الانسانية بمعناها المتداول قيمة كبيرة وخلق مطلوب للتعامل ، لكنها مهما علت لن تساوي الدين فضلا عن ان تتفوق عليه ، بمعنى ان مايعتقده غير الدينيين او ما يحاول ان يروجه أعداء الدين تعويضا لوضعهم السايكولوجي والاخلاقي من ان اعتناق الإنسانية والمناداة بمعانيها وادعاء التمسك بقيمها هو مساو للدين او ربما يتسامى عليه او يعوض عنه هو محض ارهاصات و تصورات نفسية “ان صدقت” ، وتخرصات وادعاءات “ان هي كانت كاذبة”
فالشعوب التي تتبع الانسانية وتؤمن بها قد تعاملك بعنصرية او عرقية ولن تشعر -هي- بأي ذنب او تقصير تجاه الانسانية بسيب انها تعوض ذلك بالرفق بالكلاب والقطط ، وبمساعدة المشردين في شوارع بلدانها او بصرف الاموال التي جنوها من طرق مشروعة او غير مشروعة على فقراء الامم الاخرى في احسن الاحوال وفي منظر مانسميه اليوم “اعلى حالات الانسانية” ، ونثني عليه،
فحتى هذا الانفاق الذي هو اعلى درجات الانساتية فغلا لما يشكله من صعوبة على النفس لايجرؤ عليها كل الأغنياء ،فانما هو انفاق للحياة الدنيا والشعور بارتياح الضمير عند الصادقين القلائل منهم ، اما اغلبه فهو لمآرب دنيوية احلاها لفت انظار الناس الى كمية الانسانية عند المنفق ،، وهو مرّ . قال تعالى ﴿وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًا فَسَآءَ قَرِينًا﴾
فانت تنفق للانسانية لكن دون ايمان او دين ، فالغاية محددة او مادية بحتة حتى وان كانت خالصة لوجه الانسانية دون مصالح ، فالامر يختلف جذريا عن ﴿ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
فهؤلاء حققوا امرين خطيرين عظيمين في آن معا هما رفد الانسانية التي درت عليهم راحة البال والضمير ،والدين الذي ساق اليهم الاطمئنان النفسي والاستقرار العقلي الشخصي من مصير مابعد الموت وملاقاة الله واليوم الآخر . الانسانية وحدها لاتحقق ذلك ولاتوصلك اليه.
ولذلك ترى الفرق بين شعوب الانسانية وشعوب الدين -مهما حاول المنسلخون رفع اولئك و الحط من هؤلاء – ان في شعوب الانسانية قد ترى واحدا من كل مليون غني يساعدون الناس لغايات انسانية وينفقون من اموالهم او من اوقاتهم ، بينما تجد في شعوب الدين وبالاخص دين المسلمين في كل الف نفر منفقا لوجه الله بالسر او العلن ، وفي كل مدينة من حواضر المسلمين الالاف ينفقون من اموالهم ومن جهودهم وانفسهم احيانا ، بل لايكاد يخلو زقاق من احد هؤلاء ، فما الذي دفعهم ياترى؟ انه الدين وابتغاء مرضاة الله والنجاة في الاخرة عند لقاء رب العالمين .
﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَـَٔاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
اما الذي ينفق من غير دين فهو﴿كَٱلَّذِى يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٌ فَتَرَكَهُۥ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْءٍۢ مِّمَّا كَسَبُواْ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ﴾
فالمنفق -منطلقا من الدين- لايتوقف ولايرجو في الدنيا مجدا او عوضا وانما دافعه ذاتي لذا تراهم كثر يتزايدون ولاينقصون ، واموالهم ليست من مصادر الفن او القمار او الزوجات الغنيات او او مما نراه من “منفقي الانسانية” ، ذاك ان منفقي الدين قرأوا قول الله تعالى ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، فمهما صدقت الانساتية لن تأتي بدافع كهذا يثبت ويرسخ في نفوس اهل المال الحلال الذي جاء من جهد او ميراث فيصرفه الديني دون تردد وعلى مصارفه التي وجهه الله اليها من زكاة وصدقات، ، أما الانسانية -غير المتزاوجة مع الدين-ففي ابهاها ماسلف ذكره اما في اسوئها فهو انفاق الحياة الدنيا وهؤلاء ﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍۢ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍۢ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
ونتحدث عن دين ليس كاي دين ، دين الإسلام الذي حث على كل عمل انساني ونهى عن كل مايضر الناس “خير الناس مع الناس” حديث شريف ،
ثم ان الدين قد ينجب الانسانية ويقود اليها ولكن العكس لن يكون، فما سمعنا ان رجلا انسانيا وجد الدين من خلال عمله الانساني او اهتدى اليه -اقصد في تعاليمه الانسانية التي اتبعها- ولكننا راينا ان كل المتدينين الحقيقيين انسانيون ،
الله هو الذي خلق الانسان وهو اختار له الدين منهاجا ونبراسا ودالا على خير الدنيا والاخرة ،ولم يقر له شيئا اسمه “الانسانية” عقيدة للتعبد والوصول الى مرضاته تعالى بل من خلال الدين امره ان يكون انسانيا ، نعم “ان لم يكن اخا لنا في الدين فهو نظير لنا في الإنسانية” وهذا ايضا من هدي الدين ، فخاطب الدين كل الناس ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ وتكلم عن كل الناس ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
فاذا كنت انسانيا فاتّبع الدين والا فلن تنفعك انسانيتك وحدها بشيء ان كنت لاتؤمن بالله واليوم الآخر ، فالله تعالى اراد التوحيد اولا والعبادة ثم الانسانية واخلاقها وقيمها ، ﴿إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾
فالانسانية كلها امة واحدة ومامورة اولا ان تعبد ربا واحدا ، ثم يات بعد ذلك كل شيء تابعا ، فالناس جميعا أوجدهم الله الذي إختار لهم “هاديا ومنهاجا” الدين ، وليس ميثاق جنيف او معاهدة الحقوق فكل هذا من افعال الانسانية المحمودة نعم، ولكن من وضع تلك المواثيق من الناس قادر ان ينتهكها ويكيلها بمكيالين ان غاب عنه وازع الضمير او ان خلا الى نفسه المريضة والشيطان دون رقابة او حساب “من دين”، وهذا مانلمسه في مصالح السياسة والدول ، ففي لحظات تختفي الانسانية وتغيب مظاهر العدل والعطف ولاينفع المظلومين ميثاق ولا معاهدة ، الا الذين عاهدوا الله وواثقوه فلن يخلفوا ميثاقه لا في السر ولا العلن ، ولا في تحقيق المصلحة الدنيوية او غيرها ، فالدين يحكم الضمير دون تقلبات وتسيطر النصوص الدينية الظاهرة الواضحة البينة على العقل دون انحرافات وتصورات و تهيمن فكرة حساب اليوم الاخر مابعد الموت على النفس والوجدان فتمنعها من الطغيان والظلم دون استثناءات ، اذ ان مشوار المكوث في هذه الدنيا مع الاموال والبنين والجاه والحكم مهما طال فانه قصير ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾
فالناس مهما كثروا فهم عباد الله ومن عامة خلقه ولو شاء جعلهم امة واحدة ، ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾فالعبادة اولا والتوحيد والدين ثم تاتي الانسانية والقيم تلقائيا و امرا جبريا وشعورا وجدانيا لايتغير بتغير المصالح والاهواء ، اما ادعاء الانسانية او اعتناقها فلن يحقق كل تساؤلات الانسان ومخاوفه ، فالاصل العبادة والايمان والاقرار ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ وقال تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾
فالحصر المستفاد من قوله: “إلا ليعبدون” قصرُ علةِ خلق الله الإِنسَ والجنَّ على إرادته أن يعبدوه، وهو قصر إضافي كما يقول علماء اللغة والتفسير ، وأنه من نوع “قصر الموصوف على الصفة”، وهو قصر مقلوب باعتبار مفعول {يعبدون}، بمعنى إلا ليعبدوني وحدي، أي: لا يشركوا بي غيري في العبادة، فهو رد الشرك وليس قصر غاية الخلق بالعبادة، “فإننا وان لم نطلع على غايات حِكَم الله تعالى وكامل حكمته من خَلق جميع الخلائق، لكنَّا نعرف نصا وعقلا أن الحكمة من خلقهم ليست ان يعبدون فحسب” ، لأن حِكَمه سبحانه وغاياته من أفعاله كثيرة لا نُحيط بها، وذكر بعضها لا يقتضي عدم وجود غيرها ، انظر ذكر الله حِكمة اخرى للخلق غير تلك في قوله: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
و بعد فمهما كانت قيم الانسانية عظيمة وسامية وجميعنا نطمح اليها ونلتف حولها لانها ديمومة الناس ، لكن تبقى معاييرها قابلة للتلاعب ويبقى معتنقوها عرضة للتردد او التراجع و يبقى الثابت الآمر الناهي ، هو الدين .
فالحمد لله رب العالمين