كل ما في بغداد خلال ليلها يختلف عما تكتظ به شوارعها عند شمس نهارها، فهي تجيد تدوير النفايات السياسية وتحويلها إلى طاقة “كهروجمالية” وكأنها تريد أن تقول أن من يملك التأريخ لايمكن أن يكون جثة مجهولة على قارعة طريق، ومابين أنين عشاقها و هواجس أبناءها، أجد نفسي فردا مابين أفراد موزعين على عتبات شوارع غاطسة بالاحتمالات “القلقة”، تحياتنا صمت، وحديثنا ترقب، غرباء لا يعرف احدنا الأخر، ولكن تجمعنا رغبة الوصول إلى المنزل بعد إن بات هدفنا مشترك بالحصول على سيارة تقلنا ما بعد العاشرة ليلا، وهو وقت ليس متأخر فقط، بل انه محظور ومحذور بـ”توقيت العاصمة”.
عادة ما يشارف عملي على الانتهاء في ساعات متأخرة من الليل، فأكون بعدها في متناول الطريق، وكما هو معروف إن بغداد تخلد إلى النوم مبكرا، لذا فأن آلية الوصول إلى البيت دائما ما تكون أشبه بعابر للحدود دون “موافقة رسمية”، بيد إن جمهور الليل يختلف في بعض تفاصيله عن ملامح الوجوه الشائعة في النهار، فما خبئ و كان لائذاً بالصمت تجده يتفجر غضباً أو غناءاً أو عتباً أو”أشياء أخرى”، أو على العكس فمن كان نشطاً حركاً طوال اليوم قد ركن إلى التعب في أخر الساعات، والحديث هنا عن فئة تتكاثر ليلاً، تتجاهر علناً بما صنعت، رائحتها تدل على نوعها، شجاعتها في التفريغ والتقريع تبدوا أقوى حضوراً، بعد إن باتت مطالبهم تصنف تحت عنوان “حديث السكارى”.
صادف ذات مرة وما أكثر تلك المصادفات في إحدى ليالي عودتي إلى المنزل، أن استقلت سيارة لنقل الركاب اتضح لي فيما بعد إنني المنحرف الوحيد عن جادة مذهبهم، فهم جميع استغرقوا في الخمر لدرجة الهذيان، فكان بجانبي رجل يجلس اتخذ من كتفي وسادة له، حاولت إيقاظه ففزع مرعوبا قائلا : قد أعطيت الأجرة
أرجوك لاتوقظني ثانية، فيما كان ألآخر يصرح لصديقه بأنه يريد أن يتزود بأكبر قدر ممكن من الخمر، فأسعار النفط قد هبطت وحتماً إن التقشف سيطال “المشروب”، حينها ستفرض الضرائب العالية وسيكون صعب التناول أو الوصول أليه طبقا لما تسمح به موازنته الشخصية لهذا العام.
أغادر تفاصيل ما بعدها وأتوقف عند ليلة شتوية ممطرة، بعد أن أوقفني رجل شارف على الستين من العمر، يرتدي ملابس أنيقة، علامات الثلج تعتلي مقدمة شعره، يستقل سيارة حديثة، أسلوبه في الحديث يدلل على ثقافة واسعة، سألني وهو يبكي لماذا قتلتم يوسف؟؟!!!.
اندهشت في بادئ الأمر لكنني عرفت انه مخمور، فحاولت إن أجاريه في الحديث مبينا له أنني لا اعرف يوسف لكنه كان يصر في ادعاءه ، مسترسلا في آهاته، يشرح لي إن يوسف كان طالبا بالمرحلة الأخيرة في كلية العلوم، خطف من أمام منزله وعثر عليه في أحدى النفايات مقتولا.
كان يتكلم بإيقاع يتصاعد شيئا فشيئا، صارخاً سأشتكي عند المسيح عليكم، سأخبر نبي رحمتكم بما فعلتم بابني يوسف، حاولت تهدئته لكن فاجعته بولده اكبر من أن تسكّن بتبرير عابر، تركته مختنقا بعبراته المتحشرجة في صدره، عارفا أنني بريء من دم يوسف كبراءة الذئب، غير انه وضعني أمام مراجعات مؤلمة تجاه ما يتكرر يوميا في العراق، فأن كنت لم اقتل يوسف سواء كان نصرانياً او مسلماً اوصابئيا ام من أي دين او طائفة اخرى،ً فلماذا تعاملت معه ببرغماتية أخيه “لاوي” الذي كان رافضا لقتله ولكنه كتم السر فقتل يوسف وأبيه عشرون عاما.