19 ديسمبر، 2024 5:07 ص

نعم نحن شعب عاطفي وقد نكون سريعي الغضب وانفعاليين وقد نكون قساة في بعض الاحيان وقد نكون ذا مزاج متقلب كتقلب مناخنا بين الخمسين والصفر 
بل أن ما حدث بالامس القريب في البصرة لم يحدث لاول مرة في تاريخ العراق الحديث نعم حدث شيء من هذا إن لم يكن افضع في عام ١٩٥٨ وتم قتل العائلة الملكية بينهم نساء وأطفال  بصورة وحشية وهمجية وسحل من سحل في شوارع بغداد نعم حدث هذا ؛ بل إن من قام بقتل الحسين عليه السلام هم العراقيون مع الأسف قبل الف واربعمائة عام ونيف
ولكن هل العراقيون شعب همجي متخلف ؟! وهل يكفي لكي نحكم على الشعب العراقي من خلال هذه الحوادث و شبيهاتها بان العراقيين شعب همجي متخلف وبربري ! والى اي مدى يمكننا أن نقيس على هذه العينة التي ضربت وعذبت هذا المهندس الانكليزي (السيء)؟ .
 وكيف نفسر ما حدث في البصرة على وجه الخصوص ؟ من المؤكد تماماً أن العراق مهد التحضر والعلم و(غالبيتهم) من أهل الحضر وإن وجود قاتل في أمة أو متخلف أو أحمق أو جاهل لا يكفي للحكم على تلك الامة بل لابد من دراسة الدوافع والظروف والبيئة التي أوجدت ذلك القصور والتخلف وأثمرت ذلك التصرف الهمجي ! وفي ذلك مبحث طويل يتعلق بفقدان وعي الامة في مرحلة من المراحل وإستعادته.
 ولكني أعيد تسؤلاتي بسؤال:هل أهل البصرة الذي حدث فيها هذا الحادث شعب متخلف ؟ 
كلا بل البصرة حاضرة العرب القديمة والبصرة ليست ثغر العراق بل هي ثغر المشرق الى الشام وتركيا وهي قبلة التجار الهنود والاتراك والمان والإنكليز فيما بعد ونشأت فيها أهم مدرسة من مدارس اللغة العربية (مدرسة البصرة) التي نافست غريمتها العراقية (مدرسة الكوفة) نعم البصرة لم تكن حاضرة العراق فقط بل هي حاضرة العرب!
إنها مصر الأمصار الإسلامية تتدفق منها أسراب العلماء ويصلها من كل حدب وصوب الكثير من طلبة العلم ينهلون من بحور العلم فيها ذلك و كانت تضم قديماً نحو  (17) ألف جامع ومسجد تحوي أغلبها مدارس علم وحلقات درس كان من أشهرها حلقة الأصمعي، وحلقة الحسن البصري، وحلقة الرياشي، وحلقة أبي زيد الأنصاري، وحلقة واصل بن عطاء …الخ كل ذلك كان في البصرة وأكثر وفيها المكتبات الوقفية وكان من أشهرها مكتبة ابن سوار. وأكثر كان فيها الأسواق الأدبية هل سمعتم بها!! وصفها ياقوت الحموي فقال : إن هناك شارعاً كان من أجلّ شوارع البصرة سُمّي بشارع المربد انتسب إليه عدد من العلماء والرواد والقضاة والمحدثين إلى تسميته بنسبه المربدي، فهناك سماك ابن عطية المربدي البصري، وأبو الفضل عباس بن عبد الله بن الربيع المربدي المحدث، وأبو عمرو القاسم بن جعفر المربدي القاضي …. ومن علماء البصرة أو من من إشتهروا وعرفو فيها (أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، والأصمعي، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي، وأبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري، وسيبويه، واليزيدي، ويونس بن حبيب، وفيها ظهر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعروف بكثرة مؤلفاته من كتب ورسائل في ميادين عدة، وهناك أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الموصوف بثقافته الواسعة وبانصرافه لطلب العلم والتتبع والتحري، فكان يُسمّى لعلمه بفيلسوف العرب كما اشتهرت البصرة بعالمها أبي علي محمد بن الحسن بن الهيثم الفيلسوف صاحب المصنفات الكثيرة في علوم الأوائل وفي الهندسة والبصريات والأسما تتزاحم والسلسلة تطول ولا تنتهي (راجع علماء البصرة إسراء البدر)
تلك هي البصرة قديماً وفي تاريخنا الحديث كانت اكثر بلدان العرب تحضراً وانفتاحاً ورقياً منذ عشرينيات القرن الماضي حيث كان الظلام يسود اغلب ارجاء العالم العربي كان في البصرة المكتبات العامة والخاصة والنوادي والمنتديات الثقافية والاجتماعية وكان اهلها يعيشون انفتاحاً قل ان تجده في اي مكان في الوطن العربي وحتى في العراق ؛ كانت البصرة بحق حاضرة العراق الحديث امتزجت بها ليست الثقافات العراقية فحسب بل امتزجت بها الثقافات الغربية والشرقية واكثر من هذا امتزجت بها الاجناس و تزاوجت وتلاقحت . بل إني أزعم أنها كانت مصدر تنوير وتحضر لكل من حولها من الأعراب بل كانت لها أعرافها الخاصة التي تجاوزت فيها أعراف البداوة والقبلية فكانت حياتها الإجتماعية التي لا تشبه كل ما يحيطها منذ مطلع القرن الماضي !
أما أهل البصرة ومع كل حبي لكل العراقيين من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه فإن أهل البصرة فاقوا كل العراقيين بطيبتهم ومودتهم واريحيتهم لا وجود ” للغربة” بينهم سرعان ما يحتوك ويشعروك بالحب والمودة والألفة ولا تروق لهم غير (الميانه) ! لا حدود لطيبتهم حتى تحسبهم من طيبتهم ملائكة ويحسبهم بعض اهل العراق انهم (منفتحين اكثر من اللازم ) لتخلفهم عن طباع أهل البصرة
البصرة وبعد كل هذا الغيض من الفيض إن كان أهلها متخلفون وجهلة فقرء على العراق السلام !
بل هم أكثر أهل العراق تحضراً ورقياً وارقهم مشاعراً و اذا ضيعت الامان وشعرت بالغربة فاذهب الى البصرة ! 
اذن مالذي حدث كي يحدث ما حدث في البصرة الرقيقة والحانيه ؟!
أن شيئاً دخيلاً غزاها كما غزى العراق وجرثومة خبيثة أمتدت شيئا فشيئاً حتى وصلت الى حاضرة العرب “البصرة” الحبية ؛ تلك الثقافة الدخيلة على اهل العراق تلك من نتائج التحشيد و(الخطاب الجمعي) التحريضي بأتجاه واحد مغلق لا سواه وبشكل مستل ومشوه عن جوهر ناصع ومجتزاء من حقيقة ناصعة لم يختلف عليها أحد ويؤمن بها كل العراقيين من شرق وغرب وشمال وجنوب العراق قَلَبَ حب الحسين الى ثارات جاهلة وانتقام من مجهول ومظلومية أمتدت لتصادر كل الحقائق الأخرى بل صادرت جوهر ثورة الحسين فالحسين عليه السلام كان ثائراً ومصلحاً ومغييراً وصاحب رسالة وهدف سامي ونبيل رفع رايته بفعل مسؤوليته وقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ابيه علي عليه السلام وما كان منتقما ولا اشراً ولا بطراً بل و لغاية اللحظات الاخيرة من حياته كان مسالماً و ساعياً لحقن الدماء إلا أنهم شائوا غير ما شاء الحسين فكان الحسين سيد الشهداء وشبابهم
الا ان ماكنة الاعلام السياسية أجتزأت كل هذا وذاك وبدات بخلق (عقل جمعي) مليئ بالحماس والعاطفة و وجهته باتجاه مصالحها السياسية الخاصة الذي أججتها طبيعة الصراعات السياسية القائمة في العراق على اسس طائفية وعنصرية حتى أصبح العراقي البسيط يعرف ادق التفاصيل بالساعة والثانية عن مقتل الحسين عليه السلام ومأساته ومأسات أهله وأتباعه أضعاف ما يعرف عن ثورة الحسين وخروجه على حاكم ظالم أبتعد عن الإسلام وحرفه بابتعاده عن العدالة .
 ومن الطبيعي أمام هذا التحشيد الجمعي ان نشهد تصرفاً غير واعي بفعل عقل جمعي استلب كل الخصوصيات وغطاها بغطاء سميك ورفعت يالثارات الحسين واججت الفكر العشائري المندثر في نفسية العراقي والذي تجاوزها الإنسان البصري قبل أي عراقي آخر
وبالعودة الى المشهد الذي انتشر نرى ان الاوضاع كانت متوترة وهناك سيارة محاصرة داخلها شخص (مسيء) ويقف حولها اناس متوترين ولكن المشهد لم يكن دموياً بعد وكان هناك نوع من (التفاوض) والعتب الغاضب وبعض التهديدات التي يمكن السيطرة عليها وكان جل غضب هؤلاء الناس منصباً على تدمير السيارة التي هو فيها كتعبير عن الغضب الذي يمكن ان يخف تدريجياً ويسيطر عليه بالتالي بتدخل الحكمة والتعقل والناس الصالحين لكن فجاءة تصدر صرخة تؤجج المشاعر وتشحن الاجواء الغاضبة المنفعلة المهيئة لاي رد فعل عاطفي وفي لحظات ينقلب المشهد الى مشهداً دموياً مخالفاً لاعراف الشهامة والرجولة التي يتصف بها العراقيون ليتجمهروا حول هذا المسيء ويشبعوه ظرباً بشكل وحشي وهمجي وبفعل جمعي غير واعي تماماً بل انحاز عنه من كان لم يفقد وعيه بعد لانه ادرك ان لا مجال بعد الان للوقوف أمام هذه الهجمة الجماعية الغير منضبطة نعم فعلها شخص او شخصين واحسنوا اثارت المشاعر وتوجيه الناس الوجهة التي يرونها هم ولم يفعلها أهل البصرة فهم أهل غنج ورقة وجمال وهم اهل تحضر! نعم يا اهل البصرة لم تكن تلك فعلتكم ولا من طبعكم وأشد ما يحزنني أن الداء الذي ابتلي العراق به وتعافيتم منه وصل لكم ولكنه سيغادركم وعودا الى تحضركم وغنجكم وسلامكم وامنكم فعند موانيكم تتكسر الامواج هادئه وديعة وتنام سفن العالم بطمئنان وينسل منها اليك الغرباء لينسوا فيك اوطانهم ويتمايل الجمال بكل اشكاله على شواطئك بفطرية منصتاً الى انشودة المطر وسرحان بويب تحت سعفات النخيل المنسدلة على جبينك أشتقنا لعودتنا اليك كلما شعرنا في غربتنا ونحن في العراق لنشعر اننا في رحم موطننا كم جميل ان يكون  في العراق البصرة وكيف يمكن ان يكون العراق بلا بصريين وبلا السياب ولكي معي موعد بعد انقضاء محرم لابثك حزنا جديدا ان قضية الحسين لازالت حيه ما دام هناك ظلمة وفجار وسراق ومتخلفين ومليشات وقتلة باسم الدين الهونا وابكونا و أعمو عيوننا حتى يسرقوننا عودوا  ايها البصريون لتحضركم ولتاريخكم علكم توقضونا . أخيراً (حبوبي) كلمة إخترعها أهل (البصرا) فهل وصلت الرسالة يا حبيبي!؟

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات