19 ديسمبر، 2024 12:42 ص

حتى يميز الخبيث من الطيب

حتى يميز الخبيث من الطيب

نفى الله تعالى علم الغيب عن جميع خلقه لما لذلك من فوائد لا حصر لها، ولهذا فقد أمر الأنبياء بتبيان هذه الحقيقة لأقوامهم، كما في قوله حكاية عن نوح: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) هود 31. وجرياً على هذه السنة أمر نبيه “صلى الله عليه وسلم” أن يخاطب قومه بنفس الخطاب مع اختلاف المتعلق، وذلك في قوله: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) الأنعام 50. وفي الآية دليل على أن علم الغيب لا يمكن أن يتفاضل به الأنبياء، وإنما يأتي التفاضل عن طريق الوحي وهذا ما يفهم من الخطاب الموجه للنبي والذي فرق من خلاله في الاستواء بين الأعمى والبصير، إضافة إلى ما صرح به من دعاء القوم إلى التفكير والنظر في أمر الرسالة وما تتضمنه من معارف لا تخرج النبي عن بشريته، مع إثبات ما يتفرع على مهمته من إنذار وتبشير. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) الأعراف 188. 
وبناءً على ما تقدم نعلم أن الإنسان لا يمكن أن يطلع على جميع أسرار الغيب، ويرجع ذلك إلى الطبيعة البشرية، وعدم استعدادها لتقبل الحقائق وكشف بيانها على الوجه الذي لا يتصل بالقدرة المحددة التي يمتلكها الإنسان، ولهذا فإن تعلقه بالبحث في الأمور المغيبة لا يرقى به إلى التفكير السليم، ولو فرضنا جدلاً أن هذا قد حدث لتوقف الإنسان عن القيام بالأعمال الملقاة على عاتقه، فضلاً عن مقاربته للنهاية التي يفقد بواسطتها جميع الأسباب المتعلقة في حياته المادية وما يتفرع عليها من الروحانيات والمعنويات إلى آخر تلك الروابط التي أصبح لا يطيق التفاعل معها وذلك بسبب المغيبات التي أخذت تظهر له تباعاً، هذا على فرض الجدل كما أشرنا. ومن هنا تظهر الحكمة في إحاطة الله تعالى لهذا العلم، وقد بين سبحانه هذا الأمر في كثير من متفرقات القرآن الكريم، كما في قوله: (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) هود 123. وكذا قوله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) الأنعام 59. وقوله: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) النمل 65.
وهناك العديد من الآيات التي تبين أن هذا العلم لا يمكن أن يحيط به إلا الله تعالى إذا ما أخرجنا بعض الأمور التي يظهرها للمصطفين من خلقه، كما سيمر عليك في البحث المخصص لهذا المقال. وعلى الرغم من بيان هذا المعنى إلا أن التفكير السطحي لبعض الناس قد يدفعهم إلى القول الذي يفضي بهم إلى الكشف عن الحقائق المغيبة، وكذا الحال مع الأشخاص الذين يتعاملون معهم في مختلف الميادين، لا سيما تلك التي يكون الجزء الأكبر منها عائداً إلى ما يتفرع على درجات أولئك الأشخاص، وأنت خبير من أن هذا التفكير قد يؤدي إلى توقف مجريات بعضاً من القضايا المتشابهة التي يتم بها الاختبار، إضافة إلى إبطال التكليف الذي يُظهر التفاضل بين العالم والجاهل، قياساً إلى عدم الاطلاع على ما يقوم به بعض الناس من الأعمال التي تبطل قانون الثواب والعقاب، وكذا إظهار الطبيعة التي تعمل على توقف الحياة، وذلك بسبب ما يترتب على معرفة ذلك العلم من آثار، ولهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن لا تخرج الحقائق المسلمة عن دائرة الظن لأجل أن يكتمل الاختبار والتمييز الذي يتفاضل به بعض الناس دون البعض الآخر.
وبناءً على ما مر نستطيع القول إن للاستدلال الأثر الراجح في معرفة ما في صدور الفئة الضالة التي كانت تقاتل إلى جانب رسول الله، وهذا ما جعل الكثير من المؤمنين يطلع على نوايا أولئك الناس الذين تظهر ألستهم خلاف ما تكنه قلوبهم. فإن قيل: لماذا لم يظهر الله تعالى حقيقة أولئك الناس للمؤمنين لأجل اكتشافهم دون عناء؟ أقول: جرت سنة الله تعالى ان تقوم الحياة على قانون العلة والمعلول، من أجل أن يتوصل المؤمنون إلى معرفة الطرق التي تكشف لهم الأمر. فإن قيل: لماذا إذن يُظهر الله تعالى بعضاً من علم الغيب للأنبياء؟ أقول: الأمر الذي يكلف به الأنبياء لا يمكن أن يكون مطابقاً لأقوامهم في جميع تفرعاته، وذلك لأجل أن تأخذ الرسالة انتشارها من جهة، ومن جهة أخرى يتم إظهار الإعجاز التكاملي المحجوب عن أقوامهم. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك ألا يسقط التكليف عن الأنبياء بمجرد معرفتهم للغيب؟ أقول: إظهار الغيب للأنبياء لا يعني أنهم قادرون على الاحتفاظ به في جميع المراحل، وإنما يحصل ذلك بناءً على ما تتوقف عليه المصالح الآنية، دون إثارة مسألة الإعجاز الذاتي أو عدم ارتباطها بقانون العلة والمعلول، وبهذا تظهر النكتة في التشديد الذي أشار إليه تعالى بقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً***إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً***ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عدداً) الجن 26-28.
وبناءً على ما قدمنا يظهر الفرق في التكليف بين الأنبياء وبين أقوامهم، وذلك نظراً للمصالح التي تؤول إلى معرفة كشف الأحداث سواء كانت ناتجة عن توسط الوسائل الطبيعية، أو ما يطلع عليه الأنبياء من خلال الوحي. فإن قيل: هل يعتبر إظهار علم الغيب امتيازاً للرسل؟ أقول: هذه الجزئية سالبة بانتفاء الموضوع، وقد بينا ذلك في طرحنا، وكذا ما نقلناه من آيات سورة الجن آنفة الذكر، ومن هنا يظهر الفرق في المهمة الملقاة على عاتق النبي “صلى الله عليه وسلم” وما يتفرع منها على أصحابه، نظراً إلى تمييز كل واحد منهم وذلك حسب الضرورة التي يحتاجها الموقف، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) آل عمران 179. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال الشوكاني في فتح القدير: قوله: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) كلام مستأنف والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار والمنافقين، أي: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر، والنفاق (حتى يميز الخبيث من الطيب) وقيل الخطاب للمؤمنين، والمنافقين، أي: ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض، وقيل: الخطاب للمشركين والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب والأرحام، أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم، وقيل الخطاب للمؤمنين، أي: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه والوجه الثاني يكون في الكلام التفات، وقرئ (يميّز) بالتشديد للمخفف من ماز الشيء يميزه ميزاً، إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل: ميزه تمييزاً (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) حتى تميزوا بين الطيب والخبيث، فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه، فيطلعه على شيء من غيبه، فيميز بينكم كما وقع من نبينا “صلى الله عليه وسلم” من تعيين كثير من المنافقين فإن ذلك كان بتعليم الله له لا بكونه يعلم الغيب، وقيل المعنى: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) في من يستحق النبوة حتى يكون الوحي باختياركم (ولكن الله يجتبي) أي يختار من رسله من يشاء، قوله: (فآمنوا بالله ورسله) أي: افعلوا الإيمان المطلوب منكم ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه، (وإن تؤمنوا) بما ذكر (وتتقوا فلكم) عوضاً عن ذلك (أجر عظيم) لا يعرف قدره ولا يبلغ كنهه. 
الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين) إلخ ثم عطف الكلام إلى المؤمنين فبين أن سنة الابتلاء جارية فيهم ليتم تكميلهم أيضاً فيخلص المؤمن الخالص من غيره ويتميز الخبيث من الطيب، ولما أمكن أن يتوهم أن هناك طريقاً آخر إلى تمييز الخبيث من الطيب، وهو أن يطلعهم على الخبثاء حتى يتميزوا منهم، فلا يقاسوا جميع هذه المحن والبلايا التي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين والذين في قلوبهم مرض بهم، فدفع هذا الوهم بأن علم الغيب مما استأثر الله به نفسه، فلا يطلع عليه أحداً إلا من اجتبى من رسله فإنه ربما أطلعه عليه بالوحي، وذلك قوله تعالى: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) ثم ذكر أنه لما لم يكن من الابتلاء والتكميل محيد فآمنوا بالله ورسله حتى تسلكوا في سلك الطيبين دون الخبثاء.
ويضيف الطباطبائي: غير أن الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتى يتم الأجر إلا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله ويحفظ طيبه، ولذلك قال: أولاً: (فآمنوا بالله ورسله) ثم تممه ثانياً بقوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) وقد ظهر من الآية:
أولاً: أن قضية تكميل النفوس وإيصالها إلى غايتها ومقصدها من السعادة والشقاء مما لا محيص عنه.
وثانياً: أن الطيب والخباثة في عين أنهما منسوبان إلى ذوات الأشخاص يدوران مدار الإيمان والكفر اللذين هما أمران اختياريان لهم وهذا من لطائف الحقائق القرآنية التي تتشعب منها كثير من أسرار التوحيد، ويدل عليه قوله: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات) البقرة 148. إذا انضم إلى قوله: (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة 48.
انتهى موضع الحاجة من كلام الطباطبائي ومن أراد النقاط الأخرى فليراجع تفسير الميزان.
[email protected]