27 ديسمبر، 2024 4:56 ص

جوكوفسكي الشاعر و الصحافي والمترجم والمعلم

جوكوفسكي الشاعر و الصحافي والمترجم والمعلم

هو المعلوم جدا والمجهول جدا معا , المعلوم في تاريخ الادب الروسي ومسيرته بكل معنى الكلمة , والمجهول لدينا عربيّا مع الاسف الشديد بكل معنى الكلمة ايضا , انه فاسيلي أندريفيتش جوكوفسكي ( 1783 – 1852 ) , أحد أعلام الادب الروسي الكبار في النصف الاول من القرن التاسع عشر , والذي يقف اسمه الان جنبا لجنب مع ادباء روسيا المشهورين في تلك الفترة مثل كارامزين وفانفيزن و بوشكين وغوغول وغيرهم …. .
سمعنا باسمه لاول مرّة عندما كنّا طلبة في جامعة موسكو , حيث ذكره استاذ مادة تاريخ الادب الروسي في النصف الاول من القرن التاسع عشر , وحدّثنا , كيف أهدى جوكوفسكي صورته الى بوشكين , وكتب عليها جملة دخلت في تاريخ الادب الروسي , وهي – ( الى التلميذ المنتصر من المعلّم المندحر ) . هذه الجملة انحفرت في بالنا عندما كنّا يافعين , وادهشتنا بتواضعها وعمقها وجماليتها وطرافتها, ولازالت ترتبط باسمه لحد الان بالنسبة لنا . وعندما بدأنا لاحقا بالتعمق في دراستنا , ارتبط شئ آخر مهم جدا باسمه ايضا في أذهاننا , اذ تبين ان جوكوفسكي هو (ابو الرومانسية !) في تاريخ الشعر الروسي , وأحد طلائع الشعراء الرومانسيين الروس , فما أجمل هذا الموقع وما أروعه في مسيرة الادب الروسي وتاريخه , وهكذا بدأنا ندرس نتاجاته و ابداعاته , والتوسّع بالاطلاع على مختلف جوانب هذا الابداع , واكتشفنا انه شخصية كبيرة جدا في دنيا الادب والثقافة الروسية في ذلك العصر لدرجة انه اصبح عضوا عاملا في اكاديمية العلوم للامبراطورية الروسية منذ عام 1818 فصاعدا باعتباره واحدا من أكابر الادباء الكلاسيكيين الروس , بل انه أضاف في علم العروض الروسي بحرا خاصا الى بحور الشعر الروسي يرتبط بخماسيات الشعر الحر في روسيا , وكل هذا يرتبط بالنقطة الاولى في عنوان مقالتنا , اي جوكوفسكي الشاعر , اما النقطة الثانية , وهي الصحافي , فيرتبط اسمه باصدار دورية معروفة في تاريخ الصحافة الروسية هي – ( فيسنك يفروبا ) , والتي لعبت دورا بارزا في اوائل القرن التاسع عشر , عندما كان جوكوفسكي المحرر الرئيسي لها , واستمرّت هذه المجلة بالصدور طوال القرن التاسع عشر تقريبا , وساهمت مساهمة فعّالة في الحركة الثقافية الروسية. أمّا بخصوص النقطة الثالثة , وهي الترجمة , فاننا اكتشفنا ايضا , ان جوكوفسكي مترجم بارز (في ذلك الزمان البعيد) عن اللغات الالمانية والانكليزية والفرنسية , عندما كانت حركة الترجمة الادبية الى الروسية في بداياتها ليس الا , وان اسمه في مجال الترجمة يرتبط في كونه مترجم (الاوديسه) الى الروسية , وان هذه الترجمة الرائدة لازالت لحد الان تتفاعل و تتعايش مع القراء في روسيا رغم مرور قرنين ونيّف من الزمان على ظهورها , اذ انها لازالت تطبع ويعاد طبعها.أمّا النقطة الرابعة في عنوان مقالتنا , وهي – جوكوفسكي المعلّم , فان عائلة القيصر الروسي اختارته لتعليم ابنائها اللغة الروسية , وقد أدّى مهمته في هذا المجال بشكل مدهش وحاز على ثقتهم وعلى مكانة متميّزة عندهم , واستخدم جوكوفسكي علاقته الجيّدة بعائلة القيصر في خدمة الادباء الروس والحركة الادبية عموما ( انظر مقالتنا بعنوان – رسالة غوغول الى قيصر روسيا )
وكل هذه النقاط التي ذكرناها بشكل خاطف وسريع ليس الا , تستحق واقعيا التوقف التفصيلي عندها باعتبارها جوانب مهمة في مسيرة الادب الروسي وتاريخه , ولكننا لا نستطيع في اطار مقالتنا التعريفية هذه ان نتوقف عندها تفصيلا , ولهذا نختتم مقالتنا بالتوقف عند حادثة تاريخية متميّزة ترتبط بهذا الكاتب الروسي الكبير , وهي , موقفه بعد مبارزة بوشكين عام 1837 , والتي أودت – كما هو معروف – بحياة شاعر روسيا الكبير , او شمس الشعر الروسي كما يسمونه . لقد سمع جوكوفسكي في مدينة بطرسبورغ بمبارزة بوشكين , وحاول ان يقنع بوشكين بعدم القيام بها – و بكل ما يستطيع – وان يثنيه عن ذلك , ولكن بوشكين رفض كل هذه المحاولات , وأصرّ على المبارزة , وبعد ان حدثت تلك المبارزة و تم جرح بوشكين , ذهب جوكوفسكي الى بيت بوشكين , وعرف من طبيبه الخاص , ان جرحه مميت , وكان في الغرفة المجاورة التي كان يرقد فيها بوشكين , وكان بوشكين في لحظاته الاخيرة , فأخذ جوكوفسكي يده وقبّلها , وعندما حملوا الجثمان , ذهب جوكوفسكي الى القصر الملكي , وحصل على الموافقة بحصر كل وثائق بوشكين واوراقه في غرفة خاصة وختمها بمهره حفاظا عليها , ثم نقلها بعدئذ الى بيته مع أحد أقرب اصدقاء بوشكين , وهكذا استطاع الحفاظ على هذه الاوراق والوثائق التاريخية المهمة للشاعر الروسي الكبير , وابتدأ باعداد المؤلفات الكاملة لبوشكين للنشر , وأخذ على عاتقه المساعدة على استمرار طبع مجلة ( سوفريمينك ) التي كان يصدرها بوشكين ( انظر مقالتنا بعنوان – بوشكين صحفيا ) .
كم توجد في تاريخ الادب الروسي من اسماء واحداث وظواهر شبه مجهولة للقراء العرب , وكم نحتاج الى جهود لتعريف هؤلاء القراء بكل هذا الكم الهائل من الاسماء والاحداث والظواهر في تاريخ الادب الروسي قديما وحديثا .