حين رجعتُ من مؤتمر الاوبك المنعقد في الجزائر اوائل عام 1980 شعرت انني في حالة بين الوعي واللاوعي وفقاً لرؤية سيجموند فرويد عندما كتبتُ مقالة تضمنت السؤال الكبير، الذي تبلور عندي من خلال اعمال ذلك المؤتمر. نشرتُ المقالة في عدد حزيران من مجلة النفط والتنمية . كان سؤالي إلى نفسي وإلى القراء: هل تقوم حرب نفطية ..؟ . في أيلول 1980 جاء الجواب بقيام الحرب بين دولتين نفطيتين، العراق وايران ، كانت ساحتها عالمية الجسد والعقل . لكن ناتجها المباشر ، آثار اقتصادية واجتماعية وبشرية مدمرة في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً في إيران والعراق.
اليوم أجد نفسي في نفس حالة الوعي واللاوعي . المسافة طويلة بين طرفي هذه الحالة . لكنني ارغب بتوجيه السؤال الكبير : هل تقوم الحرب الطائفية في الشرق الأوسط..؟ هل ستكون ذات صفة عالمية ..؟
نفى الرئيس الامريكي باراك أوباما في خطابه السنوي يوم 13 كانون الثاني 2016 أي احتمال لتحوّل الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية ( داعش) إلى (حرب عالمية). أتفق بـ(وعي) مع هذا الرأي وأختلف بـ(لا وعي) معه بذات الوقت. صحيح أن الحرب المحتملة أو المتوقعة سوف لا تكون ساحتها القارة الأوربية ولا القارة الأمريكية ولا الأسترالية لكن تحالفاتها واسلحتها وصواريخها وتخطيطاتها ومعالجاتها السياسية وردود افعالها الاقتصادية واضطراباتها السيكولوجية وصدماتها وتكيفاتها جميعها ستكون بمستوى العالم كله ، أي أنها (حرب عالمية من صنف خاص) حين ترتبط بشذوذ الأيديولوجيا، أي بالواقع الطائفي في الشرق الأوسط.
تظهر في هذه الايام (حقيقة متشائمة) لدى الكثير من الجهات المعنية بقضايا السلام العالمي وأمن الشعوب بعد أن سادت (حقيقة متفائلة) بانتصار مبادئ السلم والديمقراطية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، خاصة وأن تلك الحرب كانت الأكثر تكلفة، مالياً وبشرياً، حيث هدرت مئات الملايين من الدولارات و50 مليون قتيل. وزير الدفاع الامريكي الأسبق روبرت ماكنمارا أحد مهندسي الحرب الامريكية في فيتنام قال في مذكراته أن مجموع قتلى العنف والحرب خلال القرن العشرين اكثر من 160 مليون إنسان.
هناك قدر كبير من الأفكار التاريخية حول الصراعات بين الدول والشعوب، ،بين الايديولوجيات ، أيضاً. من وجهة نظر علماء النفس والاقتصاد والاجتماع أن الصراع السياسي داخل الدولة الواحدة أو بين الدول المتجاورة قد تقود الى العنف والحرب. بمعنى أن هناك عدداً من الفرضيات لاشتعال اعمال العنف والحرب. حيثما وُجدت الرغبات الطبقية الشريرة والافكار السيئة لدى حكام لا يؤمنون بالحرية أو لا يملكونها فأنها تشكل أساساً خصباً للشر القابل لممارسة العنف والحرب.
بالعودة الى الكاتب الأثيني المسرحي سوفوكليس ( 496 – 405 – قبل الميلاد) الذي انتج حوالي 130 مسرحية فلسفية أنه قال، ذات يوم، في إحدى مسرحياته، فرضية معينة حول (الحرب) و(العنف) بين البشر، هي واقعياً اشد فرضيات الحرب تشاؤما حين أكد أنه طالما وُجد الإنسان الوحش، الإنسان البشع، الانسان القاتل، فأن لا شيء ينتج من بين يديه غير غطرسة الركض وراء القتل وسفك الدماء .
وجدتْ البشرية نفسها، منذ أول وجودها حتى اليوم، مثل هذا (الإنسان) سواء في العصر الحجري او العصر البرونزي او الاقطاعي او الرأسمالي . اليوم نسمع بقوى انتشرت فعالياتها على نطاق عالمي تحمل نفس الصفات التي اشار اليها سوفوكليس اجتمعت في تنظيمات دينية ، متطرفة ، مسلحة ، بأسماء متنوعة ،مختلفة، لمهاجمة الجنس البشري، كله، تحت مسميات مختلفة ابرزها اسم (داعش) كقوة إرهابية مسلحة، كقيادة لائتلاف واسع سيطر في الشرق الأوسط على مساحات واسعة من الأرض وثرواتها الباطنية في سوريا والعراق.
اليوم لم نعد نسمع بقضية واحدة اسمها (قضية الشرق الأوسط).. لم نعد نسمع بقضية الصراع العربي – الاسرائيلي كقضية إنسانية جوهرية، إذ تحولت إلى مجموعة من القضايا، بمعنى أن نوع القضايا تعددتْ واختلفتْ. كما تعددتْ قواها وصراعاتها ومستوى عدوانيتها واختلاف علاقاتها بالجيران الأشد قوة أو الأضعف قوة ومعايير حلولها. لم تعد هناك قضية واحدة اسمها قضية الشرق الاقصى، بل هناك قضايا . هكذا في كثير من المناطق التقسيمية في الخارطة العالمية. بالرغم من أن الراي العام في هذه المناطق و في العالم ،كله، هو ضد الحرب، لكن العديد من القوى تعتبر الحرب ضرورية لضمان الأمن القومي ( أمريكا ، فرنسا، السعودية ، بريطانيا ، روسيا، تركيا، إيران). كل واحدة من هذه الدول تجد نفسها في حال من الغطرسة والنفاق والطغيان الحاد. بإمكاني القول أنه على الأعم الأغلب لا توجد دولة باستثناء سويسرا وربما النمسا لا تحشد ميزانياتها السنوية لدعم جيوشها وتعزيز اسلحتها واثارة المشاعر الوطنية من أجل تمجيد القوة العسكرية في بلادها.
في الشرق الأوسط يطغي على بلدانها في مصر والعراق وليبيا وسوريا ولبنان وتونس وغيرها نوعان من العنف:
1 – العنف المنظم المتطور إلى (حرب). يمكن تركيز النظر فيه على التنظيمات الإسلامية بالدرجة الأساسية (داعش) و(القاعدة) وتفرعاتها أو شقيقاتها.
2 – العنف اليومي، المنظم أو غير المنظم ، تمارسه ليلاً ونهاراً عصابات النهب والسلب والاختطاف واغتصاب النساء محمية بميليشيا مسلحة.
هذان النوعان من العنف موجودان إلى جانب وتيرة حروب متنوعة في المنطقة كالحرب السعودية – اليمنية والحرب العراقية مع تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) التي ينتظم فيها اعضاء من مختلف انحاء العالم. كما في مصر وليبيا وسوريا ، أيضاً يوجد نوعان من هذه الاصناف من اعمال العنف والحروب.
كلاهما العنف بأنواعه والحروب المحدودة بأنواعها، أيضاً، هي اشكال متعددة جديدة من انواع (الحماقة) التي أشار إليها فولتير في روايته (البريء). ربما تحمل الحروب الجديدة تغيراً نوعياً عن جميع الحروب وأعمال العنف السابقة في التاريخ البشري. فالحروب الحالية في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر يعلن أحد طرفيها انه يتحدث باسم الله وباسم دين الله وأن أفعاله هي التعبير عن قيم دعا إليها الله، وانها بالتالي تمثل صوت الله، بينما الطرف الثاني من الحرب، أي الشعوب المتضررة، لا يحمل نوايا هتلر وموسوليني وصدام حسين ، بل يحمل نوايا الدفاع عن الدولة المدنية المؤسساتية وتطوير معالمها في مجتمع السلم والتنمية الاقتصادية. هذا الحال الواقعي ربما يستغرق سنوات القرن الـ21 كله، بين دعاة الدولة الدينية والدولة المدنية.
الرأي العام الغربي ربما قد تخلص من الافتتان بالحروب بعد نتائج مدمرة منذ الحروب الاقطاعية والنابليونية والصليبية والهتلرية بالرغم من أن جزءاً من الرأي العام الغربي قد دعم التدخل الامريكي في كوريا في بداية الخمسينات وفيتنام في بداية الستينات وافغانستان والعراق في بداية القرن الحادي والعشرين.
الوضع الحالي في الشرق الأوسط يحتدّ ويتوتر ويتهيج مندفعاً بجزء منه إلى دعوات الحرب، العلنية والخفية ، ويتم الاستعداد لها ومواجهتها بأسلوبين متسارعين:
1- الاسلوب الأول هو تشكيل (التحالفات) وفقا لنوع الصراعات والأماكن مثل (التحالف الدولي) ضد داعش الذي ضم 60 دولة منها امريكا وبريطانيا والمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا . ثم (التحالف الرباعي) بنفس الدعوى، الذي ضم روسيا وسوريا والعراق وإيران. ثم (التحالف الاسلامي) الذي ضم 34 دولة اسلامية بقيادة المملكة العربية السعودية .
2 – الاسلوب الثاني هو الاتجاه المحموم في جميع بلدان الشرق الاوسط نحو التسلح بأحدث انواع الاسلحة والصواريخ المتوسطة المدى والعابرة للقارات . هذا يعني تكريس نسب هائلة من ميزانياتها السنوية للحروب المحتملة ،خاصة في ظروف مالية صعبة اثر انخفاض اسعار النفط انخفاضاً هائلاً.
كما لا ننسى أن الحروب المحلية والاقليمية تحقق للقوى الكبرى مهمتين أساسيتين:
الاولى: هي تجريب الأسلحة الجديدة، التكتيكية والاستراتيجية ،المنتجة أخيراً والمجربة بنطاق محدود في ساحات ليست حربية وقد جربت امريكا مثلا فعالية طائرات اف 32 في غاراتها الجوية على داعش العراق. كما قامت روسيا بتجارب اطلاق صواريخها الجديدة النوع من بحر قزوين الى الاهداف المتعينة في الساحة السورية.
الثانية: هي اختبار خطط الدول الكبرى، البسيطة والخطيرة، ذات الاهداف الهجومية والدفاعية والكلاسيكية. كما تجريب السياسات المتعلقة بها، خاصة سياسات التحالفات الاقليمية والدولية.
لا ننسى أن تاريخ الحروب بين البشر ،بين الدول، كان معدله قيام حرب كل 3 سنوات ..أما في القرن الـ21 فأن الشعوب توخّت الحذر عسى أن يكون قرناً خالياً من الحروب ،خاصة وأن نضال شعوب العالم من أجل السلام العالمي أصبح متعاظماً أكبر من اي فترة أخرى ، في التاريخ الانساني، على اساس ان القرن الحالي هو قرن السلام الديمقراطي وعصر العلاقات الدولية الديمقراطية وعصر وحدة الاراضي الوطنية وعصر حظر الاسلحة النووية ، لكن الحرب لم تتراجع بالرغم من أن شعوب العالم وقادته اكتشفوا انه لا يوجد شيء مثير للاشمئزاز مثل الحروب الاكثر كراهية و سخفاً وحماقة وتدميراً .
كل القادة في الدول الكبرى (روسيا وامريكا وبريطانيا والصين والمانيا وفرنسا والهند وباكستان) يستخدمون دائماً منذ نهاية الحرب الباردة لغة الامن والسلام ونزع السلاح، الذري والهيدروجيني والكيمياوي، وغيره من اسلحة الدمار الشامل. كلهم يؤكدون على النضال من أجل حياة افضل، لكن تطوير الاسلحة والميزانيات العسكرية يجري فيها التطوير والزيادة على نطاق أوسع. ربما لا يريدون حروبا على أراضي بلدانهم لكنهم يحاولون ان يجعلوا المناطق الاخرى امكنة جديدة لمهرجانات حربية جديدة في مقدمتها منطقة الشرق الاوسط ،شمال افريقيا ،منطقة الخليج ، البحر الاحمر، متحررين تماما من ايديولوجيا الاشتراكية واعادة تقسيم ثروات الشعوب بينهم على اسس جديدة متراتبة كما اشار كارل ماركس منذ زمن بعيد بقوله أن الحروب جزء من طبيعة الرأسمالية وتطورها المحتمل.
كما قال لينين في كتابه الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية أن الحروب هي ثمرة حتمية للإمبريالية الاحتكارية وقد استمد لينين هذه النظرية من عالم الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي جون هوبسون، الذي افترض أنه مع انخفاض معدل الربح في بلدانهم يقوم الرأسماليون بالاستثمار في الخارج لتحقيق معدلات ربحية أعلى، من خلال استغلال الايدي العاملة الرخيصة والمواد الخام الرخيصة. يعني هذا أن تأجيل اثار الازمات الاقتصادية في العالم الرأسمالي لا يمكن ان يتم إلاّ باستغلال العالم الثالث حتى ولو ادى ذلك الى نشوب حروب بعيدة عن القارتين الاوربية والامريكية .بمعنى أن الرأسمالية العالمية قد تحولت من (الشكل التنافسي) إلى (الشكل الاحتكاري) المركزي في عصر العولمة .
الملاحظ أن ما يجري الآن في العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن ومالي والنيجر والكاميرون وتشاد وغيرها هو تهديم آلاف مشاريع البنية التحتية ومئات الآلاف من الدور السكنية وتحطيم القاعدة الصناعية والزراعية والنفطية مما يهيئ ظروف العمل الاستثماري – الاحتكاري للشركات والدول الرأسمالية العالمية ،كلها ، لمستقبل اقتصادي قادر لوحده ايجاد الحلول للأزمة الرأسمالية العالمية في امريكا وأوربا. إذ ما ان تتوقف حروب بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا حتى تنهمر شركات الرأسمال الغربي نحو هذه المنطقة بشركات نفطية لإنشاء المصافي المهدمة وشركات البناء والحديد والصلب والصناعات الزراعية والعسكرية والاستهلاكية وغيرها .
ما تقدم في مقالتي هي توقعات أو تكهنات في النظر الى المستقبل القريب. ربما يكون بعضها صحيحاً وبعضها ليس كذلك. لكن المتاح من الوقائع الحالية في منطقة الشرق الأوسط يفرض وضعها في الحسبان فمن المحتمل أن يكون وجودها في الساحة العملية تلقائيا أو طائشاً.