23 ديسمبر، 2024 9:03 ص

اعربت غالبية البريطانيين عن اعتقادهم بان على صحيفة “الديلي ميل” ان تقدم اعتذارا الى زعيم حزب العمال البريطاني اد ميلباند جراء المقال الذي نشرته واتهم اباه بانه لم يكن يحب بريطانيا. هذا يعني ان الرأي العام البريطاني لا يشعر بالارتياح عما فعلته الصحيفة، ويعتقد ان ما فعلته كان خطأ يستوجب الاعتذار. يختلف هذا عن موقف الرأي العام البريطاني عام 2009 حينما كشفت صحيفة “الديلي تلغراف” عن فضيحة المصروفات المالية للنواب، وكيف انهم كانوا يستغلون عضويتهم البرلمانية لتحقيق منافع مالية حتى وان كانت من الناحية الشكلية ضمن القوانين و”الضوابط”. واضح ان الرأي العام البريطاني لا يتقبل التشهير والتسقيط واستغلال الاعلام لسلطته وامكانياته وقدرته على التأثير على الرأي العام والاساءة الى الاشخاص بالطريقة التي قامت بها “الديلي ميل”. وظهر هذا الموقف حتى على لسان غرماء السياسي البريطاني الذين وقفوا الى جانبه ورفضوا الاساءة الى ابيه. لم يثنهم الخلاف والصراع السياسي عن التمسك بالقيم الاخلاقية العامة التي ينبغي التمسك بها في المجتمع.
اختلاف الموقفين يعطينا تصورا عن دور الرأي العام في المجتمع الديمقراطي وهو دور يمكن ان يرسم الحدود المقبولة للدور الذي يمكن ان تلعبه الصحافة في هذا المجتمع.
في المجتمع الديمقراطي يمثل البرلمان اعلى سلطة تشريعية ورقابية. لكن الاعلام يمثل سلطة رقابية اعلى من البرلمان، رغم ان الاعلام مؤسسة غير منتخبة، على عكس البرلمان. لكن هذا هو التطور الاهم الذي طرأ على الديمقراطية التمثيلية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي اضاف عناصر ومؤسسات جديدة الى الديمقراطية، مثل الاعلام ومنظمات المجتمع المدني وغير ذلك. وهذه الاضافات سمحت باستخدام مصطلح جديد هو ا”لديمقراطية الرقابية”، وهو الاسم الذي اطلقه جون كين، في اشارة الى الدور الرقابي الذي تمارسه مؤسسات غير منتخبة، في اطار ديمقراطية تمثيلية. غير ان الاعلام لا ينصب نفسه رقيبا مصونا عن المحاسبة في هذه الديمقراطية الرقابية، فهناك سلطة رقابية اعلى من الاعلام، تلك هي سلطة “الرأي العام” الذي اصبح بالامكان قياسه عبر وسائل رصد اتجاهات الرأي العام التي قدمتها المدنية الحديثة. وبذا تكون لدينا ثلاث سلطات رقابية في المجتمع الديمقراطي الحديث هي: البرلمان، الاعلام، والرأي العام.
هذا هو ما حصل عام 2009 وما يحصل الان في بريطانيا. في الحالتين كان الرأي العام هو الحكم. في المرة الاولى كان الرأي العام راضيا بما قامت به صحيفة “الديلي تلغراف”، فنجحت حملة الصحيفة، وهو الان غير راض عما قامت به “الديلي ميل”، وهي الان تتراجع وسط عدم رضا الناس. وهذا لا يتعارض مع حرية الصحافة والرأي والتعبير والنشر والوصول الحر الى المعلومات التي يضمنها النظام الديمقراطي. يتمتع الاعلام بكل هذه الحريات بدون شرط مسبق، عدا شرطي الخصوصية والامن الوطني، كما هو معروف. لكن يتعين على الاعلام ان لا يتجاوز السقف الذي يرسمه الراي العام والمعروف عبر طرق علمية، وليس عبر الانطباعات العامة.
اقدمت الديلي ميل اعتذارا جزئيا، لكن الواضح ان من ان تقدم اعتذارا كاملا الى زعيم المعارضة البريطانية، بعد ان قال 93% من الناس ان عليها ان تفعل ذلك. فان هي فعلت ذلك، تكون قد حققت الانسجام مع مبادئ النظام الديمقراطي، اما اذا دفعتها العزة بالاثم الى مواصلة رفض تقديم الاعتذار، فهذا يعني انها خرجت عن سكة النظام الديمقراطي، وسكة الديمقراطية الرقابية، وتحولت الى عالم ثان، ليس هو عالم السياسة الديمقراطية، واصبحت تمارس سلطة اعتباطية عبر التشهير بالاخرين والعمل على تسقيطهم وتشويه سمعتهم.
هذا درس مهم بالنسبة لنا في العراق، حيث مازال الاعلام يمارس سلطته الرقابية بدون ضابط ورقيب، وبدون الشعور بسلطة الرأي العام الذي يصعب قياس اتجاهاته عندنا. تمثل اخلاقيات المهنة، والخلق العام، محددات حضارية لطريقة ممارسة الاعلام لحريته، حتى لو لم تنظم بقانون.
كم حالة مماثلة لدينا في العراق؟