث بأعمدة رمزية وقرائن تتسيّد التعبير والخطاب الذي يتقاسمه النصاص والمتلقي معًا، لذلك تدخل الرمزية في عالم غير محدود و غير مقيد، مثل عالم الأحلام النفسية الغائمة أو الضبابية والمشاعر المرهفة الواسعة، وتغلغل الرمزية في خفايا النفس وأسرارها ودقائقها….

لذلك تستند الرمزية في صورها على معطيات الإحساس كمبدأ تعبيري للإدراك بذلك يبتعد التعبير في الخطاب عن المباشرة في مجال الواقع فتنطق، الألوان بديلًا للأصوات واللمس والحركة والشم والذوق، ولكل مكوّن في الجسد يعبر عنه بصفة تتعلق به رمزًا معبرًا موحيًا، ونفس الأمر يتماشى مع مكوّنات الطبيعة التي تعرض نفسها بمتعلقاتها، تراها هنا تتخاطب فيما بينها وتتراسل، وتؤلف لغةً متشابكة لا يفهمها إلاّ من يفهم خصوصية الرمزية بالحس والذكاء والربط بين الأعمدة والقرائن وهي مهارة وموهبة…

تتبنى الرمزية أساليب جديدة في التعبير و ألفاظًا تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ الغروب الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالانقباض. ” ( ) الشاعر لا يُعاب إذا مثّل لنا الكواكب والأزهار فألبسها ثياب الأحياء، ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التخييل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك، لأنٌ المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البداهة الإنسانية، حيث كان الإنسان وبأي لغة من اللغات، ألغز وأبان….وتلك السمة تسمى بلاغيًا بالتشخيص…

ويمتلك الأديب الرمزي إحساسًا متوقدًا و متميزًا، يغرق في الطبيعة بعشق وتجاذب أسطوري فتلتقط عيناه الألوان والظلال والأشكال الدقيقة، و يولّد منها رموزًا كثيرة بمختلف صفاتها ودرجات دلالاتها ومفاهيمها المعبرة، والتي يوظفها بالاتجاه المطلوب، وتشعره مظاهرُ العالم الطبيعي بالتماثل مع العالم البشري والتخاطب معه، و تتشابك كل حواسه وتتبادل وتتراسل، فالرماد يُسكب ماء، الكواكب تغني، والنهرُ ينوح، وغيث الضياء يهطل. ولكل شيء محسوس دلالةٌ ومعنى، فللألوان معانٍ، الأحمر ثورة، والرمادي كآبة، والأخضر حياة والأبيض نقاء والأصفر موت والوردي نضوج ونماء والأسود حزن وكآبة، إن كوامن الإحساس باجتماعها تغدو كيمياء تصنع دلالات جديدة بالغة الفصاحة في التعبير على ما فيها من إيجازٍ وتكثيف، وما تمنح المتلقي الشعورٍ بالسعادة والدهشة ….

صفات و شروط النص الأدبي

1: السبك : Cohesion :

هو الربط النحوي, ويعنى بكيفية ربط مكونات النص البصرية، أي الكلمات والجمل , وهو يشتمل على الإجراءات المستعملة في توفير الترابط بين عناصر ظاهر النص, مثل: الحذف, التكرار الخالص، والتكرار الجزئي، وشبه التكرار، شبه الترادف, وتوازي المباني، والإسقاط والاستبدال، وعلاقات الزمن، وأدوات الربط بأنواعها واستعمال الضمائر وغيرها من الأشكال البديلة, يعني بالمجمل أدوات الربط بين الألفاظ والتراكيب، وتعتمد مكونات ظاهر النص بعضها على بعض وفقاً للأعراف والأشكال القائمة فى علم القواعد والنحو.

2 -التماسك الدلالي : Coherence :

ويشير إلى الوظائف التي تتشكل من خلالها مكونات عالم النص, وهو “يدرس ما تتصف به مكونات عالم النص, أي تشكيلة المفاهيم والعلاقات التي يستند إليها ظاهر النص, والمفهوم هو تشكيلة من المعرفة (محتوى معرفي) أما العلاقات فهي الروابط القائمة بين المفاهيم, والتي تتجلى معًا فى عالم النص, وأهم هذه العلاقات علاقات: السببية, التسويغ, الإتاحة، بمعنى الترابط الداخلي المخبوء بين الأفكار في النص والتي تشكل وحدة النص الفكرية.

3: القصدية : Intentionality :

وهى تعبير عن هدف النص, واتجاه كاتب النص إلى أن تؤلف مجموعة الوقائع نصاً مترابطًاً متماسكًا, ذا نفع عملي فى تحقيق مقاصده, أي في نشر معرفة أو بلوغ هدف منشود أقرّ مسبقًا بنية وقصد .

4 : المقبولية: Acceptability :

وتتعلق بموقف المتلقي الذى يقر بأن المنطوقات اللغوية تكون نصًا متماسكًا مقبولًا لديه وللأديب والناس اجتماعيًا وأخلاقيًا ولغويًا وأدبيًا, وموضوعه أيضًا، اتجاه متلقي النص إلى أن تؤلف مجموعة الوقائع اللغوية نصًا مترابطًا متماسكًا ذا نفع له, أو صلة ما به, و اكتسابه معرفة جديدة تنفع الجميع .

5: الإخبارية : Informativity :

وتتعلق بتحديد سردية النص لأحداث و المعلومات تتخلله وعدم توقعها من قبل المتلقي, وهي تشتمل عامل الجدة أو الجودة، اللا يقين النسبي لوقائع النص بالمقارنة مع الوقائع الأخرى المحتملة الحدوث. أي تخبر بشيء جديد ومفيد.

6: الموقفية Situationality::

وتتعلق بمناسبة النص للموقف, أي أنها تشتمل على العوامل التي تجعل النص ذا صلة بموقف حالي أو بموقف قابل للاسترجاع، وهو الموقف الذي كتب من أجله النص بالواقعية أو الإشارة إليه بالعمومية أو الرمزية.

7: التناص: Intertextuality :

ويختص بالتعبير عن تبعية النص لنصوص أخرى، أو تداخله معها بالمقارنة الإنسانية والأخلاقية والأدبية وليس السردية، و أنه يتضمن العلاقات بين نص ما ونصوص أخرى ذات صلة, تمَّ التعرف إليها في خبرة سابقة, وتلك السمة تشير نحو إغناء النص بالتوازي نقديًا بأفكار أخرى مشابهة تعطي لهذا النص بعدًا إبداعيًا مسبوقًا واستمرارية أخلاقية لهذا الإبداع .

دورالعلم والفلسفة في إرساء قواعد النص الأدبي :

كانت الفلسفة هي الأساس في إنتاج سائر العلوم وتطويرها، وقد تمكّنت من تجذير جميع العلوم والمعارف التي ساهمت في بناء الحضارة الإنسانية بشكل عام في شتّى الميادين، وما لبثت أن تفردت تلك العلوم بالاستقلالية التدريجية حتى انفصلت عنها، ويختلف العلم عن الفلسفة من أنه يعرّف على كونه كل نوع من المعارف والعلوم والتطبيقات، و أنه مجموع أصولٍ كليّة ومسائل تدور حول ظاهرة أو حقيقة معينة، تقتضي معالجتها بمنهجٍ محدد، ينتهي بالقواعد والنظريّات. كما يعرّف العلم على أنه مبدأ المعرفة التطبيقية، أما الفلسفة فهي تفكير في داخل التفكير، مع التأمل والتدبير المدروس، والمحاولة للوصول إلى أفضل الإجابات والنتائج, لكون الفلسفة أفضل دلالات الحكمة, وأسمى صور المعرفة في البحث عن جذور وحقائق الأشياء في هذا الكون. أما الفلاسفة فهم ثلّة من الباحثين عن الحقائق وأصول الأشياء عن طريق التأمل…..

1- موضوعياً : الفرق بين العلم والفلسفة …. تعتبر المواضيع العلميّة حسيّة اتجاه الأشياء، أما المواضيع الفلسفيّة فهي تأملية في تكوينات الأشياء مع تطبيق عددٍ من المفاهيم.

2- منهجيًّا: فالعلوم تنهج بمنهج التجربة، أما الفلسفة فتنهج بمنهج التأمل العقلي بحقائق الأشياء .

3- من حيث الهدف: العلم يسعى نحو اكتشاف كافة القوانين الطبيعيّة، وبعد ذلك يعيد توجيهها لأغراضٍ نافعة، أما الفلسفة فهي بحثٍ لا يلتزم بالقوانين، و يسعى إلى الوصول إلى المعرفة عن طريق تطبيق الشك المنهجي.

4- التشابه بينهما: العلم والفلسفة مرتبطان بعلاقة حميميّة منذ الأزل، لكونهما يلتقيان في الأسس المعرفيّة، ولا يمكن استخلاص النتائج فيهما تحت تأثير الغرائز والأهواء، إنما وفقًا لقواعد منطقيّة ضمن المعقول.

5- المشاركة بينهما: في عددٍ من الخصال الذهنيّة والأخلاقيّة وهي جوهر الروح العلميّة.

6- العلاقة بينهما : عن طريق عمليّة الوصل بما يضع العلم على واجهة النقد، بحيث يتمكّن من تحديد علاقته وذاته بالحقيقة، ليعود للالتقاء مجددًا بالفلسفة حبًا منه بالمعرفة والعقل….

تعتبر الفلسفة و العلم جداران واقيان وساندان للأدب من خلال العلوم التي يرتكز عليها الأدب، وتشترك معه بالمنفعة بشكل تبادلي مثل علم النقد الذي يدار بالفلسفة وعلم التاريخ والاجتماع والمنطق والبيان والبديع وعلم اللغة والأسلوبية والصوت ..الخ من العلوم الأخرى….