23 ديسمبر، 2024 4:37 ص

جوهرة من ملحمة القصب

جوهرة من ملحمة القصب

ولدت من رحم الجهاد، ولادة طبيعية، في كوخ من قصب، تربت بحضن الوطن خلسة، عندما كان مسلوبا، منزوع الحرية، انطلقت لتتبوأ مكانتها، رغم أفانين الموت الملون والمتنوع، الذي يحيط بمحرريها، ليل نهار.
عاشت على أنغام البؤس والشقاء، ورضعت من مواويل الجنوب الحزينة، تترنم مع أحاسيس القصب المندائي، تتمايل مع أغصان البردي الغضة، كلما حط عليها طير حر، يؤدي لها لحنا حزيناً، كاتباً جديداً يودعها مقالاً جريئا، تحتفظ بأفكاره، لتعمل على ترصينها، وترصها لبعضها البعض، لتنشأ صرحا جديدا للحياة.
 يندلق منها يوميا عدد بعد آخر، غايتها ملأ كأس الحرية الحمراء، التي امتلأت وفاضت من دماء شهداءها، ولا زالت لم تسكتها صيحات الطاغوت، ولا رصاصات البغاة، ولا مفخخات الأمس، أو مناكفات اليوم.
قُطعت أوراقها، وكسر الحمقى ساقها، وغُيب روادها سجنا وتعذيبا، وبقيت تستمد قوتها من طبيعتها، من أهوارها، من ولاءها العظيم، من جذورها التي تمسكت بأرض مداها سبعة آلاف سنة.
كالجوهرة تتلألأ صفحاتها، وقد إصْطَفَت مكانها، في قلوب رجال لم يعرفوا المستحيل، تبناها رجل واحد، علم كثيرين وربى آخرين، حنكها، وهذبها، علمها وعلم رجالها، إن العشق لا يتأتى الا مع الدماء، أن الحياة إذا تزاحم الموت معها، فالموت قد يكون أولى.
ثبتها وثبت رجالها، وأدلهم سواء السبيل، شد عودهم واشتدوا به، وطرد عنهم طاغوت العصر، لكنهم فارقوه، وهم في غفلة من أمرهم، بعد أن بردت سواعدهم، وفارقهم وهو يعلم ساعة الموت، ومكان مذبحهِ، في محراب جده صاحب المحراب، ويعلم أنهم سيعودون يوما ما، للجهاد من جديد، ليعطوا بدل الألف، آلافاً من الدماء.
ملحمة القصب لم تنتهي، فلازال الماء يُقطع عنهُ، والبردي تُسرق بذوره وطلعه، ولم يشبع أهله منه، ولازال الطين لم يجف من على أطراف قدورهم، فهم جوعى كما كانوا، ولا زالوا حفاة كما ولدوا.
أما الجوهرة فلابد لها من اللمعان والتألق، حتى وإن سقطت يوما من على صدر شهيد، أو غيبت مع سجين، فلا بد للصدور أن تحملها، لأنها أمانة من رجل عظيم، علمنا كيف نسبك حكايات الحياة في ملحمة القصب.