من يقول كلمة الحق بصوت عال في زمننا الرديء كمن يجهر بالحق أمام سلطان جائر، بجانبه السيّاف يمسك في يمينه السيف البتّار وفي شماله النطع! هكذا هو الحال، فالكل مع القوي والقوي هنا ليس بقوة ومنعة اقتصاده المبني على الصناعته وامتلاك قاعدة تكنولوجية تعززمكانته الدولية كقوة إقتصادية وسياسية، إنما القوي في مقياس هذا الزمان العربي هو من ملك المال الذي يأتي من اقتصاد ريعيّ أحادي الجانب، يستخرج الذهب الأسود سائلاً أو غازاً ليضخ الى البلدان الصناعية، لتسترجع ما دفعته عن طريق تصدير السيارات ووسائل الترفيه التي تماشي روح العصر الإلكتروني وقبل كل هذا الأسلحة التي تتكوم وتصدأ لتجدد ثانية وثالثة.. وبذلك أنقذت شركات أسلحة من الإنهيار!
وهي لا تستعمل هذه الأسلحة التي كلّفت صفقات إثر صفقات تجاوزت عدة مئات المليارات من الدولارات إلا للهيبة والتحصن وإخافة شعوبها والاعتداء على شعوب فقيرة كما يحصل في اليمن أو التدخل بشؤنها كما يحصل في سوريا وليبيا وقبلهما العراق.. الخ. وأمراء البترودولار هم من أغدق على التنظيمات الإرهابية متمثلة بالقاعدة أولا وبداعش ثانيا.. وهم معروفون بالأسماء وبمبالغ التحويلات المالية وأسماء البنوك كلها بالوثائق، لكنهم لا يذكرون فالمصالح متشابكة ومتبادلة!
وجورج قرداحي هو إعلامي لبناني كفء له خبرة تجاوزت العقود من السنين في محطات عالمية مثل مونتكارلو وكسب شهرة وحضوراً فأصبح يعتمد عليه في إنقاذ فضائيات وإذاعات من فشل محقق فينهض بها، كما اشتهر ببرنامج ثقافي “من سيربح المليون؟” الذي ترعاه السعودية والمليون هو مليون درهم..الذي حاز على شهرة عربية واسعة، لحضوره الهادىء الفاعل ولسلاسة لغته مشفوعة بكارزما ووسامة.. وهو رجل مثقف وإنساني النزعة عابر للطائفية ولطالما يؤكد بأن مسيحي لكنه محب للإسلام عن دراية ويراه والمسيحية متقاربين! ومرة نوّه بإعجابه بشخصية الإمام علي وبلاغته وزهده وفروسيته الإنسانية!
صرح في آب الماضي من على فضائية الجزيرة بأنه ضد الحرب التي يشنها التحالف العربي الأمريكي على اليمن، ورأى إن هذه الحرب عبثية جلبت الدمار والهلاك لليمن ولا بد من وقف العدوان على اليمن لأنها أصبحت عبثية..وكان هذا التصريح قبل أن يصبح قرداحي وزيرا للإعلام بأسبوعين أو أكثرحيث كان الاعتراض الخليجي عابرا، وما أن أصبح الأستاذ قرداحي وزيراً للإعلام في وزارة ميقاتي تذكر الأخوان الخلايجة وهبّوا بوزرائهم للشؤون الخارجية وبمنظمة التعاون الخليجي هبّوا هبة رجل واحد وعملوا ضجة معترضين على فرداحي وعلى من استوزره؛ واستدعوا سفراء لبنان في دولهم وقدموا مذكرات احتجاج شديدة اللهجة ولمّحوا كيف للبنان الذي يحتاجهم في المعونات يتجرأ على سادته، لقد أوضح رأس الوزارة اللبنانية ميقاتي وحاول التبرير واعتذ ووصف العلاقة بين لبنان والسعودية بالمقدسة.. بينما اكتفى الوزير قرداحي بتوضيح رأية دون أن يتنازل، مما كسب ود واحترام الناس على ثباته على رأيه وعدم التفريط بكرامته..
ويبدو أن الدول الخليجية تنظر لعلاقتها بلبنان بكونها علاقة التابع بالمتبوع، علاقة الفقير بالسيد الغني، فللموضوع خلفياته، فقبل سنوات استدعي رئيس وزراء لبنان يومذاك سعد الحرير الى السعودية وسافر الرجل وهو مزدوج الجنسية (لبناني/سعودي) واستقبل بالإهانات واحتجز وأذِل وأجبر على الاستقالة وخرج الرجل أشعث الشعر واللحية يابس الفم شاحب الوجه يقرأ استقالته من رئاسة وزراء لبنان بصوت مرتجف.. بعدها أطلق سراحه ووصل لبنان وما كان مصدقاً أنه خرج من الجحيم، والقصة معروفة..
أما قضية وزير الخارجية السابق شربل وهبة فقد كان في نيسان في حوار سياسي مع صحفي سعودي هو سلمان الأنصاري، وحمي وطيس النقاش ليتجاوز السعودي على رئيس الجمهورية اللبنانية، ودافع وزير الخارجية عن بلده ورئيسه العماد عون، وغادر الاستوديو وهو يقول: أنا في بلدي لبنان ويأتي خليجي بدوي يتجاوز على بلدي لا أقبل.. واستقال الرجل من وزارة الخارجية غير متأسف على منصب لم يحفظ له ولا للبنان كرامته..
نعم مصلحة بعض سياسيي لبنان المعروفين بعلاقاتهم وثرائهم السعودي الجذور يمنعهم من التصدي للمتطاولين الخليجيين وهؤلاء لكونهم محدثي نِعم قد طغوا بمالهم، ولعلنا نحن العراقيين نتذكر السفير السعودي ثامر السبهان في بغداد وتدخلاته في شؤون العراق في الوقت الذي كان العراق يخوض معركة حامية ضد الدواعش وكان للسبهان صولاته وجولاته وتجاوزاته خارج الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، فقد توهم أن العراق هين لين يفرط بكرامته وهو في أزمة سياسية فأخطؤوا الحساب!
تحية للأستاذ جورج قرداحي على وقفته الشجاعة وثباته على الرأي وتلك هي الرجولة في زمن الإذعان!
28ن1/اوكتوبر 2021