17 نوفمبر، 2024 5:23 م
Search
Close this search box.

جوهر المشكلة مع الدين

جوهر المشكلة مع الدين

توجد أطياف متعددة (ثقافية، فلسفية، فكرية، اجتماعية، سياسية، اقتصادية)، لديها خلاف مع الدين منذ اللحظة الأولى لوجود الدين في ساحة الحياة، وتختلف مساحة هذا الخلاف بين الخلاف الكلي النهائي، الذي يصل إلى حد التقاطع الكامل، وبين الذين لديهم خلاف جزئي، وهذا النوع من الخلاف مرة يتعلق بالمساحة التي يمتد فيها الدين (سعة وضيقا)، وبين خلاف حول التفسير والمواقف من أفكار وقضايا متعددة للدين فيها مقولات محددة لا يرتضي غيرها.
في ذات السياق تختلف مستويات تعبيرات المخالفين للدين، ولها أشكال متنوعة، فالبعض خلافه يتجسد عبر النقد والملاحظات الفكرية واللفظية، وآخر يأخذ صورة المقاطعة والمفارقة، وهناك صورة تريد إزالة الدين بشكل نهائي، بل تصنفه العدو الأول والأساس في منظورها، وتفسر بعض الاتجاهات موقفها الحاد من الدين على أن الدين في جوهره يحوي منطقا إقصائيا، فهو لا يحتمل رؤى أخرى ، ولا يتسع إلى متعددين، بل يرى لنفسه الهيمنة المطلقة الكاملة دون غيره، لذا فإن حالة التضاد معه بحدة منطقية (بحسبهم)، هي ردة فعل على موقف الدين الإقصائي من الآخر.
يمكن إجمال مناطق الاختلاف والخلاف مع الدين في مجموعة صور ومشاهد نعرضها من المستوى الأعلى نزولا، وحيث تبدأ من صورة البينونة الكلية الإفتراقية، وتنزل باتجاه صور من الافتراق الجزئي، بل الشكلي أحيانا، وهي الآتي:
الخلاف على تفسير الوجود والكون: إذ يقدم الدين رؤيته للخلق والوجود على أن الأسباب والعلل المنظورة المحسوسة ليست العلة الكاملة لهذا الوجود، بل هناك قوى خفية وأسباب غير محسوسة هي العلة الجوهرية لوجود هذا الكون، وإن مبدأ الوجود ومعاده يعود إلى إله هو الخالق والمصور له، وتبعا لهذا التفسير، فإن الكون والوجود يتحرك في ظل علل (غائية) محددة، وإن له أهداف ومقاصد معنية من قبل خالقه، وعليه التزامات تجاه خالقه الذي هو علة خلقه الكبرى، في المقابل تتعدد الصور المناقضة لهذا التفسير من العدمية إلى العبثية إلى الصدفة إلى المادية الصرفة، وكلها اتجاهات لا ترى وراء الخلق من خالق أعلى محدد خارج حدود المادة، وبالتالي فإن الوجود غير معني بأي نوع من الالتزام تجاه قوى غيبية، وإن خلق الكون وأوضاعه محصورة في حدوده الذاتية، فهو منه وإليه، ولا شيء خارج ذلك، لذلك ليست هناك من التزامات ومواقف مطالب بهذا هذا الوجود (أفراداً وحقائق).
الإشكالية الثانية تتجسد في صورة خلاف مفادها، الاعتراف بوجود قوى غيبية وأسباب ما بعد مادية أوجدت الكون والوجود، وربما حتى الاعتراف بخالق ذي قوى عظيمة ومتفردة كان السبب في هذا الخلق، إلا أنه لا تترتب أية أغراض محددة للخلق، فقد ترك له الحرية الكاملة في حركته وشأنه، لذا فإن شؤون تدبيره بيد أهله، الأمر الذي يعني بداهة عدم الحديث عن أية مسؤوليات تجاه قوى عليا (الخالق)، ولذلك لا مكان للحديث عن الثواب والعقاب والواجبات والأوامر والنواهي.
الخلاف الثالث يتعلق بصورة نهاية الوجود وخاتمته، وغاية هذه النهاية والكيفية التي ستأتي عليها، والمصير الذي ستؤول إليه الإنسانية، فالدين يقدم سيناريو متكامل للخلق والحياة ونهايتها، ويعد فناء الحياة وختم عمرها مرحلة مشخصة ضمن سلم الوجود، ويقدمها على أنها حقيقية حتمية لا مناص منها، ولا مجال للاحتمالية فيها، ويعد ذلك ضروريا لكي تتحقق (أهداف الخالق والخلق)، وأن هذه النهاية ليست عبثية أو متروكة للصدفة، بل هي نهاية مخططة، وهي بمثابة المحكمة التي يتم فيها استيفاء الحقوق من خلال آلية الحساب والعقاب والثواب والجزاء، ومحورها كافة النشاطات الاختيارية (الفردي والجماعي)، التي سجلها الإنسان حالة كونها عضوا في الحياة، كما أن هناك صورة محددة يتم من خلالها إدارة هذا الحساب والعقاب (مع وجود اختلافات بين الأديان على الشكل النهائي لهذه الصورة وطريقة إخراجها)، بينما ترى اتجاهات مضادة، أن نهاية الإنسان موته، وأن ساحة عمله هي الحياة وحسب، وأنه لا عقاب ولا ثواب، ولا أي شيء وراء حياته التي تتصرم بسنوات عمره، كذلك لا يوجد محرك خارج حدود المصالح الدنيوية وضوابطها، وهناك صور من الخلاف حول الكيفية التي يتم على أساسها الثواب والعقاب، ونوع الجرائم والمخالفات التي سيتم محاسبة الإنسان عنها، وحقيقية أو اعتبارية كل مظاهر الثواب والعقاب التي يضع الدين لها أوصاف وحالات دقيقة لا مجال للتأويل فيها.
الخلاف الرابع حول طبيعة الايمان ومحدداته المطلوبة , والموقف اتجاه الاله ,فالدين يطرح صيغة محددة للأيمان, لها شكلها وضوابطها وطريقتها ومنظورها المقدس للإله والحقائق المتصلة به, بينما تخالف الاتجاهات الاخرى هذه الصورة, اذ ترى انها حرة في ابتداع اي شكل للأيمان وحدوده وصورته , وانها غير ملزمة بالقيام بطقوس او التزامات او تصورات محددة (حسب منظور الدين)، تجاه الاله والكون.
الصورة الخامسة للخلاف تتعلق بالبعد العملي للدين، فهناك مستويان من الخلاف، الأول داخل الأديان نفسها، ويتعلق بحجم المساحة التي ينبغي أن يمتد فيها الدين ضمن البعد العملي لحياة الإنسان، حيث تختلف هذه المساحة من منظور دين إلى آخر، والثاني بين الأديان ومخالفيها، فهناك أتجاه يوافق على أن يكون للدين علاقة روحية تنظم ارتباط الإنسان بالخالق والإله، وإن هذه العلاقة صلة شخصية روحية لا يلازمها أية ممارسات عملية، وأن البعد العملي والسلوكي في حياة الأفراد والجماعة لا صلة للدين به، وهذه النقطة هي مرتكز الخلاف الحقيقي مع الدين، والتي تمثل صورة الخلاف الأكثر شهرة وسعة، والذي يأخذ شكلا تصادميا وعنفيا واضحا يختلف عن الصور السابقة التي تتجلى معظمها في خلاف توجهية وفكرية، وتقتصر على مساجلات لفظية في معظم الأحيان.
فمخالفو الدين يرون أنه يمتد على مساحة واسعة، ويطغى هذا التمدد على كل مناطق حرية واختيار الإنسان، وبالتالي يضيق ويقمع هذه المساحات، ويفرض نفسه كشرط أساس وضروري لضمان صحة العمل والسلوك.
وفي هذا الجانب تندرج مستويات متفاوتة، من اتجاه يصادق ويوافق، بل وحتى يرتضي بعضا من البعد المعاملاتي للدين في الحدود الشخصية، ولكن يرى بأنه، لا مساحة له في ضبط النظام العام، وإدارة شؤون الجماعة، وتحديد آلية الحكم، ولا منظور له للدولة وشؤونها، فهذه الأمور كلها نتاج بشري صرف ولا شأن للدين بها، ولا ينبغي له أن يمتد لها، وهناك صورة ترى أن الدين لا ينبغي له أن يمتد إلى أي مساحة في البعد العملي لحياة الأفراد الشخصية والعامة، وأن هذا الامتداد هو نقطة الخلاف الجوهرية معه ومنطقة التصادم، فالدين يريد أن يكون إيقاع الأفعال الفردية والجماعية منضبطة على وفق كيفية محددة خاصة يرسم شكلها ومضمونها بناء على رؤيته، ويفرض جملة التزامات على أثرها، بينما يرى الاتجاه المضاد له، أن هذا النحو من التحكم والهيمنة ورغبة السيطرة التي يمارسها رجال الدين، والمتحدثون باسمه، تأتي من أجل فرض نفوذهم وسيطرتهم على الحياة والناس، وبالتالي الحصول على منافع الثروة والسلطة.
ويذهب هذا الاتجاه إلى أن هذه القيود (المدعاة بحسبه)، لا حقيقة لها في جوهر الدين وحقائقه، وإنما هي إبتداعات من أشخاص أضافوها ونسبوها إلى الدين من أجل منافعهم ومصالحهم، أو رغبتهم للتحكم بالحياة والكون.
ومركز الخلاف في هذه النقطة يتعلق بالحرية (جوهرا ومظهرا)، وأن الدين يضع صورة للحرية مشوهة ومضيقة، بل يراه البعض كمستأصل للحرية من جذورها من الوجود العملي للحياة، من أجل فرض الهيمنة والسيطرة التامة على الأفراد والمجتمع عبر منظومة ضبطه الصارمة.
فالمخالفون للدين في البعد العملي لا يرتضون مكانة وحدود الحرية التي يضعها الدين ويؤمن بها، ويرون أن للإنسان والوجود فضاء مطلقا من حرية التصرف والعمل والاختيار والفعل والامتناع يمتد على قدر ما يمتد به إحساسه بهذه الحرية وحاجته لها، وبقدر ما تتيح له تلك الحرية المطلقة من التصرف، وبدون مغالاة في القول فإن جوهر ومركز كل الخلافات مع الدين بكل مستوياتها خصوصا في البعد العملي يعود في حقيقته إلى اختلاف المنظور حول حقيقة وحدود (الحرية)، حيث يريدها الاتجاه المخالف للدين على صورة تختلف بالمطلق عن الصورة التي يتبناها الدين، وإن حل معظم مناطق التماس والتصادم لا بد أن يكون في البحث الجاد والعميق عن الحرية في المنظور الديني (كرؤية فلسفية وكمحدد تنظيمي)، وإن هذا الاستحقاق لم تبذل فيه الجهود الكافية، ويبقى في حدود المناوشات وتبادل الاتهامات دون أن يقدم كل من الاتجاهين رؤيته المتكاملة للحرية بوصفها أس جوهري لإنسانية الإنسان، ومدار التكليف والعمل، ويقدم قراءته فيما يتعلق بالمحددات والقيود التي يقول بها، والمصالح العملية ورائها، فالاتجاهان يؤسس لنفسه مرجعتيه الخاصة في فهم الحرية وإدراك محدداتها دون أن يكون هناك جهد حقيقي في الوصول إلى مناطق مشتركة لمرجعيات ضبط واحتكام.
الصورة السادسة للخلاف تتعلق بحرية النقد وبشرية الأفكار والمقررات والتصورات، فالدين لديه مجموعة (أمور) تختلف من دين لآخر، ولكن مشتركها (مفاهيم، تصورات، عقائد، أشخاص، نصوص، حوادث)، يراها مقدسة لا يجوز المساس بها، ويجب احترامها، لأنها حقائق تستمد قدسيتها من قدسية الإله والدين، فيما يريد الاتجاه المعاكس أن تكون كل الأمور متاحة ومباحة له، ويحق له نقدها ومحاكمتها ومؤاخذتها، بغض النظر عن منطلقات تلك النقود، سواء كانت ناشئة من خلافات نفسية (فردية أو جماعية) أو منطلقات منطقية (بحسب تقديره)، كما أنه لا يعترف بوجود علل غائية غيبية يمكن أن تحمل تفسيرات غير متاحة للقدرات التقليدية للإنسان، وجوهر هذا الخلاف يعود إلى الحرية أيضا في أحد صورها، فهو يطلب حرية مطلقة تمتد إلى كل شيء دون أن يكون هناك محدد من مقدس أو خطوط حمراء، بل يمتد في الممارسة والفعل والقول على كل شيء، فيما يريد الدين أن يتوقف الإنسان عند تلك المحددات المقدسة ولا ينال منها لأنه لا يدرك الحقائق الخفية، والعلل الغيبية لها، وإن معرفته محدودة وغير متاح له أن يطلع على كل شيء، لذلك لا يمكن له أن يمارس هذا النوع من النقد بالمطلق، كما أن هناك مفاهيم لا بد أن تكتسب طابع القداسة والحصانة لأنها تتصل بالإله، الذي لا خطأ ولا اشتباه في ساحته وفعله وكل ما يتصل به، وإن تصور الإنسان (قصورا) أنه الأمر مخطئ ، أو غير عادل، أو غير منطقي، هو نحو من الاشتباه ناشئ من قصوره عن إدراك العلل الغائية الحقيقة التي تقف وراء تلك الأمور.
توجد صور من خلافات جزئية تندرج ضمن هذه الصور الرئيسة التي يمكن أن يعاد توحيدها إلى نحوين من الخلاف، الأول يتعلق بـ (التفسير)، والثاني يتعلق بـ (العمل)، وفي كلا الأمرين يعود جوهر الخلاف إلى الحرية، التي يراها المخالف للدين حاكمة وأساسية بوصفها تساوي (الأطلاق التام دون المقيد بأي محدد)، والتي تسمح بممارسة التفسير والتفكير والتدبير على المنوال الذي يدركه الفرد بغض النظر عن مستوى إدراكه، بينما يقول الدين بأصالة الحرية بوصفها شرط ضروري وأساس للتكليف، الذي يبنى على الاختيار، ولا حديث عن الاختيار دونما حرية، وإن قيمة ورقي الإنسان الإضافية على جميع الموجودات الأخرى تأتي، بوصفه كائنا متعبدا باختياره، وأن لها مساحة كبيرة في البعد العملي من الحياة الفردية والجماعية، لكن ذلك كله لا بد أن يكون منضبطا بمحدد الدين ورؤيته، وهنا يأتي الغيب كعامل مغيب ضمن معادلة الطرف المضاد للدين، فتختلف الصورة بوجوده كلياً.
يحيلنا هذا التحليل لجوهر الخلاف مع الدين إلى الفهم الدقيق للأقبال على الفردية (الليبرالية)، بوصفها اتجاه يقوم على مرجعية الإنسان والاكتفاء به ومعه، حيث يكون الإنسان هو محور الكون والوجود من منطلق اكتفائي لا من نظرة تكريمية تشريفية، وإن كل المطالبات التي تأتي تحت مسميات مختلفة زاعمة أن الدين يقف عارضا، أو ممانعا، أو يقدم صورة ليست هي الصورة المنشودة لهم، والمطلوبة في نظرهم، ترجع في جوهرها إلى مطالبات لتطبيقات معينة للحرية (الفردية أو الجماعية)، وهنا نستعمل الحرية بمعناها الفضفاض المفتوح، الذي يقابل التقييد (إيجابيا كان أو سلبيا)، فالمعنى المستعمل لا يتضمن معنى قيمي للحرية بوصفها قيمة إنسانية عليا بل بوصفها إطارا مفتوحا يتحرك فيه الوعي والسلوك.
إن ما تم عرضه في هذا النص لا يمثل موقفا قيميا من هذا الخلاف بقدر ما هو عملية توصيف وتحليل لمستويات ومظاهر ومرتكزات موقف المخالفين للدين (بمعناه العام)، والذي يشمل كل الأديان، وإن أجوبة هذا الخلاف لها محلها المختلف، والذي تولت كتب ومجلدات مفصلة الجواب عنه في بعضه نقاطه، كما هو الحال في علة الخلق والخالق وغيرها، مع وجود إمكانية واسعة لتقديم إجابات (مخبرية علمية مسكتة) للكثير مما تم إثارته قديما وحديثا، فبحسب (عمالقة الاختصاص)، إن بروتين واحد مما يحتويه جسم الإنسان يحتاج تكوينه إلى معادلة مفادها، أن (موجودات هذا الكون المراهن عليه من قبل أصحاب البعد المادي، والذين لا يأمنون بعنصر خفي في معادلة الخلق، مضروبا في عشرة مرفوعا للأس (300)، أي أن رقم الأس، واحد أمامه ثلاثمائة صفر)، ويعلم المختصون أن هذا الرقم (الفوق فلكي) لا يمكن حتى قراءته بالحساب التقليدي، هذا ونحن نتحدث عن جزء صغير جدا من الإنسان، الذي هو جزء صغير جدا من الكون والوجود، فكيف الحال ونحن نتحدث عن الخلق بأجمعه، لذا فالمقام ليس لإجابة هذا الجدل أو تفنيده، ولكن الأهم هو إعادة جوهر الخلاف إلى أسه الذي لا أعتقد أن أحدا من القدماء أو المحدثين أرجع أو حلل إشكاليات المخالفين للدين على هذا المنوال، لذلك بحسب هذا الفهم، فإن تشريح الحرية وتحديد مساحتها في الرؤية الدينية، وبيان أسباب وما ورائيات المقيدات، على شرط ألا تكون تلك المقيدات راجعة لمبتدعات منحولين ومنتحلين للدين، وزاعمين لمعرفته وقيادته، سيكون السبيل الأمثل لجدل ديني واع وناضج، وقد ينهي العديد من الحروب والفتن، التي تقاد مرة باسم الدين ومرات باسم الحرية.

أحدث المقالات