18 ديسمبر، 2024 8:48 م

حرب جديدة على غزة مختلفة بعد سابقاتها ولكن

حرب جديدة على غزة مختلفة بعد سابقاتها ولكن

شن الجيش الإسرائيلي في الأعوام الثمانية الماضية، ثلاث حروب ضد قطاع غزة، لأهداف قالت إسرائيل إنها تتعلق بوقف الهجمات الصاروخية تجاه بلداتها، وتدمير قدرات المقاومة الفلسطينية التي تعرض أمنها للخطر.

-الحرب الأولى (2008)

في 27 ديسمبر/كانون الأول، لعام 2008، شنت إسرائيل حرباً على قطاع غزة، أسمتها “الرصاص المصبوب”، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم “حرب الفرقان”.

وكانت تلك “الحرب”، هي الأولى التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، واستمرت لـ”21” يوما، (انتهت في 18 يناير/كانون ثاني 2008).

وفي اليوم الأول للحرب، شنّت نحو 80 طائرة حربية إسرائيلية سلسلة غارات على عشرات المقار الأمنية والحكومية الفلسطينية (التي كانت تسيطر عليها حركة حماس)، في آن واحد، ما أسفر عن مقتل 200 فلسطيني بالهجمة الجوية الأولى، غالبيتهم من عناصر الشرطة.

وبعد مرور ثمانية أيام على قصف الجيش الإسرائيلي المكثف، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارًا بشن عملية عسكرية برية على قطاع غزة، بمشاركة سلاح المدفعية وجنود المشاة والدبابات.

واستخدمت إسرائيل، أسلحة غير تقليدية ضد الفلسطينيين العزل كان أبرزها قنابل الفسفور الأبيض، واليورانيوم المخفف، الذي ظهر على أجساد بعض القتلى، وفق تقارير صادرة عن خبراء ومراكز حقوقية ومؤسسات أوروبية.

وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أيهود أولمرت، عن وقف إطلاق النار من جانب واحد، دون الانسحاب من قطاع غزة، بعد 23 يومًا من بدء عملية “الرصاص المصبوب”، تلاه في اليوم التالي إعلان الفصائل الفلسطينية هدنة لمدة أسبوع، كمهلة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع.

وقالت تقارير دولية إن الجيش الإسرائيلي ألقى في الحرب الأولى قرابة “مليون” كيلوجرام من المتفجرات على قطاع غزة.

وبحسب مؤسسة “توثيق”، (حكومية) فقد هدمت إسرائيل في تلك الحرب أكثر من (4100) مسكن بشكل كلي، و(17000) بشكل جزئي.

وبلغت خسائر الحرب الاقتصادية في قطاع غزة أكثر من “مليار” دولار أمريكي، حسب “توثيق”.

وبحسب إحصاءات لجنة توثيق الحقائق التابعة للحكومة الفلسطينية (حكومة حماس السابقة) والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)؛ فقد أدت عملية “الرصاص المصبوب”، إلى مقتل أكثر من 1436 فلسطينيًا بينهم نحو 410 أطفال و104 نساء ونحو 100 مسن، وإصابة أكثر من 5400 آخرين نصفهم من الأطفال.

واعترفت السلطات الإسرائيلية بمقتل 13 إسرائيليا بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين.

وقد رفضت تركيا الحرب الإسرائيلية، ووصفتها بالعدوان على قطاع غزة.

وحمّل رجب طيب أردوغان (رئيس الحكومة في ذلك الوقت) إسرائيل المسؤولية الكاملة عن اندلاع المعارك.

كما اعتبر أردوغان “عدوان إسرائيل”، إهانة يجب أن تعتذر عنها لتركيا، التي كانت تبذل جهوداً “لتجديد التهدئة في غزة، بالتوازي مع الوساطة بين سوريا وإسرائيل”.

وعلى إثر ذلك، أعلنت أنقرة وقف هذه الوساطة احتجاجاً.

كما شن أردوغان هجوماً لاذعاً على قادة إسرائيل الذين، قال إنهم “يستهدفون تحقيق مكاسب انتخابية من جراء عدوانهم الوحشي، والذي سيظل عاراً يلاحقهم”.

وأكد أن الشعب التركي “لن يغفر أبدا لإسرائيل عدوانها على غزة”، الذي وصفه بأنه “جريمة ضد الإنسانية”.

وطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، ورفع الحصار، وفتح معابر غزة.

كما أجرى أردوغان، اتصالات سياسية، بالقادة والمسؤولين المعنيين، على المستويين الإقليمي والدولي.

وقام كذلك بجولة أوسطية (31 ديسمبر/كانون أول 2008-3 يناير/كانون ثاني 2009)، لم تشمل إسرائيل، وزار خلالها دمشق وعمان والقاهرة والرياض.

وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا، أدانت فيه بشدة، ما وصفته بـ” المجزرة التي ترتكبها إسرائيل”، ودعت لوقفها فورا.

من جانبها انتقدت إسرائيل الموقف التركي، واعتبرته “عاطفيا”، وهو ما رفضه أردوغان، الذي أكد أنه “موقف سياسي”، لأن تركيا لا يمكنها أن تقف “مكتوفة الأيدي تجاه الظلم”.

وعقب انتهاء الحرب، وبّخ أردوغان، الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس، خلال جلسة، جمعتهما في مؤتمر دافوس نهاية شهر يناير/كانون ثاني 2009، حيث اتهم إسرائيل بقتل الأطفال والنساء، قبل أن ينسحب من الجلسة.

وعقب الحرب، قدّمت الحكومة والمؤسسات الإنسانية التركية، مساعدات كبيرة إلى قطاع غزة، وبدأت عدة منظمات خيرية، بافتتاح مقرات دائمة لها، أبرزها وكالة التعاون والتنمية التركية “تيكا” (حكومي)، ومؤسسة الهلال الأحمر التركي (حكومي)، وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية IHH (أهلية).

الحرب الثانية (2012)

في الـ14 من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، شنت إسرائيل حرباً ثانية على قطاع غزة، أسمتها “عامود السحاب”، فيما أسمتها حركة حماس “حجارة السجيل”، واستمرت لمدة 8 أيام.

وبدأت الحرب عقب اغتيال إسرائيل، لأحمد الجعبري، قائد كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، في اليوم نفسه، تنفيذاً لقرار اللجنة الوزارية المصغرة للشؤون الأمنية الإسرائيلية (كابينت)، الذي اتخذته سراً في صبيحة اليوم السابق، على الرغم من التوصل إلى مسودة اتفاق تهدئة مع المقاومة بوساطة مصرية، آنذاك.

وبينما لم يعلن الجانب الإسرائيلي عن الرقم الإجمالي لضحايا هجمات الفصائل الفلسطينية على المدن الإسرائيلية، في هذه الحرب، تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن سقوط 6 قتلى (2 عسكريين، 4 مدنيين)، فضلاً عن 240 جريحاً.

وأسفرت تلك العملية العسكرية التي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم معركة “حجارة السجيل”، عن مقتل 162 فلسطينيًا بينهم 42 طفلاً و11 سيدة، وإصابة نحو 1300 آخرين بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فيما قتل 20 إسرائيليًا وأصيب 625 آخرين، معظمهم بـ”الهلع”، بحسب وسائل إعلام إسرائيلية.

وهدمت إسرائيل 200 منزل بشكل كامل، خلال هذه العملية، ودمرت 1500 منزل بشكل جزئي، إضافة إلى تضرر عشرات المساجد وعدد من المقابر والمدارس والجامعات والمباني والمؤسسات والمكاتب الصحفية.

وقال الجيش الإسرائيلي إنه استهدف 980 منصة صاروخية موجهة تحت الأرض، و140 نفقًا أرضيًا لتهريب البضائع والأفراد، و66 نفقًا للمقاومة الفلسطينية، إضافة إلى استهداف 42 غرفة عمليات تابعة لـ”حماس” و26 موقعا لتصنيع الصواريخ والقذائف المحلية.

وأعلنت كتائب القسام حينها تمكنها من ضرب مواقع وبلدات إسرائيلية بـ 1573 قذيفة صاروخية واستهدفت طائرات وبوارج حربية ومدفعيات إسرائيلية، واستخدمت لأول مرة صواريخ بعيدة المدى وصلت إلى “هرتسيليا” وتل أبيب والقدس المحتلة.

الحرب الثالثة (2014)

في السابع من يوليو/تموز 2014، شنت إسرائيل حربها الثالثة على قطاع غزة، أسمتها “الجرف الصامد”، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم “العصف المأكول”.

وكانت تلك “الحرب”، هي الثالثة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، واستمرت “51” يوما، (انتهت في 26 أغسطس/آب 2014).

وعلى مدار “51 يومًا” تعرض قطاع غزة، الذي يُعرف بأنه أكثر المناطق كثافة للسكان في العالم، (1.9 مليون فلسطيني) لعدوان عسكري إسرائيلي جوي وبري، تسبب بمقتل 2322 فلسطينيًا، بينهم 578 طفلاً (أعمارهم من شهر إلى 16 عاما) ، و489 امرأةً (20-40)، و102 مسنًا (50-80)، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

وجرح نحو 11 ألفا آخرون، (10870)، وفقا لإحصائيات صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية.

وارتكبت إسرائيل مجازر بحق 144 عائلة، قُتل من كل عائلة ثلاثة أفراد أو أكثر، بحسب التقرير.

في المقابل، كشفت بيانات رسمية إسرائيلية عن مقتل 68 عسكريًا من جنودها، و4 مدنيين، إضافة إلى عامل أجنبي واحد، وإصابة 2522 إسرائيلياً بجروح، بينهم 740 عسكريًا، حوالي نصفهم باتوا معاقين، بحسب بيانات عبرية.

وشنت القوات الإسرائيلية قرابة 60 ألفًا و664 غارة على قطاع غزة، جواً وبراً وبحراً.

وحسب إحصائية، أعدتها وزارة الأشغال ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)

بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فإن عدد الوحدات السكنية المهدمة كلياً بلغت 12 ألف وحدة، فيما بلغ عدد المهدمة جزئياً 160 ألف وحدة، منها 6600 وحدة غير صالحة للسكن.

وبحسب “أونروا”، فإن مخلفات الحرب القابلة للانفجار، لا تزال تشكل تهديدا كبيرا ومستمرا للمدنيين ولعمليات إعادة الإعمار في غزة.

وتقول أونروا إنه وبعد عامين على انتهاء الحرب، تم فقط إزالة ما يقارب نحو 3 آلاف مادة متفجرة من أصل 7 آلاف.

ووفقا للوكالة فإن 16 شخصاً لقوا مصرعهم وأصيب 97 آخرون، بينهم 48 طفلا، في حوادث مخلفات الحرب القابلة للانفجار منذ عام 2014.

ويبلغ عدد المنازل المأهولة بالسكان ويشتبه بوجود قنابل وصواريخ إسرائيلية غير منفجرة أسفلها، 40 منزلاً موزعةً على أنحاء القطاع، وفق دائرة “هندسة المتفجرات”، التابعة لوزارة الداخلية بغزة.

وخلال الحرب، أعلنت كتائب القسام الجناح المسلح لحركة “حماس” في 20 من يوليو/تموز 2014، عن أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري للجيش الإسرائيلي شرق مدينة غزة. وبعد يومين، اعترف الجيش الإسرائيلي بفقدان آرون، لكنه رجح مقتله في المعارك مع مقاتلي “حماس”.

وتتهم إسرائيل حركة “حماس” باحتجاز جثة ضابط آخر يدعى هدار غولدن قُتل في اشتباك مسلح شرقي مدينة رفح، يوم 1 أغسطس/آب 2014، وهو ما لم تؤكده الحركة أو تنفه.

وكانت الحكومة الإسرائيلية، قد أعلنت عن فقدان جثتي جنديين في قطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية عام 2014، لكن وزارة الدفاع عادت وصنفتهما، مؤخرا، على أنهما “مفقودان وأسيران”.

ووفق بيانات للأمم المتحدة، فإن مراكز الإيواء التابعة لـ “أونروا” استطاعت استيعاب ثلاثمائة ألف نازح، في أكثر من واحد وتسعين مدرسة، ومنشأة تابعة للمنظمة الأممية، بفعل الحرب.

وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، قد قال في بيان في عام 2015 “إن نحو 60 ألف فلسطيني من مشردي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، ما زالوا بلا مأوى”.

وتعهدت دول عربية ودولية في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 بتقديم نحو 5.4 مليار دولار أمريكي، نصفها تقريباً تم تخصيصه لإعمار غزة، فيما النصف الآخر لتلبية بعض احتياجات الفلسطينيين، غير أن إعمار القطاع، وترميم ما خلّفته الحرب، يسير بوتيرة بطيئة عبر مشاريع خارجية بينها أممية، وأخرى قطرية، وتركية.

وبحسب بيان لحكومة الوفاق الفلسطينية فإن المبلغ المخصص لإعادة الإعمار، لم يصل منه سوى 30%.

وخلال 51 يومًا من الحرب، قدّرت وزارة الاقتصاد الفلسطينية الخسائر الإجمالية المباشرة وغير المباشرة، في المباني والبنية التحتية، وخسائر الاقتصاد الوطني في قطاع غزة بكافة قطاعاته بـ 5 مليارات دولار تقريبًا.

ولحق الضرر 500 منشأة اقتصادية من المنشآت الكبيرة و الاستراتيجية، والمتوسطة والصغيرة.

ووفق وزارة الزراعة، فإن الحرب، تسببت بخسائر في القطاع الزراعي، وصلت 550 مليون دولار.

وتقول وزارة الأوقاف، إن إسرائيل دمرت خلال العدوان 64 مسجدا بشكل كلي، إضافة إلى تضرر 150 مسجدًا بشكل جزئي.

واستهدفت الطائرات الإسرائيلية، أكثر من 20 مستشفىً ومركزًا صحياً، بحسب وزارة الصحة.

ووفق نقابة الصيادين، فإن نحو 4 آلاف صياد، يعيلون أكثر من 50 ألف نسمة، تعرضوا لخسائر فادحة طيلة العدوان، تجاوزت 6 ملايين دولار.

وتسببت الحرب، برفع عدد العاطلين عن العمل إلى قرابة 200 ألف عامل، يعيلون نحو 900 ألف نسمة، وفق بيان لاتحاد العمال الفلسطينيين.

وفي 26 أغسطس/آب 2014، توصلت إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، برعاية مصرية، إلى هدنة أنهت حرب الـ”51″ يوماً، وتضمنت بنود الهدنة استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية غير المباشرة في غضون شهر واحد من بدء سريان وقف إطلاق النار..

حرب أخرى على قطاع غزة، هذه المرة بعد ستة أعوام وليس عامين أو ثلاثة كما الحروب التي سبقتها. بدأها الجيش الإسرائيلي من حيث انتهى في حرب عام 2014 إذ كان هدد بقصف برج “هنادي”، لكن لم يقصفه وقتها وانتهى بقصف برج الظافر المكون من 13 طابقًا، وقبله برج “المجمع الإيطالي” الذي مال على جنب وكأنه نسخة متداعية عن برج بيزا المائل، لتبدأ هذه الحرب بقصف “هنادي”، وأبراج أخرى تعتبر رمزًا لجغرافيا قطاع غزة.

ومع ذلك لا تشبه هذه الحرب الحروب السابقة على القطاع، بل تبدو أكثر رعبًا وشمولية. لقد تغيرت قواعد المعركة تمامًا، فالجيش قصف المباني الكبيرة والصغيرة والمتوسطة مسبقًا بصاروخ صغير يجبر ساكنيها على الرحيل، وأحيانًا دون هذه الصواريخ المسبقة، فيركض السكان حفاة صارخين من المنزل. وبعضهم لم تمهلهم القنابل الإسرائيلية وقتًا للرحيل ودُفنوا تحت منازلهم في مشاهد أقرب لما فعله نظام الأسد والقصف الروسي بالمدن السورية، وقد فقدت عائلات كامل أفرادها في كل مدن قطاع غزة. كما قصفوا شارع الوحدة، وهو أكثر شوارع قطاع غزة حيوية وفي عصب المدينة في ليلة السادس عشر من مايو/أيار الجاري دون سابق إنذار، وكان العدد الجملي للضحايا ذلك اليوم 42 مدنيا، بينهم 16 امرأة و10 أطفال.

بلغ عدد شهداء القصف الإسرائيلي على غزة حسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ 248 شهيدا، بينهم 66 طفلا و39 امرأة. أما عدد الجرحى فيتعدى 1948 جريحا.

كون أغلب ضحايا الغارات الحربية من المدنيين ولا سيما أطفال وأمهاتهم جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وفق المحرر العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل يؤجل مؤتمر صحافي احتفالي كان سيتباهى فيه بنتائج الغارات على شبكة الأنفاق وما كبدته من خسائر في وسط مقاومي حماس، لكنه في اللحظة الأخيرة أمر الصحافيين بشطب عبارة “العبقرية العسكرية” لرئيس الأركان الإسرائيلي، ونسيان الأمر برمته.

صحفيون يخاطرون بحياتهم

تعمد الطيران الإسرائيلي قصف الأبراج التي تضم أكبر عدد من مكاتب الصحافة مثل أبراج الجوهرة والجلاء وشروق التي تضم 33 مؤسسة صحافية بينهم مكتب قناة تلفزيون العربي والجزيرة ووكالة الأنباء الأميركية، تحت ذريعة أنها تحوي مؤسسات خاصة بحركة حماس، وهذا الاستهداف للصحافة يجعل صعوبات العمل تزداد إلى جانب الخطر المحدق بحياة الصحافيين والصحافيات في غزة.

الأمر معقد جدًا، تكاد تكون مستحيلة خاصة في الليل، فنحن نشهد نوع جديد من القصف وبشكل يومي، قد تكون هناك 20 غارة عسكرية في نفس المربع السكني بنفس الوقت من عدة طائرات معًا، ويتكرر الأمر بمناطق مختلفة، ما يجعل القصف كثيف جدًا والوضع خطير، ونحن نجازف جدًا أكثر من الحروب السابقة كي نخرج بصورة يراها العالم كله.

ومن الملاحظ أن استهداف أطراف القطاع الريفية في جنوبها وشمالها في هذه الحرب أقل مما كان عليه في الحروب السابقة، وكأن الطيران الإسرائيلي أراد استهداف رمز السيادة في القطاع -أي المدينة وأبراجها ومكاتبها- وركز على نشر الرعب عبر استهداف مباني سكنية في الليل، لدرجة أن غالبة أهل غزة على وسائل التواصل، يتمنون لو أن الليل لا يأتي. كما باتوا يتشاركون النصائح حول ما يجب فعله لو علقوا بين أنقاض منزلهم ليلًا، وكيف يستطيعون البقاء على قيد الحياة أطول وقت ممكن، كأن يستمروا بتحريك أطرافهم قدر المستطاع، وهو الأمر الذي لم يحدث بتاتًا في المرات السابقة للعدوان.

تقول إيمان عبد أم في الثلاثينات من عمرها تسكن وسط مدينة غزة: “نحتاج إلى عمر كامل كي نصلح نفسية أطفالنا بعد هذه الحرب. إنها تختلف عما مضى، تركز على تدمير صبرنا واحتمالنا، تثير الرهبة بالقنابل الضخمة”، مضيفة أنها اعتقدت أن الحروب انتهت في القطاع، فبدأوا في تأسيس منازلهم وإنجاب مزيد من الأطفال، ولكن كل مرة تبدأ حربًا أكثر رعبًا لتخطف كل شيء.

موقف مختلف من حماس

أما المختلف الآخر في هذه الحرب فهو التعامل مع الإعلام. إذ رأينا أن حماس استخدمت الإعلام بطريقة مختلفة تمامًا، فلا مقاطع فيديو لإطلاق الصواريخ، كما لم تسمح لأحد التصوير هناك، ولم تخرج الصواريخ من وسط المدينة كما حدث في حرب 2014، كما أنها لم تبث جنازات مقاتليها أو صورهم أو أسماءهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

هذه المعركة خاضتها حماس بتفاخر أقل، وتغطية إعلامية محدودة، على عكس الصواريخ التي تنزل على إسرائيل بصورة أكثر من أي وقت آخر في تاريخ معارك إٍسرائيل كما تقول الإحصائيات العسكرية. ولا ننسى أن تصريحات السياسيين داخل حماس أقل بكثير أيضًا1. وقد حاولنا أن نتحدث مع أحدهم لكن دون فائدة، إذ يبدو أنهم يعملون بالمثل الإنكليزي القائل إن “الأفعال تتكلم أكثر من الأقوال”، لكن هذا لا ينطبق على أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام في بداية الحرب إذ خرج مرتين متتالين ليتحدث عن الصاروخ الجديد.

تقول إسرائيل إنها استهدفت نفقًا للمقاومة تحت الأرض في وسط المدينة يبلغ طوله عدة كيلومترات، أطلقت عليه اسم “مترو حماس” في مدينة لم يجرب أغلبها ركوب المترو الحقيقي في عواصم العالم.

نجحت حماس في تحويل هذه الحرب إلى حرب عصابات أكثر من كونها حرب حركة على دولة كما المرات السابقة، فهي ليست الوحيدة في المعركة، بل هناك الحركات القريبة لإيران كالجهاد الإسلامي والقريبة من الشيوعية مثل الجبهة الشعبية، إلا أن جميعها سلاحها واحد وأسلوبها واحد في القتال، تخرج الصواريخ من تحت الأرض وتختفي فجأة وكأنها دودة الأرض.

“إنها القيامة”

هدأ أبو عبيدة ولم يهدأ القصف، ولم يهدأ طلب الناس للنجدة، بل ازدادت الصواريخ شراسة، والقنابل ارتجاجية، وأثارت الرعب منذ بدايتها مع نهاية شهر رمضان وقدوم عيد الفطر، فلم يشعر الناس بالمشاعر المقدسة في نهاية رمضان، والفرح مع العيد، بل غلب الخوف على كل شيء. ولم يلبس الأطفال ملابسهم الجديدة، حتى أن الأم فداء الأعرج حاولت أن تلبس بناتها ملابس العيد وإن كانت النتيجة البقاء في المنزل، لكنهن رفضن في كل الأحوال، واكتفين بالبقاء حول بعضهن البعض علَّ الارتعاش يقل.

طوال 11 يوما، استيقظ أهالي القطاع كما لو أنهم بأحد تلك الأفلام التي يستيقظ بطلها ليجد أن يومه يتكرر بشكل متشابه منذ الصباح حتى المساء، ومع نهاية كل يوم يتوقع موته المحتم. لم يقل الخوف لحظة، لكن ازداد الدمار.

وقد قصفت الطائرات كل شارع ومكتبة ومطبعة ومكتب صحافة حتى مصنع قهوة “بنجور” الشهيرة لم يسلم من صواريخهم. والجرائم لا تظهر إلا متأخرًا بسبب معايير موقعي فيسبوك وانستغرام، فقد مُنعت الوسوم (“الهشتاغات”) الخاصة بالحرب في قطاع غزة، ووضعت شركة فيسبوك تقييدا شديدا على النشر وحذفت مئات آلاف المنشورات الداعمة لغزة والناقمة على العملية الإسرائيلية، وقيدت العدد ذاته من الحسابات، ما جعل النشر صعبا جدا، ودفع كثيرا من الناس إلى كتابة العبارات دون نقاط بحيث لا تستطيع الخوارزميات فلترتها آليًا وحذفها.

“إنها القيامة”، عبارة تكررت من ساكني قطاع غزة لوصف الوضع. هي فعًلا القيامة وما بعد القيامة، الجحيم ذاته، فغزة تواجه ثلاث أزمات حقيقية: حصار مستمر منذ 12 عامًا تسبب في غلاء فاحش للمعيشة، انتشار فيروس كورونا بشكل كبير -فغرف العناية المركزة محجوزة بالكامل لمرضى يحتاجون التنفس عبر الأجهزة-، والآن الحرب التي تفوقت في هذا الجحيم على الحصار والفيروس، وقصفت المختبر الوحيد الذي يقوم باختبارات كوفيد-19 لأهالي القطاع. يقول أشرف القدرة المتحدث باسم وزارة الصحة في حديث خاص:

المنظومة الصحية قبل العدوان كانت تعاني نقصا حادا في 50% من المقومات الصحية والأدوية، وكانت تعمل بشكل مكثف في مواجهة جائحة فيروس كورونا إلى جانب استمرار تقديم الخدمات. لكن مع بدء العدوان فعّلنا خطة الطوارئ لدينا لاستثمار ما هو متوفر من إمكانيات. نحن الآن نعمل بهذه الإمكانيات المحدودة في مسارات ثلاثة، أولًا إنقاذ حياة جرحى العدوان، ثانيًا استمرار جهود مواجهة جائحة كورونا المستجد، وثالثًا استمرار تقديم الخدمات الاعتيادية كالولادة والجراحة العامة وغيرها.

مأساة متكررة

يعاد مشهد النكبة من جديد في ذكرى النكبة 1948 الذي يصادف 15 مايو/أيار الجاري، إذ أخذت العائلات ما تستطيع حمله من ملابس وطعام وهربت إلى مدارس الأمم المتحدة لتشغيل وإغاثة اللاجئين في الشرق الأدنى (الأونروا)، بعد أن قصفت دبابات الاحتلال بشكل عشوائي منازل المواطنين في بلدتي بيت لاهيا وبيت حانون شمال قطاع غزة.

يقول عدنان أبو حسنة مسؤول الإعلام في “الأونروا” خلال تصريحات إعلامية “لو رميت حجر في القطاع لأصبت المئات بسبب الزحام الشديد والكثافة العالية، فكيف الأمر مع طائرات حربية بحجم الإف16”، لافتًا إلى أن هناك قرابة 50 ألف عائلة هربت إلى مدارس الأونروا لتحتمي بجدرانها.

هرب الآلاف بعد قصف منازلهم، وأصبح الدمار في قطاع غزة أشبه بدمار أحياء الضاحية الجنوبية في حرب يوليو/تموز 2006 على لبنان، في مشهد لم يتوقع أحد أن يراه في غزة. ففي الحروب السابقة مهما اشتد القصف، لن يكون كما هو عليه الآن، بل مشاهد الدمار متفرقة إلى حد ما، الآن من السهل رؤيتها على امتداد شارع واحد، ومنطقة بأكملها.

ومع ذلك، لم يخرج قتلى من تحت الأرض، ولم يختنق رجال المقاومة كما كانت تتصور إسرائيل. لقد دمروا المدينة وكأنهم في لعبة “فورت نايت” الإلكترونية بحثًا عن المقاتلين في مدينة قالوا أنها موجودة تحت غزة، لكن لم يجدوهم، بل انهالت عليهم مزيد من الصواريخ ليصبح عددها قرابة 3000 صاروخ أطلقت من قطاع غزة منذ العاشر من شهر مايو/أيار الجاري.

وكما في كل حرب تصبح المصادفات أقرب إلى قصة خيالية، فهذه المكتبة انهارت، ولكن بقيت روايات غسان كنفاني ودواوين شعر محمود درويش فوق الركام، وهذا الخطيب أنس اليازجي يبحث عن خطيبته شيماء أبو عوف بين الركام في شارع الوحدة، فربما يجدها حية ويحتفلان معًا بالزفاف المنتظر، إلا أن النهايات ليست خيالية، بل هي نهايات غزة…فقد ماتت شيماء. جاءت التهدئة المفاجئة، وخرج الناس يقضون الأيام التي ضاعت، ويبدؤون عيد الفطر بتوقيت غزة هذه المرة وليس السعودية، وكأن الـ11 يومًا كانت ثقبًا في الزمن لا يريد أحد أن يتذكره، يتفرجون على المباني والأبراج المهدمة وقد تغيرت معالم غزة مرة أخرى ولكن ليس إلى الأبد، فهذه الجولة انتهت لكن الحرب لم تنتهِ بعد.