19 ديسمبر، 2024 3:47 ص

لنا أحلامُنا ، ولكم مثلها. وكلُّ المشاهد مُتاحة للتأمل والتبصّر، حلقاتٌ من الرؤى، لا طبقاتٌ توجعُ وتجزع. وإذ أتمرأى حولي أراني جالساً في الصف الأمامي. ربّما كنتُ داخل صالة انتظر بدء عرض مسرحية.. المرأى برمته بلون الطمي . وتُرفعُ الستارة ليتمظهرُ معلمٌ صغير، بل بيتٌ مشرقي ، كنا في باحته. هكذا أجابني حسّي. البابُ مُغلقٌ ، لكنّ التافذتين مضاءتان. وعلى يمين الدار ويسارها ممرّان ضيّقان لا أدري الى أين يُفضيان. وربتما وراء المبني نهرٌ أو بُركة. فقد ترامى الى أسماعنا نقيقُ الضفادع وصرير الجنادب. كانت الجدران داكنة عاتمة لكن السماء عميقة الغور تكتظ بالنجوم ينهمرُ منها غناءٌ وموسيقى. فجأة ً يُفتحُ بابٌ ويندلقُ الى خشبة المسرح شخصٌ بلا ملامح خلب دهشتنا وفضولنا. وجعل يميلُ يميناً ويساراً ، ويتحرّك بعشوائية ، فلم يتبيّن لنا أهو رجلٌ أم امرأة . فصمتُه والظلمة التي تكتنفه يُضمران شخصيته. تم نطق، عرفنا أنها امرأة. فيا لجمال نطقها، وتعبيرها وقوة صوتها؛؛ هي لا تستعين بمكبرات الصوت ، وتساءلتْ : أتعرفون لمَ أنتم هنا؟ تصاعدَت أصواتُ مَنْ في القاعة: لا، فمَنْ جاء بنا، ولماذا؟ / أعرفُ أنّكم لا تُحبّون ذا المكان، لكنّ مُصادفة حمقاء وضعتنا هنا، أنا وانتم، لقد جئتُكم طارقةً باب أحلامكم، فعُدت الى ما وراء أربعين عاماً مضت، يومَ كنتُ اشعُّ جمالاً وطيبة وعُنفواناً . أنا ريفية فقيرة ،دفعتني قرية ٌ مغمورة الى عالم الفن. فتقمّصتُ شخصيات كلّ بطلات الأفلام النسائية التي شاهدتُم طيلة الحقب الغابرة. وقد يتخيلُ بعضُكم مَنْ أكون من نبرات صوتي ، غشيت الصالة لحظاتُ صمت، وسمعناها تصرخُ : انيروا الأضواء. تبددت الظلمة وبدت القاعة والمسرح بلون الخشب والتراب، والممرّان بلون الأرجوان ، والنافذتان العاليتان غيّرتا ضوءيهما.بدتا ورديتين. الهي، ما أغربَ المرأى ؛؛أمّا هي فقامةٌ هيفاء داخل ثوب طويل بلون البحر تنهمرُ حواشيه على بلاط المسرح حين تتحرّكُ وتنتقل من مكان الى مكان. فيما كانت تُغطي رأسها بملاءة سوداء خفيفة تسعفها على الرؤية. هي ترانا ولا نرى وجهها. وسمعت الجالسين الى جواري يتهامسان: أنها صوفيا لورين / لا، هي جينا لولو برجيدا/ وتذكرتُ جينا يوم رأيتُها عام 1963 في مجمع الفردوسي بطهران، فما أجملها وأصفاها كأني بها قُدّت من الكرستال. أمّا صوفيا فقد أحببتُ كلّ أفلامها، لكنها تألقت مع سيناترا في فيلم مدفع الحرية.وقفت الممثلةُ: تحت أضواء المسرح، والبُيتُ المهجور وراءها هاديءٌ ساج . وترامى الى جمهور القاعة صوتُها: جئتُكم الى هنا وفق هواي، سحبتُكم من دفء الفراش وكنف الحلم. جلتُ في أروقة احلامكم ، بل جلبتها معي. هي الآن في هذه الصرّة المرمية الى جواري. سأطلق بعضها، ترونها مثل العصافير تحوم في فضاء القاعة. فالحلم له كائناتُه ومدياته وفضاؤه واناسُه واحداثُه ، فمن الظلم حبسُها في قفص. سأطلقها لتظهر ثمّ تختفي ويجيء غيرُها . بل يُكملُ بعضُها ما لم يكتملُ. انتم نخبة ٌ اخترتُكم بنفسي، حين انتهي ينبغي ان ترافقوني لآخذكم الى الجهة الأخرى، لأريكم الفجر ينهضُ من سريره ، ويرفعُ غطاءه، وهو مثلنا ينام ليلته ، حين ينقضي ميقاتُ نومه يصحو وبيده ضياءُ الصبح .سوف اسمعكم صوته ولن تنسوه ابداً. والآن لا يزالُ فراشكم دافئاً يعبقُ برائحة أجسادكم. لكن الحلم الذي تعيشونه الآن من نوع خاص، سأدلّكم على أناس احببتموهم في أيام يفاعتكم. لن أقول لكم مَنْ اولاء الالى تكتظ بهم غرفُ هذا المنزل. فهم مشاهير تركوا أثراً فينا. فلا معتى لوجودنا الا بوجودهم. هم صنعوا المستقبل، وهم ذاكرة الزمن.أنا واحدٌ منهم، اختِرتُ لاختاركم،أجيء بكم الى رحاب الدهشة والجنون، فلا يعرف أحدُكم الآخر …. تسكتُ الممثلةُ وينثالُ صوتُ الموسيقى بلا صخب. فيتسلل الى دمنا ولحمنا وعظامنا. كما حظيت الممثلةُ بشيء من الراحة .على الرغم من أنّ الحالم لا يحسّ تعباً في رواق الحلم ، ففيه يختفي الجسدُ ويبقى معناه وتقول: كنتُ قبل مجيئكم في مكان آخر، كان الجمهور نياماً فوق أسرّتهم يُطلون على الفسحة الدائرية التي أقفُ عليها. وكان لي سريرٌ مثلهم، لكنّنا تركنا أسرّتنا وغادرنا المكان، كنّا نتحاور بلا عراك أونكد ، نعم اختلفنا لكنّنا لم نحتربْ ولم نتبادل الشتيمة، ولا أدمى أحدُنا الآخر. انشغلنا بإنجاز ما فاتنا من أمور، ابدعنا وخلدنا فننا. أعرفُ أنّكم تحبّوننا، ولطالما وقفتُم في طوابير تنتظرون مشاهدتنا على خشبة المسرح أو في صالات السينما. لقد منحتكم لمحة عنا . فأنا ممثلة قديمة ، وتقاعدتُ الآن. فلم أجئكم عجوزاً تمزّقني سنون الكبر، اذاً، خذوا المفاجأة: رفعت الغطاء عن وجهها فاذا هي صوفيا لورين، قامة ممشوقة، وخصر ناحل وعينان ساطعتان مثل زنبقتين بريّتين… ارتفعت الزغاريد والصفير ، نهض الجميعُ وقوفاً احتراماً لقامتها الفنيّة الشامخة ، وسنوات الابداع والجمال البارق. …. ابانئذ ٍانفرج البابُ وتدفق ضياءٌ مستطيل فاندلقت هي الى الداخل طالبة منا أن نلحق بها. فسال الجميع اليه مثل ساقية . وكنتُ جزءاً من هذا المسيل. احتوتنا فسحة ٌ مستطيلة :على الميمنة والميسرة مقاعد يجلس عليها جميعُ مَنْ أحببنا من العباقرة : شابلن، اينشتاين، راسل، سارتر ، براندو، سيناترا، جيمس جويس، بريجيدا ، جين راسل، إبراهيم جلال، يوسف العاني، يوسف وهبي ، نجيب الريحاني وآخرين كثر ٍ ، كنّا نسلمُ عليهم ويردّون علينا مبتسمين.فلم نقترب منهم ولا كلمناهم أو كلمونا. بعدئذ ٍ دنت مني صوفيا لورين ، امسكت بيدي / وكنتُ كلفاً بها من نعومة فتوتي/ وهمست : سيختفون والجمهور واحداً فواحداً ، وستبقى وحدَك معي ، فقد جئتُ بك لاريك مشهداً تحبّه ولن تنساه ما عشتَ. وسحبتني تُجاه باب ابتلع قامتينا، وهمد من ورائي اللغط والضجيج . وكان الصباح قد أطلّ توّاً على ما حولي. أطلّ على بركة  تسمّى : بحيرة البجع ، هي الآن تزخر بمخلوقاتها، ووهجُ الصبح يتدحرجُ على صفحتها طبقات وألواناً ، وثمة أصنافٌ من الطير، كبيرة وصغيرة، طائرةً وعائمة وجاثمة هنا وهناك. فقد كنتُ كلفاً بهذا المرأى من حقب طفولتي الغاربة ،                              

فجأة ً تركت يدي وهمست بمحبة : / سأتركك مع محبوبتك ،ونلتقي في سديم حلم آخر/                                                         
ابتعدت وولجت في النزل الذي رمانا الى هنا . بقيتُ وحدي وسط الذهول والفرح… وتمنّيتُ الّا ينتهي ذا الحلم

أحدث المقالات

أحدث المقالات