22 ديسمبر، 2024 11:30 م

حديث ما ولت أمة أمرها بين صعود الغرب ونزول العرب

حديث ما ولت أمة أمرها بين صعود الغرب ونزول العرب

قال تعالى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 35]
حين يقرأ المرء حديث (ما ولت أمة أمرها) ينتابه شعور لأول وهلة أن الخبر يناسب أهل ذلك الزمان من المسلمين حيث لا يحتاجون فيه إلى أكثر من رجل يكون أعلم أهل زمانه عادل في الحكم يقسم بينهم الأموال بالسوية. لكن مع صياغة شكل العالم السياسي والاقتصادي الجديد والذي بني من خلال مؤسسات كبيرة ووضعت النظريات فيها ومع التطور التكنولوجي ودخول العالم عصر السرعة وصناعة الأجهزة الرقمية والروبوتات والطفرة الهائلة في مجال الاتصالات.. كيف يمكن أن نقنع العالم بأن هذا المبدأ هو الحق الذي يقود إلى إسعاد البشرية بل كيف نقنع من ينتمون للإسلام من أولئك الذين استعلوا قليلا بعد أن جرفهم المد المادي وراحوا ينظرون إلى مفاهيم الدين على أنها أمور ثانوية في الحياة ليس من المهم أن يعتنوا بها وأن ما يقومون به أهم بكثير مما ذكر قبل أربعة عشر قرناً..
كيف يمكن أن نقنعهم بأن ما ورد عن أمير المؤمنين سنة باقية لآخر الزمان؟.
جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (ما ولت أمة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا)
فهل يمكن أن يكون حديث خاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وآله ـ محض خبر لا يمتد أثره إلى واقعنا المعاصر !؟. لا يقول بهذا مسلم قد عرف مقام النبوة ورسالة الإسلام. إن هذا الحديث يعبر عن سنة إلهية سنتطرق إليها في القسم الثاني.
وهنا .. وبالعودة إلى الإشكال السابق في تقدم الغرب وتأخر المسلمين كيف نفسر مضمون الحديث وخصوصاً أنه يذكر أن ما من أمة تولي أمرها إلى رجل وفيهم من هو أعلم منه إلا يذهب أمرهم سفالاً.. فهل ولت أمه الغرب الأعلم؟
إن القضية لا ترتبط بشخص الأعلم فقط بل أن الأمر يرتبط بالسبب الذي يتم إبعاد الأعلم فيه عن الساحة فهو داء قد تجاوز الغرب شيء منه بشكل جزئي من خلال حرية التعبير عن الرأي واحترام حقوق الإنسان, وهذا الأمر يجعل من رأي الأعلم فيهم و في كل مؤسسة من مؤسساتهم محترم يوجه أممهم باتجاه معين وهذا هو بحد ذاته احترام للعقل البشري وهو المراد من حديث ما ولت أمة أمرها فهو منهج إصلاحي, قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود : 117] ..
لكن ..
هذا الأمر ليس مطلقا فهنالك قانون يحكم البشرية جمعاء فأن كان هؤلاء يتقدمون في ميادين معينة فإنما يسيرون من جانب آخر نحو السفال ولا أستطيع إلا أن أشبه ما هم عليه الآن من تقدم إلا كتقدم الأمم السابقة ومنها الأمة الإسلامية حين حكمت من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً رافقها تطور علمي يشهد الغرب مال لفضله عليهم إلا أن تلك الحضارة كانت تصعد من جانب وتسير نحو الهاوية من جانب آخر .. حيث الظلم الثورات والملوك والغانيات والصراع على المملكات التي أردت الأمة في النهاية على يد التتار..
فهذا التقدم الذي أمامنا في العالم يرافقه نفس الظلم بين بني البشر والصراعات التي تنمو باضطراد حيث نسمع في كل يوم عن بارجة مدمرة اتخذت الموقع الفلاني ودولة طورت السلاح الفتاك وأخرى امتلكت القنبلة النووية ورابعة أنشأت قاعدة, وتحالف تقدم على تلك الحدود وسياسي بارز أصدر تصريحا خطيرا وما خفي أعظم فلا أستطيع أن اصف هذه التحركات إلا كلعبة شطرنج هادئة يتقدم الخصوم فيها نحو بعضهم شيئا فشيئا حتى تحين ساعة الصفر تنتهي فيها اللعبة بسقوط أحد الطرفين.. بل هي الأيام التي تتقلب فيها الدنيا بين الحضارات منذ خلقت البشرية فترتفع واحدة وتسقط أخرى قال تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن : 29] مرعب هو ذلك الحديث الذي يقول .. لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثي العالم..
وهنا لا نتوقع أبدا أننا سنستثمر الأحداث لننجو من كماشة الدول العظمى أو أن يكون تقدمنا على حساب دمارهم فأولا هي ليست من أخلاقياتنا أن نتمنى زوال الحياة البشرية بصورة بشعة كي نتقدم نحن ولهذا ليس في حسابات الإنسان الرسالي أن يعول على دمار العالم ليتقدم هو, ذلك هو العجز التام.
وثانيا إننا لم نستطع الخروج من شرنقة تلك الدول رغم حربين عالميتين حصدتا أكثر من ثمانين مليون إنسان منهم, فالنتيجة إذن أننا سنبقى أيضا على ما نحن عليه.
ولهذا سواء أوقع ما تحدثت الأخبار عنه أم لم يقع فإنما المعول عليه هو وجود مشروع فكري أخلاقي في مقابل ما نعتقد أنه جهل مركب قد استولى على العقول التي تعتقد أنها باستطاعتها إدارة نظام الحياة لكي يواكب التطور.
حيث نشاهد أننا في الدول الإسلامية وخصوصا مجتمعنا العربي ليس إلا مقلدين للنظام العالمي في التخطيط لإدارة بلداننا من الناحية السياسية والاقتصادية بل نحن تبع لتلك السياسيات المرسومة عالمياً
ولهذا أثقلنا بمديونية اقتصادية للدول الرأسمالية جعلت تلك البلدان المتقدمة تملى علينا سياساتها وتصوغ لنا شكل النظام الذي دائما ما يجعلنا تحت سيطرة القوى العظمى فلا نحن من الدول ذات الهيمنة الاقتصادية المؤمنة عسكريا لنفرض آراء تضطر الدول للقبول بها حفاظا على مصالحها الاقتصادية فنؤمن لنا أرباحاً عادلة تنعش الاقتصاد الداخلي .. ولسنا من البلدان الصناعية لنكتفي ذاتيا, بل جل ما تستطيع عمله حكوماتنا هو جدولة الديون الخارجية وزيادة الضرائب على الأفراد لسد الحاجات الضرورية كي نبقى في ذيل التطور العالمي يجتاحنا وباء التأخر في كل مجالات الحياة, فضلا عن التفاوت الطبقي والفقر والحرمان والأوبئة وتفشي كل ما يستتبع هذه الحالات من انحرافات تؤدي ضياع الأجيال. ولهذا علينا أن لا نتوقع أبدا أن الوضع سيتغير ما لم نعالج النفسية المجتمعية.
لكن من أين تكون بداية مشروع كهذا, يغير النفسيات ويغير السلوك؟
من المؤكد أن الأمراض الاجتماعية تحتاج إلى تدرج في إعادة تنظيم سلوك الأفراد وباعتقادي أن الخطوات الأولى تبدأ بثقافة احترام الآراء كمقدمة أساسية دعا إليها الله تعالى في كتابه العزيز في أصول التحاور فأمر نبيه ـ صلى الله عليه واله ـ بأن يجعل نفسه نظير الخصم {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ : 24]
التتمة في القسم الثاني