يُعد تفسير القضاء الدستوري للنصوص الدستورية من الموضوعات التي شغلت الباحثين وكانت محط آراء عديدة، وذلك لما يتمتع به الدستور من مكانة باعتباره قمة الهرم القانوني، إذ يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويوضح السلطات واختصاصاتها، وينظم أيضاً الحقوق والحريات.
لا يُثير تفسير نصوص الدستور بوصفه اختصاصاً مستقلاً إشكاليات، ما دام هذا التفسير مقيداً بوجود نص صريح يجيز ذلك؛ فإذا وُجد مثل هذا النص، يمارس القضاء اختصاصه بصورة مشروعة، أما في حال غيابه، فعلى القضاء الامتناع عن النظر في أي طلب تفسيري ويقرر رفضه لعدم الاختصاص.
لكن الخلاف يظهر حول قيام القضاء الدستوري بتفسير النصوص الدستورية في سياق ممارسته لاختصاصه المتمثل بالرقابة على دستورية القوانين، عندما يكون الغرض منه الوصول إلى صدور الحكم في الدعوى المعروضة أمامه.
ويذهب الرأي الغالب في فقه القانون الدستوري إلى التسليم بأنه من متطلبات فحص دستورية النص الطعين هو تفسير النص الدستوري وتحديد مضمونه وفحواه، حتى يتمكن القضاء من التحقق من مدى مطابقة النص الطعين للنص الدستوري، وفي ضوء ذلك يصدر الحكم المتعلق باختصاص الرقابة الدستورية.
ويقول الدكتور مصطفى محمود عفيفي في هذا المجال إن التعرف بصورة واضحة ومحددة على طرفي المعادلة المتقابلين — أي النص الذي تراقب دستوريته من ناحية، والنص الذي تراقب الدستورية في ظله، أي النص الدستوري — مرهون بمنح القضاء، على الأقل، صراحةً وبصفة رسمية، حق النظر إليه بالتفسير.
في المقابل، يعترض الدكتور منذر الشاوي على هذا الاتجاه قائلاً إن منح القضاء هذه السلطة يعني أن تحل إرادته محل إرادة النص الدستوري، بحيث لا تكون العلاقة بين نص الدستور ونص القانون لمعرفة مخالفة الثاني للأول، بل تصبح بين إرادة القاضي الذي فسّر النص الدستوري والنص القانوني المشكوك في دستوريته، وهذا يعني أن الأعلوية ستكون لإرادة القاضي.
يفترض الدكتور الشاوي أن وضوح النص الدستوري أمر مستحيل، فما كان واضحاً اليوم قد لا يكون كذلك بعد نصف قرن. ومن خلال التفسير القضائي، سنكون أمام دستور جديد يُطلق عليه “الدستور القضائي” وليس دستور الدولة الأصلي.
غير أنّ الواقع العملي جاء مخالفاً لهذا الرأي، إذ فرض نوعاً من الاختصاص يمكن اعتباره فرعاً من الرقابة على دستورية القوانين، يتمثل في تفسير النصوص الدستورية بقصد التحقق من مدى مطابقة النص الطعين لأحكام الدستور. وقد أقرّت بذلك المحاكم الدستورية، ولا سيما تلك التي لم يمنحها الدستور اختصاصاً مستقلاً بتفسير نصوصه، ومن بينها المحكمة الدستورية العليا في مصر.
ما ذهب إليه الدكتور الشاوي هو رأي مهم، لكن يمكن معالجة مؤشراته من خلال التزام القضاء الدستوري بحدوده في التفسير، بحيث يكون التفسير مبنياً على مبررات وغايات محددة تتمثل في الكشف عن إرادة المشرع الدستوري وسد النقص فيها بأضيق الحدود، دون أن يصل بأي حال إلى تحريف إرادة المشرع أو فرض حكم لم يُقصد وضعه أصلاً.
كما يجب أن يكون الهدف الأساسي من التفسير هو الوصول إلى دستورية القانون من عدمها، وليس مجرد الرغبة في التفسير أو التوسع أو التعديل.
ويدعم هذا الرأي قرار المحكمة الدستورية الكويتية رقم (17) لسنة 2025، الذي قضى بعدم جواز اللجوء إلى تفسير النص الدستوري لمجرد اختلاف وجهات النظر في تفسيره، وإنما يتعين أن يثير النص خلافاً فعلياً في تطبيقه يكون سببه غموضه الذي يؤدي إلى تعدد تأويلاته.
ونعتقد أن هذا الحكم ينطبق سواء عند تفسير النص الدستوري بوصفه اختصاصاً مستقلاً للقضاء الدستوري، أو عند النظر في الدعوى الدستورية.
لعل النقطة التي أشار إليها الدكتور الشاوي قد تجاوزها الفقه الحديث وتطبيقات المحاكم الدستورية، إلا أن الموضوع قد يكون أكثر تعقيداً فيما يتعلق بمدى تمتع هذا التفسير بالحجية المطلقة.
كما هو متعارف عليه، تتمتع أحكام وقرارات القضاء الدستوري بحجية مطلقة، لكن يثور التساؤل هنا: هل تقتصر هذه الحجية على الفقرة الحكمية وحدها، أم تمتد أيضاً لتشمل الأسباب التي ساقها القضاء الدستوري في قراره والتي توصل من خلالها إلى الحكم؟
نحن نؤيد الاتجاه الذي تبناه القضاء الدستوري في مصر، والذي يرى أن الحجية المطلقة تقتصر على الفقرة الحكمية وما يرتبط بها من أسباب مباشرة وضرورية لقيام الحكم.
وبما أن الحكم بعدم دستورية نص معين أو دستوريته قد يستند في جوهره إلى تفسير القضاء للنص الدستوري، فإن هذا التفسير يكتسب الحجية المطلقة ذاتها التي تتمتع بها الفقرة الحكمية، أما إذا كان التفسير غير مرتبط بالفقرة الحكمية فلا يتمتع بتلك الحجية.
باحث دكتوراه في القانون العام