23 ديسمبر، 2024 9:00 ص

وفكرت في النار، لكنني خشيت أن يتحول إحراق كتاب لا نهائي إلى نار لا نهائية تخنق الكون بالدخان وتذكرت بأن أفضل مكان لإخفاء الورقة هو الغابة .
خورخي لويس بورخس

استعادة تاريخية:
مثلما تأتي الصحراء على الأرض الزراعية ، ثمة صحراء أخرى يمكن أن تأتي أو تزحف باتحاه الثقافة، في الحالين هناك خطر محدق بالشجرة والكلمة، بالورقة والكتاب وإذا كان التصحر، وهو غير التصحير، نتيجة متوقعة بالنسبة لأرض الرافدين المهملة فإن تصحر الثقافة وإحراق تاريخها الطويل هو ليس نتيجة طبيعة لاهمال العقل بوصفه منتجاً لانماط التفكير بل عملاً مدبراً الغرض منه إرجاع الثقافة إلى ما وراء العصور الحجرية، هذا ما جرى يوم 14/4/2003 لمبنى المكتبة الوطنية ومحتوياتها في بغداد، هنا وقفة تأملية لإستعادة ذلك التاريخ الذي انجرفت فيه الثقافة نحو تزوير تاريخها ومدلولاتها وإبدالها بثقافة عقائدية خالية من المعنى، ثقافة تسعى إلى تجريد الجمال من محتواه، ثقافة تؤخذ بجريرة الالتباس الواقع بين السياسي والثقافي أو الموقف الأخلاقي واللاموقف، لكن الحياة الثقافية الكونية مفتوحة على آفاق إنسانية لا نهائية، هذا ما تتحدث عنه تجارب الأمم، وهي المثال العالي الآخر الدال على تماهي سلطة المعرفة بسلطة الكلمة .
1
اومبرتو إكّـو وحريق المكتبة الوطنية ببغداد ..
في رواية (أسم الوردة) للايطالي امبرتو إكّـو التي جسدها، سينمائياً، المخرج الفرنسي (جان جاك آنود) عام 1986 وقام بادوار الفلم كل من الممثل (شون كونري) والأمريكي (كريستيان سلاتر)، ثمة برج كبير أشبه بالمتاهة، يحتوي على مكتبة كبيرة يوجد فيها الكثير من الكتب الثمينة النادرة وتضم مآثر المعرفة الإنسانية في القرون الوسطى، كما تحتوي أيضاً على مؤلفات كانت قد مُنعت من التداول لأسباب شتى، من بين هذه الكتب الجزء الثاني من الكتاب المهم (لأرسطوطاليس) المعنون (فن الشعر) وأذا كان كما روى (الشعبي) أن في كل كتاب سراً فان سر هذا الكتاب هو أن من يعثر عليه ويلمسه بيدين عاريتين قد لا يشفى من المرض، فهذا الكتاب المشار اليه أعلاه عرفته اوروبا في جزئه المعروف منه عن طريق تلخيص (أبي الوليد محمد بن أحمد ابن رشد) الذي ترجمه في القرن الثالث عشر (هـرمن) الألماني أما الجزء الثاني المتعلق بالكوميديا والذي ورد ذكره في اسم الوردة فهو كتاب مشكوك في صحة وجوده أصلاً حتى الترجمة العربية لا تأتي على ذكره وقد أشار إلى ذلك مرة الشاعر العراقي عبدالرحمن طهمازي في جلسة صيفية حين كنا أنا وصديقي الشاعر الراحل رياض ابراهيم في زيارة لمنزل الشاعر ببغداد في اواخر الثمانينات، وهي على كل حال قد وردت ناقصة في المخطوط العربي الوحيد الموجود في المكتبة الوطنية بباريس والذي يحمل الرقم (2346( كما أكد لي الأستاذ الألماني (Herr Hobert) الذي يجيد الفرنسية والقليل من العربية ويعمل مدرساً للغة الألمانية للوافدين والمقيمين والطلبة الأجانب في معهد DAA بمدينة شتوتغارت الالمانية .
الطريف والغريب في آن أن ابن رشد الذي قد حاول تطبيق قواعد أرسطو على الشعر العربي، لكن محاولته تلك تعرضت للاخفاق بسبب أن النظرية التي أنطلق منها كانت خاطئة وسبب ذلك يعود إلى أن الترجمة التي أعتمد عليها لوضع تلخيصه وهي من توقيع (أبي بشر متي) أعتبرت أن التراجيديا هي المديح والكوميديا هي الهجاء وهذا الإخفاق يرويه امبرتو إكو في هذا المقطع من روايته الذي يقول فيه: (أن كنيسة القرون الوسطى كانت تعتبر ان الضحك هو من الشيطان لأنه يُحرر الأنسان من الخوف ومتى تحرر الإنسان من الخوف ما عادت به حاجة إلى الله) وكذلك يرويها الكاتب الأرجنتيني (خورخي لويس بورخس) بطريقته المشوقة جداً في كتابه المعنون (الألف) وفيه أن ابن رشد لم يستطيع أبداً أن يدرك معنى كلمتي تراجيديا وكوميديا ويعتبر الكاتب الأرجنتيني أن قصة ابن رشد حسب قوله: (ليست الا رمزاً للإنسان الذي كنته وأنا اكتب هذه القصة وإني لكي اكتب هذه القصة كان عليّ أن اصير الشخص الذي أكتب عنه وإني لكي أصير هذا الشخص كان عليّ أن أكتب هذه القصة وهكذا إلى ما لانهاية) .
داخل هذا البرج الكبير حيث المكتبة الكبيرة المتشعبة كان (غيوم دي باسكرفيل) القسيس الفرانسيسكاني يبحث عن الجزء الثاني من كتاب (أرسطو) بين الكتب العديدة التي طالعته فقد أستوقفته رسالة (ابي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي/طوق الحمامة في الألفة والالاف) في الباب الأول من الرسالة وفي أحد صفحات المخطوط قرأ هذا العنوان (الكلام في ماهية الحب) فارتاحت له نفسه وتذكر أنه في الآثار (وأريحوا النفوس فأنها تصدأ كما يصدأ الحديد) ثم تذكر عبارة أخرى تقول (من عشق فعفّ فمات فهو شهيد) فجأة شب حريق في المكتبة فأتى على محتوياتها كلها بما في ذلك كتاب أرسطو ورسالة ابن حزم وكتب نفيسة أخرى، في حريق المكتبة المنغلقة على الكثير من أسرار الفكر الإنساني، نشتم حريقاً مماثلاً كان يندلع في مخيلة الأرجنتيني بورخس كلما حرك في يده مفاتيح المكتبة العربية في القرون الوسطى وللوصول إلى هذه المكتبة كان ثمة طرقات ثلاث هي طريق النار/طريق الوهم/طريق الحدس ولكن بورخس أختار طريق النار، عمداً، هذا الكاتب الضرير الذي جاء بعد حريق المكتبة المتخيلة التي ضمت كتاب أرسطو بزهاء ستة قرون ونيف أهدى احدى قصائده لحارق مكتبة الاسكندرية وذلك لاعتقاده أن أحراق المكتبة التي تحتوي على احلام الجنس البشري كلها لا يهدد شيئاً لأن وقتاً سيأتي تُعاد فيه كتابة كل ما أحرق ولا أخال أن بورخس بكلامه هذا يخاطب أيضاً من جاؤوا في الألفية الثالثة وأحرقوا المكتبة الوطنية ببغداد، فبقصيدته التي أهداها لحارق مكتبة الأسكندرية نال بورخس من الفاعل لأنه عرف بحدس المبدع أن ما تعرض للحرق سرعان ما سيعيدونه ويستعيدونه الكّتاب أو الشعراء هناك أو في بلاد ما بين النهرين، لا فرق، ذاك لأنهم مؤمنون بما يكتبوا ويفكروا إضافة إلى أنهم كائنات مولعة بصناعة المعرفة انتظاراً للمستقبل الذي سيُعيد ما أُحرق ولفورة الحياة المتدفقة في أرواحهم التي تحركها الآمال والأحلام وظلال المستقبل فرحلة الخراب المتعاقبة لا تستطيع أن تُبدد العقول الموجهة للافكار ولا أبالغ أن قلت من أن بلاد ما بين النهرين خاصة كانت ولازالت حاضنة للكثير من العقول التي تستحق الإطراء والتخليد لأنها تنتج المعرفة مثلما تصنع الجمال والحياة والمعنى .
2
ظلال واطلال المكتبة الوطنية ..
وتلفتت عيني ومذ خفيت عني الطلول تلفت القلب
الشريف الرضي
المكتبة الوطنية ببغداد قد تبدو اطلالاً أحرقها الغزاة ولكن ظلال العقول التي غمرت بمؤلفاتها هذه المكتبة بادراجها ورفوفها وأرشيفها وممراتها على مر السنين قادرة من جديد على أن تُمنطق و تُصفف المعرفة في تراتبية معاصرة حضارية جداً تفرض الحماس كموقف يجتاح الحجج الواهية ويمنح المتحمس ويزوده بالشحنات المعرفية التي تؤهله للوصول إلى المستقبل بالرغم من الفوضى العارمة التي تُهندس هذا الخراب وتنشر فيه ملامح الموت لتطغي على ملامح الحياة، ففي هذا الحيز، أسميه حيزاً، من الحرائق يجب أن تصب المعرفة شظايا المستقبل وليس رماده الذي سيتخذ أتساعه شكلاً يفور بالمبدعين الذين يُراد لهم على الضد من هذه الحرائق، وكأن بالعنقاء ماثلة أمامنا، وأن يكونوا من ذوي الصوت العالي الذي سينطلق إلى موقف مختلف عن المواقف القديمة والتقليدية والمستهلكة تجاه قضية المعرفة المختزنة في بطون الكتب والمخطوطات والوثائق وغيرها، ولكي نستعيد الاشياء علينا أن لا نهدر الوقت بالانتظار لأستعادة الروح والمداد ورائحة الورق وأغلفة الكتب وعناوينها وألوانها وخطوطها وظلالها المعرفية من جديد في هذا الصرح المعرفي الحضاري والتاريخي، فمن المعروف عن المكتبة الوطنية ببغداد، التي يعود تأسيسها إلى العام 1920 اواخر الاحتلال البريطاني للعراق بمبادرة عدد من المثقفين والمؤرخين والعلماء العراقيين كما تبنت حكومة الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم عام 1961 هذه المكتبة وأصدرت حينذاك قانوناً يضمها لوزارة المعارف التي كان على رأسها الدكتور فيصل السامر ثم ألحقت بعد ذلك إلى وزارة الثقافة والأعلام، أنها خزين الذاكرة العراقية التي قد يسألنا عنها المستقبل، وأخيراً أود أن أشير إلى المبادرة الجميلة للاسباني (خوان فونت) الذي قدم عمله المسرحي (مسرحية ألف ليلة وليلة) تأليفاً وأخراجاً والذي يستوحي من خلاله الحريق الذي تعرضت له المكتبة الوطنية ببغداد يوم 14 إبريل من عام 2003 .

هوامش:
1ـ الأصول التأريخية للحضارة العربية الأسلامية في الشرق الأقصى/بغداد/1977/فيصل السامر
2ـ أمبرتو إيكو/أسم الوردة/رواية نقلها عن الايطالية أحمد الصّمعي/دار أويا/1999
3ـ الخطابة/أرسطوطاليس/عبدالرحمن بدوي
4ـ نصوص من كتاب الرمل/خورخي لويس بورخس/ترجمها عن الاسبانية إدريس الكنبوري