23 ديسمبر، 2024 6:02 ص

حديث مع المترجمة الفورية كاترين

حديث مع المترجمة الفورية كاترين

التقيتها اثناء دراستي في القسم الروسي بجامعة باريس عام 1967 . كانت كاترين تكتب بحثا عن يسينين , وقد ادهشتني بعمق معرفتها للغة الروسية آنذاك . وهكذا تطورت اللقاءآت في اجواء ذلك القسم الذي كان بادارة البروفيسورة صوفي لافيت مشرفتي العلمية , وظهور نجوم فرنسية ساطعة متخصصة آنذاك في الادب الروسي مثل نيكيتا ستروفه وغيره …
واستمر الحوار مع كاترين اثناء اللقاءآت في النشاطات الثقافية العديدة والمتنوعة للجالية الروسية في باريس , واللذين كانوا يصرون على تسميتها بالروسية يكاترينا وليس بالفرنسية كاترين , بل وكانوا يستخدمون – بعض الاحيان – اسم الدلع بالروسية , اي كاتيا , ليس الا .
انقطع هذا التواصل عام 1971 عندما انهيت دراستي في باريس وعودتي الى بغداد . بعد عدة سنوات ( في اواسط السبعينات ) استلمت فجأة رسالة من كاترين تقول فيها انها ستكون في فندق ميليا منصور ببغداد بصفة مترجم فوري في مؤتمر عالمي حول الاتصالات السلكية واللاسلكية . والتقينا في بغداد مرة اخرى , وعرفت منها اخبارها , وكيف انها اصبحت تعمل في منظمة الامم المتحدة مترجمة فورية , حيث تجلس في كابينة صغيرة وتضع السماعات على اذنيها وتستمع الى كلمات الوفود وتترجمها الى لغة اخرى فورا ( تعمل في اطار لغات ثلاث هي الفرنسية والانكليزية والروسية ). دخلت الى فندق ميليا منصور وزرت قاعة المؤتمر وشاهدت كابينات المترجمين الفوريين , ولاحظت كيف يعملون بتوتر شديد , وكيف يغيرون المترجم بعد كل نصف ساعة من العمل , وتعرفت على الوثائق التي كانت بحوزتهم وهي تضم معظم المصطلحات الخاصة بموضوع المؤتمر وبخمس لغات , والتي اعدٌتها لجنة علمية خاصة في الامم المتحدة قبل انعقاد المؤتمر بفترة , وتم توزيعها على المترجمين الفوريين في حينها لتسهيل مهمة الترجمة الفورية , وعرفت ايضا ان المترجم الفوري يحصل على بطاقة الطائرة والسكن في نفس الفندق مجانا , ويستلم 250 دولارا يوميا اجورا لعمله .
عادت كاترين بعد لقاء بغداد – الذي استمر ثلاثة أيام – الى مقر عملها في جنيف , ولم نلتق طوال اكثر من اربعين سنة . وفجأة استلمت منها رسالة الكترونية قبل ايام ( تموز / يوليو 2016) , تقول فيها انها ستمر بموسكو لمدة يومين , وهكذا التقينا مرة اخرى . وسنحت الفرصة لي اخيرا ان اتحدث معها عن تفاصيل حياتها المهنية باعتبارها مترجمة فورية في الامم المتحدة ترتبط بثلاث لغات , واخبرتها باني اود الكتابة عن مسيرة حياتها , خصوصا واني عملت طوال حياتي في مجال اللغات , فوافقت بكل سرور.
حدثتني كاترين انها كانت تعشق لغتها الفرنسية , ثم بدأت تدرس اللغة الانكليزية في المدرسة الابتدائية , وعندما كان يجب ان تختار لغة اجنبية ثانية , اختارت اللغة الروسية , ولكن اهلها اختاروا لها اللغة الاسبانية لانهم كانوا يعتقدون انها اسهل لها وان الروسية لغة صعبة جدا , ولكنها أصرت على الروسية , بل واضربت عن الطعام لثلاثة ايام احتجاجا , وهكذا وافق اهلها على اختيارها . ضحكت انا وسالتها لماذا كل هذا العناد , فقالت لانها قررت ان تكون مترجمة , ولما شاهدت ان معظم التلاميذ اختاروا اللغة الاسهل , فقررت ان تختار اللغة الاصعب كي تكون المنافسة لاحقا اسهل في مجال الترجمة . عندما لاحظ اهلها عشقها للغات وانها تريد ان تكون مترجمة , أخذوا يساندونها , وهكذا ارسلوها في العطلة الصيفية الى لندن لقضاء شهرين في بيت عائلة انكليزية يعرفونها , واستمرت كاترين بالسفر الى لندن كل صيف وتطوير لغتها الانكليزية اثناء دراستها في المدرسة , واستمرت كذلك بدراسة اللغة الروسية ايضا في المدرسة وعند معلمة خصوصية من اللاجئين الروس في باريس . عندما انهت كاترين المدرسة , كانت تتقن بشكل جيد جدا لغتين اجنبيتين , فالتحقت بالقسم الروسي في جامعة باريس , وتخرجت هناك متخصصة باللغة الروسية وآدابها . وجدت فرصة عمل بالصدفة في باريس مع وفد روسي كان يصور فلما سينمائيا عن حياة الكاتب الروسي اليكسي تولستوي , الذي عاش فترة في الغرب , ونجحت نجاحا باهرا في عملها مترجمة , وهكذا فهمت انها تستطيع تحقيق حلمها للعمل في مجال الترجمة , فالتحقت بمعهد الترجمة في باريس لتطوير مهاراتها الترجمية . وهذا المعهد يعد من اشهر معاهد الترجمة في العالم , اذ يقبل فقط طلبة يتقنون لغتين اجنبيتين , ويجري امتحانا صعبا لكل الراغبين بالدراسة في اللغتين اضافة الى امتحان في اللغة الفرنسية . وهكذا التحقت كاترين في هذا المعهد العتيد ودرست سنتين فيه ونجحت في صقل موهبتها واصبحت جاهزة لتحقيق حلمها والعمل في مجال الترجمة . بدأت تترجم تحريريا , ولكنها انتقلت الى الترجمة الشفهية بالتدريج . سألتها عن السبب في هذا الانتقال , فقالت انها كانت تستيقظ من النوم عدة مرات يوميا لانها كانت ترى في منامها انها لم تترجم الكلمة تلك كما يجب وانها كان من الافضل ان تضع كلمة اخرى بدلا عنها اكثر دقة , وتنسى تلك الكلمة في الصباح , ولهذا وضعت دفترا وقلما قرب سرير النوم وكانت تكتب الكلمة البديلة , ولكنها لم تقدر ان تفهم ما كتبته في الصباح , وهكذا قررت الانتقال الى الترجمة الشفهية للتخلص من هذه الكوابيس , واضافت كاترين , انها فهمت الان ان قرارها كان صائبا , وانها خلقت للترجمة الشفهية , ووصلت الى قمتها – وهي الترجمة الفورية . سألتها الا تجدين صعوبة في تنوع المواضيع عند الترجمة الفورية , فقالت نعم بالطبع ولكنني الان امتلك تجربة كبيرة تساعدني على تذليل الصعوبات . قلت لها اظن ان الترجمة التقنية هي الاصعب , فقالت لا , بل الترجمة السياسية . تعجبت انا من ذلك القول , فاجابت , ان الترجمة التقنية محددة ومحدودة , ويمكن الاستفسار عن مفرداتها عند الضرورة, اما الترجمة السياسية , فانها تعتمد على مفردات غير محددة للوصول الى اهداف متباينة باسلوب غير مباشر , وغالبا ما تعتمد على الضبابية , وقالت انها كانت شاهدة لعدة مواقف في مجلس الامن تم ايقاف الجلسات فيه نتيجة اعتراضات على عمل المترجمين الفوريين .
سألتها اخيرا عن رواتبهم هناك وهل هي مجزية وتتناسب مع هذا العمل الفكري المتوتر, فقالت انهم يستلمون اجورا عن كل يوم عمل مقدارها 650 دولارا , وان يوم العمل هو 6 ساعات ( ثلاث ساعات صباحا وثلاث ساعات بعد الظهر, والاستراحة بعد كل نصف ساعة عمل ) , وانهم لا يستلمون اي شئ عن اليوم الذي لا عمل فيه . سألتها – وهل انت راضية عن هذه الاجور وشروطها , فقالت نعم , وكذلك بقية الزملاء . قلت لها ألم تتعبي من مسيرتك الطويلة في هذه المهنة الصعبة ؟ فضحكت وقالت – ابدا , انني لحد الان اذهب كل صباح للعمل بكل سرور ونشاط , ولا استطيع ان اتصور حياتي بدون عملي في الترجمة الفورية .