لقد وعدتُ في المقال السابق أن أبحث طبيعة العلاقة القائمة بين «حزب الله» وإيران. إلا أني آثرتُ بحث المتشابه والمختلف بين حربي «تموز 2006» و«8 تشرين الأول 2023 – 27 تشرين الثاني 2024».
يودُّ كاتب هذه السطور أن يبين أن هذا المقال هو حصيلة سماع وقراءة عشرات المقابلات المصورة والبحوث والتقارير، غالبيتها الساحقة من جهات قريبة جداً من بيئة «حزب الله» ومصادر يمكن الوثوق بها. ويمكن التحقق من ذلك عبر مراجعة قائمة المصادر المرفقة. كما يؤكد كاتب السطور أنه إنما يسعى لتقديم حقيقة ما جرى بغض النظر عن معتقداته وتمنياته الشخصية.
حرب «تموز 2006»
في الثاني عشر من تموز 2006، نفذّ «حزب الله» هجوماً على الحدود مع إسرائيل تمكن خلاله من قتل وأسر جندييْن إسرائيليين لغرض مبادلتهما بأسرى لبنانيين قابعين في السجون الإسرائيلية. إثر ذلك شنت إسرائيل هجوماً واسعاً بكافة الأسلحة شمل جنوب لبنان والضاحية الجنوبية في بيروت. حددت إسرائيل أهدافها في الإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين وتدمير «حزب الله» ونزع سلاحه وإنهاء تهديده للحدود الشمالية لإسرائيل.
ألحقت إسرائيل خسائر كبيرة بأسلحة «حزب الله»، إلا أن مقاتليه وقفوا بالند للقوات الإسرائيلية وخاضوا معها حرب عصابات ناجحة اسفرت عن تعطيل ووقف القوات المهاجمة. كما أجاد الحزب استخدام صواريخ الكاتيوشا والكورنيت والصواريخ المضادة للسفن التي فاجأت القوات الإسرائيلية المهاجمة وأصابتها في مقتل. يعود الفضل في ذلك إلى الاستعداد المسبق لقوات الحزب وإعداد خطط سرّية بديلة «لم يعرف بها سوى ثلاثة أو أربعة اشخاص، الأمر الذي منع إسرائيل من الاطلاع عليها» [1]. وكان عماد مغنية، ابن مدرسة منظمة «فتح» وأبرز القادة العسكريين في «حزب الله»، هو مبتكِر ومُعِد ومنفِّذ تلك الخطط البديلة التي أسماها الصحفي اللبناني علي هاشم بخطط من «خارج الصندوق» [1].
لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها وانتهت الحرب بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من اندلاعها امتثالاً لقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1701. يقول طارق متري، وزير خارجية لبنان آنذاك ونائب رئيس الوزراء حالياً، وهنا انقل بتصرف، «إن تراكم مقاومة حزب الله ونجاحه في مقاومة إسرائيل اسهم بما لا شكّ فيه بوصولنا الى القرار 1701». ويضيف «أنا افترض أن كوندوليزا رايس (وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك) هاتفت أيهود أولمرت (رئيس وزراء إسرائيل آنذاك) وقالت له “أعطيناكم ثلاثة وثلاثين يوماً لكي توجهوا ضربة قوية لحزب الله، وها هو حزب الله يدافع عن نفسه بقوة وإن عمليتكم لم تنجح. خلاص انتهى اللعب» [2].
يقول الإعلامي اللبناني قاسم قصير إن «حزب الله تفاجأ بحجم الرد الإسرائيلي الواسع. كان تقدير الحزب أن إسرائيل ستقوم برد محدود عبر تنفيذ عمليات قصف واستهداف دون الذهاب الى حرب واسعة» [3]. أي أن الحزب ما كان بوارد خوض حرب شاملة ضد إسرائيل. وقد أقر الحزب بذلك على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله في لقاء مع قناة الجديد اللبنانية في السابع والعشرين من آب 2006، حيث أكدّ «أن قيادة الحزب لم تتوقع ولو واحد في المئة أن عملية الاسر ستؤدي الى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم. ولو علمت أن عملية الأسر كانت ستقود الى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعا» [4]. وذلك لـ «أسباب إنسانية وأخلاقية واجتماعية وأمنية وعسكرية وسياسية. لا أنا اقبل، ولا حزب الله يقبل، ولا الأسرى اللبنانيون في السجون الإسرائيلية ولا أهالي الاسرى» [5]. يقول الإعلامي اللبناني علي هاشم الذي كان يعمل حينها في قناة المنار التابعة للحزب، إن مونتاج اللقاء تم في قناة المنار. وقد روجع السيد حسن فيما إذا كان يريد حذف هذه العبارة، إلاّ أنه أصر على ابقائها [1].
فشلت إسرائيل في تحقيق انتصار عسكري حاسم على «حزب الله». وحقق الأخير مبتغاه في تحرير أسراه بعد مفاوضات استمرت سنتين. كما أوجد الحزب معادلة ردع جديدة مع إسرائيل، فالأخيرة فهمت جيداً أن لبنان 2006 أقوى بكثير من لبنان 1978 أو 1982، دون الانتقاص من المقاومة البطولية التي أبداها اللبنانيون ضد الاحتلال الإسرائيلي آنذاك.
إخفاق إسرائيل في تحقيق انتصار حاسم في المواجهة البرية مع مقاتلي «حزب الله» لم يمنعها من ممارسة روتينها المعتاد في إلحاق أفدح الأضرار بالمدنيين والبنية التحتية للبنان، فقد دمرت محطات الكهرباء ومطار بيروت. كما تسبب القصف الإسرائيلي بمقتل وجرح الآلاف ونزوح أكثر من مليون إنسان. وأسفر عن تدمير أكثر من 150 ألف وحدة سكنية ما بين تدمير كامل وجزئي [6]. وهذا ردع أيضاَ.
يقول الصحفي علي هاشم إن السيد حسن لم يرد لصور الدمار والتهجير التي تسببت بها حرب «تموز 2006» أن تتكرر [1]. ويمكن قراءة ذلك بين ثنايا لقائه مع قناة الجديد حين سُئِل عن الاستفزاز الإسرائيلي من إنزالات وخطف وخروقات جوية (بعد وقف إطلاق النار)؟ اجاب: «الحرب المفتوحة توقفت في الرابع عشر من آب، ولكن اسرائيل استمرت باستفزازنا حتى نُسْتَدرج إلى مواجهة وإذا ردينا على الاستفزاز نكون قد خرقنا القرار الدولي 1701 وهذا قد يفتح النقاش على قرار ثان يسعى له بوش له علاقة بنزع سلاح المقاومة، نحن ضبطنا أنفسنا ولم نستدرج لاسيما وإن القرار 1701 يعطي لإسرائيل حق الدفاع عن النفس وهذا ما تحفظنا عليه» [4].
هناك بعض عدم الوضوح في تعاطي السيد حسن مع عملية الأسر، فمرة يؤكد أنه ما كان ليقدِم على عملية الأسر لو كان يعلم أنها ستتسبب بالحرب التي حصلت، وقبلها يؤكد أن «كل من يقول إن سبب هذه الحرب الأسيرين هو مخطئ، فكل المعطيات التي تم التوصل اليها أن قرار الحرب كان متخذا ونحن فاجأنا الاسرائيلي بالتوقيت، هو وقع في الفخ وليس نحن». واضاف: «بذريعة أو من دون ذريعة الاسرائيلي كان سيعلن الحرب أواخر ايلول بداية تشرين الأول» [4].
حرب «8 تشرين الأول 2023 – 27 تشرينالثاني 2024»
انتهت اللعبة. وأقرت إسرائيل بإخفاقها في حرب 2006 وبدأت تعد العدة للخروج منتصرة في المواجهة التي لا محالة قادمة. والتي أتت فعلاً. فبعد يوم واحد من عملية «طوفان الأقصى» التي شنَّتها حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، دخل حزب الله في الصراع من خلال شن هجمات على أهداف إسرائيلية متواجدة في المناطق اللبنانية المحتلة، أي حرب محددة السقف، أملاً في منع اندلاع حرب شاملة شبيهة بحرب «تموز 2006». وقد سقط هذا السقف بعد يومين من اندلاع المواجهات حيث أقدمت إحدى الفصائل الفلسطينية (منظمة الجهاد الإسلامي) العاملة من لبنان على استهداف وحدة عسكرية في الأراضي الإسرائيلية. وكان الرد الإسرائيلي فورياً وساحقاً وخارج المنطقة التي حددها «حزب الله» كمنطقة مواجهة. رغم ذلك، مارس الحزب أقصى درجات ضبط النفس عبر تجنب الرد المتماثل على الهجمات الإسرائيلية القاسية التي طالت مدنيين أيضاً. ثم بدأت إسرائيل في تنفيذ عمليات اغتيال واسعة ومؤلمة وصلت إلى اغتيال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لمنظمة حماس، في بيروت في الثاني من كانون الثاني 2024. ولم يردّ «حزب الله» على استهداف بيروت. وبذلك سقطت ثنائية «تل أبيب مقابل بيروت». إسرائيل لم تقم وزناً للسقف الذي وضعه «حزب الله» وقرأت صبره وتأنيه ضعفاً ينبغي استغلاله لضربه ضربة ساحقة.
إسرائيل أرادت الحرب مع «حزب الله» واستعدت لها جيداً حتى قبل عملية «طوفان الأقصى»، فقد طوّرت أنظمة مقاومة الصواريخ (القبة الحديدية) لتقليل أضرار صواريخ الحزب. واستمكنت الغالبية الساحقة من قيادات «حزب الله» وبدأت باغتيالهم واحداً تلو الاخر وبالتوقيت الذي ارادت. كما تمكنتْ من استمكان القسم الأكبر من مخازن صواريخ الحزب.
واستثمر الموساد الاسرائيلي تفوقه الاستخباري والتكنولوجي في ابتكار وسائل حرب ذكية تلحق ضرراً كبيراً وصادماً بـ«حزب الله» تمثل في «عملية الصافرة»، حيث تمكن الموساد من تفخيخ صفقة شراء خمسة آلاف جهاز نداء آلي «بيجر» اشتراها الحزب من شركة تابعة للموساد عام 2022. وسبقتها صفقة أخرى اشترى الحزب بموجبها أجهزة راديو محمولة «ووكي توكي» عام 2015 [7]. وهذا يعني أن كل شخص كان يحمل أي من الجهازيْن المذكوريْن إنما كان يحمل عبوة ناسفة جاهزة للتفجير والفتك بحاملها وقتما يشاء الموساد.
في السابع عشر من أيلول 2024، أقدم الموساد على تفجير كل أجهزة «البيجر» المُفَعَّلة، الأمر الذي تسبب في مقتل العشرات وإصابة الآلاف من عناصر «حزب الله» وغيرهم ممن كانوا يحملونها حيثما وجدوا في لبنان أو خارجه. وفي اليوم التالي، في الثامن عشر من أيلول، فعّلَ الموساد موجة التفجير الثانية، فانفجرت أجهزة الراديو المحمولة «ووكي توكي» بحامليها وتسببت بمقتل العشرات وإصابة المئات. بعض تلك الأجهزة انفجرت بحامليها أثناء تشييعيهم لضحايا انفجارات «أجهزة النداء الآلي».
إضافة للخسائر البشرية الكبيرة جداً، فالجريح أيضاً خسارة كبيرة، خاصة وأن الحزب كان في خضم مواجهة واسعة مع العدو الإسرائيلي، تسبب تفجير أجهزة الاتصال في انقطاع التواصل بين الوحدات المقاتلة والآمرين. إضافة للإرباك والهلع اللذين لحقا بالمدنيين.
في التاسع عشر من أيلول 2024، أدلى السيد حسن بخطاب اقتبس منه قوله إن «جبهة لبنان لن تتوقف قبل وقف العدوان على غزّة. أياً تكن التضحيات، أياً تكن العواقب، أياً تكن الاحتمالات، أياً يكن الأفق الذي تذهب إليه المنطقة، المقاومة في لبنان لن تتوقف عن دعم ومساندة أهل غزة وأهل الضفة». وأضاف مخاطباً إسرائيل: «لن تستطيعوا أن تعيدوا المستوطنين المحتلين المغتصبين إلى المستعمرات في الشمال. وافعلوا ما شئتم. لن تستطيعوا هذا. وهذا تحد كبير بيننا وبينكم. السبيل الوحيد هو وقف العدوان على أهل غزة وقطاع غزة وطبعا الضفة الغربية. لا تصعيد عسكري ولا قتل ولا اغتيالات ولا حرب شاملة تستطيع أن تعيد السكان إلى الحدود أبداً إن شاء الله. بل بالعكس، ما ستقدمون عليه سيزيد تهجير السكان في الشمال» [8]. وهذا ما تمنى الإسرائيلي أن يسمعه ليمضي قُدُماً بمخططه، ففي الثالث والعشرين من أيلول استهدف الإسرائيلي كافة مخازن الأسلحة التي يعرفها وألحق بها خسائر فادحة. أما الخطوة الأخيرة قبل إعلان الحرب البرية، فتمثلت في اغتيال السيد حسن نصر الله شخصياً. وهو ما تحقق في السابع والعشرين من أيلول 2024. لقد اغتيل الأمين العام وكل القادة والمستشارين الذين كانوا معه.
يقول وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت إن الاستعدادات الإسرائيلية للحرب ضد «حزب الله» كانت مكتملة منذ زمن بعيد قبل عملية «طوفان الأقصى» وإنه طلب من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شن هجوم كبير على «حزب الله» في 11 تشرين الأول 2023. إلا أن نتنياهو لم يوافق. ولو حصلت الحرب آنذاك لأدّت إلى نفس نتائج التي تحققت بعد سنة [9].
لقد كرر «حزب الله» نفسه في كلا الحربين؛ فهو الذي قدم لإسرائيل مبررات شن الحرب رغم معرفته بنِيّتِها المبيتة للهجوم عليه. أما المختلف بين الحربيْن فهو أن إسرائيل دخلت متسلحة بأشد المعدات الحربية تقدما وتدميرا. كما سخّرتْ كل التقدم التكنولوجي والاستخباري لابتكار خطط من «خارج الصندوق» تفاجئ بها الحزب. أما الأخير، فقد دخل الحرب مترنحاً ومُقطّع الأجنحة بفعل الضربات الإسرائيلية المسبقة التي ألحقت أضراراً فادحة بكافة أسلحته ووسائل اتصاله وكادره الحربي.
إن عنوان «1 أكتوبر 2024» الذي يطلق على المواجهة الأخيرة بين «حزب الله» وإسرائيل يبدو عنواناً مجتزأ يؤرخ لبدء الأخيرة هجومها البري على لبنان. وهو تفصيل صغير في الحرب سبقته تفاصيل عدة أكثر أهمية كما بيّن المقال.
شكّلتْ «عملية الصافرة» صفحة خطيرة ومؤثرة جداً في المواجهة بين إسرائيل والحزب. المقال القادم سيبحث هذه العملية.
الهوامش:
[1] يوتيوب. جسر بودكاست. لقاء مع علي هاشم. القصة الكاملة لحزب الله: من الولادة تحت النار إلى الطوفان. – المحاوِر: خير الدين الجابري. 28 شباط 2025.
https://www.youtube.com/watch?v=EYVVfPu2tCs&t=284s
[2] يوتيوب. بودكاست هامش جاد – العربي تيوب. لقاء مع طارق متري. الدبلوماسية اللبنانية وكواليس صنع القرار. المحاوِر: جاد غصن. 19 كانون الأول 2024.
https://www.youtube.com/watch?v=Su2ueEzlCWs
[3] موقع يوتيوب. إيران بودكاست. لقاء مع قاسم قصير. حزب الله.. من الآباء المؤسسين إلى طوفان الأقصى. المحاوِر: عدنان زماني. 9 نيسان 2025.
https://www.youtube.com/watch?v=XlH4xMnQy4Q
[4] يوتيوب. العلاقات الإعلامية في حزب الله. مقابلة السيد نصر الله مع قناة الجديد 27-8-2006
https://mediarelations-lb.org/post.php?id=3484
[5] موقع يوتيوب
https://www.youtube.com/watch?v=ZWM2jssvCls
[6] موقع قناة المنار اللبنانية. كلمة السيد حسن نصر الله – تأبين الشهداء على طريق القدس 03 تشرين الثاني 2023
https://program.almanar.com.lb/episode/295711
[7] موقع قناة دي دبليو (DW). عملاء سابقون يكشفون عن تفاصيل مثيرة لعملية تفجير أجهزة بيجر. في 23 كانون الأول 2024.
[8] موقع قناة المنار اللبنانية. كلمة السيد حسن نصر الله – حول التطورات الأخيرة في 19-09-2024.
https://program.almanar.com.lb/episode/350638
[9] الجزيرة نت. هل حقا أضاعت إسرائيل أكبر فرصة لتدمير حزب الله وحماس؟ تاريخ النشر: 7 شباط 2025.
[11] يوتيوب. منصّة “بالمباشر” الالكترونية. لقاء مع عبد الله قمح. خرق البيجر وخلاصة التحقيق… عبد الله قمح بمعطيات من داخل الحزب، بالمعلومات: هكذا نجت الضاحية من أسابيع. المحاوِر: رواد ضاهر. في 26 أيار 2025.