23 ديسمبر، 2024 7:52 ص

حانة إيرلندية في الأقصُر

حانة إيرلندية في الأقصُر

لاشك مهما تكن وقائع الماضي ومهما يكن حجم خزين الذاكرة ، فأحيانا يبذل الشاعر جهدا فائقا كي يضع جدارا عازلا أمام تلك الوقائع ويبدأ لحظته الأنية خارج موروثات ماضية التي ترسب غالبيته في العقل الباطن ،وأعتقد أن الشاعر سعدي يوسف في نصه ( حانه إيرلندنية ) والمنشور في موقع قاب قوسين أراد عزل كيانه الروحي مؤقتا لتكثيف لحظته الجديدة كي يتمتع من خلالها ضمن مكانٍ يوحي بتجوال مكاني وزماني لاتزاحمه عليه أمكنته السالفة ، ولكي يتجذر في أعماق نشوته فقد هيأ الدالة هيأها للمتلقي ، فهي (حانه ..) تبدأ من أول المثلث ( مثلث المصرف العقاري ) ومابين متحف ومكتبة وتقع في شارع يتفرع تم تعبيده منذ خمسين عاماً . المكان هنا في النص متأخر عن زمن النص بنصف قرن ولكن كل شيء ظل كما هو ، بما في ذلك لافتة البار التي تشير الى (Irish Pub)، وهذه المكونات التي أشار لها سعدي يوسف أشارلها بقصدية وليس بشكلية وجودها ( مكتبة – متحف – بار – شارع عُبد قبل خمسين عاما ) إذن هنا تم ترتيب الإستعدادات الأولية لعميلة التخيل وعملية النبش في مستودعات الأقصر أي في الموجودات التي كانت الطارق على بنية النص في تشكيل قامة النص وتفرعاته ،تفرعاته التي لها صلة بالأسماء التي تركت كدالات تعريفية تقود الى مفاهيم ربما

يبني المتلقي عبرها قناعاته في تشخيص الأوضاع الإجتماعية والثقافية أنذاك من خلال ثلاثية( المكتبة المتحف البار ،) كمدخل أولي نحو غرفة النص مادامت لافتة البار باقية فلاشك هناك بقاء ، بقاء يتطلب كشفه وعرضه ضمن مساحة النص وإيراده شاهدا على سعة الحركة من عدمها ، شاهدا على قدرة مستدامة في المجهول ،المجهول المتداول في حيز الأسباب وفي ولع الرغبة ،

لذلك هل ندخل ،

تهمس إقبال ندخل ،

هنا تبدأ مجسات الشاعر سعدي يوسف بالإبصار قي ظلمة المكان والإبصار في علاقات الأشياء داخل المكان ، فالشعر دائما مغرم بالمجهول حتى لو كان هذا المجهول معرفاً بحضوره :

مثل نسيمِ المساءِ الذي يترنّحُ ،

ندخلُ

لا حارسٌ في الممرّ

و لا حاضرٌ !

نحن ندخلُ …

يبدأ سعدي يوسف بالدخول الى النص ويكثف إستعداده الشعري وخياله الذي (يترنح ) وهو مرموز لتكوين أعم ولربما أراده لتكوين معاكس بعيدا عن طقوس الموروث ، وهنا تبدأ أول بوادر الخيبة عند الدخول ( الهواء المسائي أثقل ، والقاعة احتضرت مثل روادها ) إن الرغبة في الدخول كانت رغبة ثملة تقوم على (توجس- هاجس-أمل – معاينة – إفصاح – تأسيس –حلم – إشتهاء …) وهنا ورغم كساد المشهد الأولي لكن سعدي يوسف

إستطاع تحويله الى قوة شاحنة لموجودات أخرى بدأت تتفاعل في مخيلته في مكان ما ومشهد ما عبر موصلاتها التي تظهر له وتكون له إمتدادها في عالمه الجديد الذي لايرتبط بتأثيرات وقائعه السالفة ، لنجد أن نقطة التحرر إبتدأت مذ مفردة إقبال ندخل ،يبدأ النص بتبلوره الفجائي مع كل خطوة تجس ذلك المكان لتتشكل العلاقات السببية لفهم ذلك المحيط والعمل بالمقابل على النسيان المؤقت لأكثر من 50 عاما مستقطعا من عُمر الشاعر من وحدته التي عُبدت ولكن بالمرار والحزن والمنافي ، ومن هنا تبدأ الأشياء الجزئية بالتباين والتكاثر ويبدأ التجاور في وضع أحماله ثم الإنطلاق نحو السبيل بعبارات مقننة ورشيدة تحمل المسمى (الحانة الإيرلندية ) ومن خلال راية دبلن التي حملها الجيش الإيرلندي يعقد سعدي آصرة كفاحية أخرى مع قطب أخر ينشد الحرية والتحرير وما الشاعر لوركا إلا تلك العلامة المضيئة في تاريخ العشق الأزلي للأوطان ، وهنا مرة أخرى يتخصب مجال الإبداع ويكون للمكان ثيمة تاريخية تتعزز في ذات الشاعر من خلال مظهري (الراية الإيرلندية ولوركا ) دون الفيض الوصفي حيث بعيدا عن التشاكل يجتاز هذه المحطة الشعرية ويتصل بإنسيابيته بعد أن بلغ التوهج العاطفي أقصاه وتبدا اللغة ترتب مشاهدها العينية لتتضح جمالية تلك الأسرار ( في الأقصر ، في الأقصُرِ ..الحائطُ المتآكلُ يحمِلُ بُوسْترَ وِيسكي توقّفُ إنتاجُهُ ..ومواعيدَ عن سينما لم تَعُدْ في التواريخِ … ، )كان خيار سعدي يوسف أن يتجه لمدينة المائة باب( الأقصر ) مدينة الشمس التي كانت مجموعة من الأكواخ الطينية وتحت أرضها رقد العديد من ملوك السلالات المصرية لتصبح فيما بعد عاصمة للدولة تحت مسمى ( طيبة ) ،أشياء منها ظلت وأشياء إندثرت ،

ولابد من خيارات للعمل على توطين أشياء جديدة في الذاكرة للعودة بالبعد المفقود بدون شفرات توحي بالمكتنز التاريخي وبدون معاينة للإستدلال على الوجوه الحجرية بين متاهة الكهف والمنعطف ثمة موصل لجوهرة المكان (البار ) ومايمكن أن تأتي به لحظة الإشراق أم لحظة أخرى للخيبة ،

والواضح أن إدراك الزمن أو الإنفصال عنه عن طريق المشاعر يوحي أن هناك قضايا روحية مقفرة أُشير لها من خلال النوبي حسن سادن المكان ( لاأرى أحدا ، لايراني أحد ) ولذا فالشاعر رصد تلك الحالة من السخرية والتشابك المعقد التي تحفل به النفس البشرية وأشتغل ونصه وفق تحديث مستمر لمقتربات اللحظة التي توفر له عزلة مؤقتة عن أمسه ومفتتحا للشعور بالسعادة الرمزية ولو ليوم واحد أو لساعات قلائل ،