18 ديسمبر، 2024 8:40 م

جورج طرابيشي المفكر الذي أنهكته الثقافة العربية

جورج طرابيشي المفكر الذي أنهكته الثقافة العربية

ليس من المعقول أن تمر علينا ذكرى وفاة المفكر العربي جورج طرابيشي، في السادس عشر من آذار، وأن نمر عليها مرور الكرام، دون ذكر أو وقفة أو تسليط الضوءعلى شيء من فكره ومنهجه وأسلوبه في التفكير، وما قدمه للثقافة العربية من منجزات، فهو المثقف والمترجم والكاتب والمفكر والانسان، الذي أنهكته الثقافة العربية، وما طرح من منجز فكري وثقافي وأدبي عربي وعالمي، ولم يكن طرابيشي هادئاً في بحثه وكتاباته وقراءته، رغم هدوءه كانسان، بل كان دائم القراءة والبحث والتنقيب والتحليل والغوص في أعماق الفكر والثقافة والوجدان، وقد تعلم من عالم النفس فرويد ذلك الغوص وتلك السباحة والسياحة في أعماق الانسان، وملاحقة تاريخه وكل حركاته وسكناته، ليكتشف كل خبايا وماورئيات الانسان، ومدى سيطرة الجانب اللاشعوري على الشعور وصنع شخصية الانسان، وهذا المنهج النفساني الفرويدي المميز قد استفاد منه طرابيشي كثيراً في صياغة منهجه الفكري، وأعتمده منهجاً وآلية في قراءة وتحليل الشخصية الفكرية والثقافية والأدبية للمثقف العربي وما قدمه من انجاز في هذه المجالات، وان كان فرويد قد قدم دراسات نفسية تحليلية وفق منهجه النفسي عن شخصيات أدبية وفكرية وعلمية ودينية، كما أجراها على دافنشي ودستويفسكي وموسى وغيرهم، فأن طرابيشي كان الممثل العربي الأبرز لمدرسة التحليل النفسي، الى جانب ما تبناه من أفكار فلسفية من الماركسية والوجودية وغيرها، فقد طبق طرابيشي ذلك المنهج الفرويدي النفسي أو لنقل التحليل النفسي ـ الفلسفي، على المثقف العربي ومنجزه الفكري والأدبي، فقد مارس ذلك على مستوى الأدب مع نجيب محفوظ الله في (رحلة نجيب محفوظ الرمزية) ونوال السعداوي في (أنثى ضد الأنوثة) وأدباء آخرين في (شرق وغرب، رجولة وأنوثة) و (عقدة أوديب في الرواية العربية) و( الرجولة وأيدولوجيا الرجولة في الرواية العربية)، وعلى مستوى الفكر والثقافة مع حسن حنفي في (المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي) وعلى مجموعة من المفكرين والمثقفين العرب من رواد النهضة العربية ودعاة التجديد أمثال قاسم أمين وطه حسين وزكي نجيب محمود وسمير أمين وزكي الأرسوزي ومحمد عمارة ومحمد أركون وياسين الحافظ وغيرهم في (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) و (من النهضة إلى الردّة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة)، ولا ننسى مشروعه النقدي الأهم والكبير الذي تكلل بنقد المفكر محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، بكتابات جادة وجريئة فككت وحللت مشروع الجابري النقدي، في مؤلفات طرابيشي (نقد نقد العقل العربي : نظرية العقل العربي ج1) و (نقد نقد العقل العربي : إشكاليات العقل العربي ج2)، و (نقد نقد العقل العربي : وحدة العقل العربي ج3) و (نقد نقد العقل العربي : العقل المستقيل في الإسلام ج4)، حيث قدم طرابيشي رداً مشرقياً على جابري المغرب العربي الذي أدعى برهانية العقل المغربي وبيانة وعرفانية وغنوصية العقل المشرقي، وقد عكف طرابيشي على قراءة وتحليل ونقد الجابري لعقدين من الزمن، وأضطر الأول لقراءة المنظومة الفكرية التي قرأها الثاني، ليسيطر على مسألة الرد والنقد والتمتع بموضوعية بنسبة ما.
لقد كان للجابري الفضل عل طرابيشي، كما يقر الثاني ويتعرف بذلك، فشهرة طرابيشي كانت قد تحققت وعلت بسبب ذلك المشروع النقدي الذي قدمه كردٍ على الجابري، فأن كان أبن رشد المغربي قد رد على الغزالي المشرقي في (تهافت التهافت)، فأن طرابيشي المشرقي هنا قد رد ونقد الجابري المغربي في مشروعه (نقد النقد) ليقدم قراءة نقدية مشرقية منصفة تليق بالمشرق العربي دون المساس أو الاساءة لمغربه.
اذا شأنا أن نقسم المراحل الفكرية التي مر بها طرابيشي فأننا نحصرها في ثلاث مراحل وهي :
1ـ مرحلة الترجمة التي مر بها طرابيشي والتي تمثل المرحلة المبكرة من حياته الثقافية والتي أهتم بها بترجمة المؤلفات النفسية والفلسفية.
2ـ مرحلة الكتابة الأدبية التي تميزت بالكتابة والنقد في المجال الأدبي وتطبيق المنهج النفسي لمدرسة التحليل النفسي في قراءة ونقد الكتابات الأدبية في الثقافة العربية.
3ـ مرحلة الفلسفة والنقد، التي كانت المرحلة المتأخرة من حياة طرابيشي، التي تضمنت نقده لمشروع الجابري الفكري، ونقد الكثير من المفكرين والقضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية والتراثية في الفكر العربي والاسلامي في مؤلفات كثيرة قدمها طرابيشي.
ووفقاً لهذه المراحل الثلاث التي مر بها فكر طرابيشي يمكن وضع ثلاثة أزمنة وأمكنة عاشها طرابيشي، والتي شكلت أثراً مهماً في صياغة وبناء منظومته الفكرية وهي :
1ـ سوريا، الولادة والنشأة والتكوين.
2ـ لبنان، العمل السياسي والصحفي والثقافي.
3ـ فرنسا، المهجر الذي أستطاع أن ينظر من خلاله الى محنة الفكر العربي ليقدم مشروعه النقدي.
المراحل الفكرية لطرابيشي وتغير الأمكنة والظروف السيئة والصعبة التي مر بها المجتمع العربي قد تركت أثرها عليه، ولكنه كان يتلقاها بصدر رحب، ولم تزده الا قوةً وعطاءً وصبراً وابداعاً، فقد أغنى المكتبة العربية بعطائه ومنجزه الفكري، من ترجمة وتأليف وتحقيق ومشاريع ثقافية وفكرية وأدبية كبيرة لا يستطيع الباحث العربي الاستغناء عنها. فطرابيشي قد نحت أسمه نحتاً على صخرة العلم والمعرفة والثقافة العربية المعاصرة، وقد أعطى للعلم جميع حياته، وكان في قمة التفاني والوفاء والاخلاص للثقافة العربية.
يسجل طرابيشي أسفه على واقع الثقافة العربية والمثقف العربي، وعلى ما مرت به من أخفاقات وأنتكاسات كبرى طوال تاريخها القديم والمعاصر، فالثقافة العربية ثقافة انفعالية عاطفية، لا تفكر بصورة منطقية وعقلية صحيحة، وهي منحازة تماماً لما تنتمي له من عقيدة وأيديولوجيا وفكر، والتعصب هو السمة الأبرز للمثقف العربي الذي يمارس ذلك في كتاباته بصورة شعورية ولا شعورية، وهو يحاول دائماً الأنتصار لما يعتقد وما يؤمن به، بحجج منطقية لا تحيد عما يريد من غايات وأهداف وطموح ضيق. يقول طرابيشي: (انني أنتمي الى جيل الرهانات الخاسرة. فجيلنا قد راهن على القومية وعلى الثورة وعلى الاشتراكية ـ وهو يراهن اليوم على الديموقراطية ـ لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم، بل كمطايا الى النهوض العربي والى تجاوز الفوات الحضاري، الجارح للنرجسية في عصر تقدم الأمم.) جورج طرابيشي. من النهضة الى الردة : تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة. ص 7.
ولم يسلم المفكر والمثقف والأديب والفنان العربي من تلك الأزمة وضيق الأفق في السلوك الثقافي والمعرفي، فقد ركب كل من هؤلاء مطاياهم الخاصة بهم محاولين النجاة والوصول الى بر الأمان، ولكن لا بر ولا آمان، بل هي لحظات مخدرة ونقلات بسيطة عشناها محاولين الشعور بالنشوة لفترة من الزمن، ولكن دون جدوى كل تلك الحركات واللحظات، لأننا نسير في متاهة ودوامة ليس لها من مخرج، وأننا نضع الأطر والقيود حول أنفسنا كعنكبوت ينسج بيته على نفسه.
لقد حاول طرابيشي بيان حقيقة المثقف والثقافة العربية وحالتها الصحية السيئة التي نمر بها والتي يعيشها الواقع العربي، ولكن الواقع العربي هو الذي أفرز هذه الأحداث والظروف والأزمات، من سياسة ومجتمع ودولة ومؤسسات، الأخفاق السياسي والاجتماعي والحياتي هو الذي أنتج التردي الثقافي والفكري والمعرفي، وبالتالي ندور في حلقة واحدة، وترابط العلة والمعلول في الوصول الى هذا الحال السيء.
طرح طرابيشي مشروعه الفكري وفيه الكثير من الطروحات والموضوعات، وقد ناقش مسألة هي من امهات الموضوعات، وهي مسألة التراث والتحديث، فالمفكر والمثقف العربي قد أشغل نفسه كثيراً في هذا الموضوع، فكبار المفكرين العربي قد دخل في هذا المجال ولم يخرج منه، فهو نفق مظلم عميق ليس فيه من نور، وكأن واقع الفكر والثقافة العربية المعاصرة لم تأت الا لمناقشة هذا الموضوع، الذي هو استمرار لما طرحه المفكر العربي الحديث زمن النهضة العربية، مع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم. فقد كان الموقف من التراث والتجديد (الأصالة والمعاصرة) هو الشغل الشاغل لجميع المفكرين طوال القرنين (التاسع عشر الميلادي والقرن العشرين)، وقد كانت أجابات المفكرين والمثقفين لا تخرج عن احدى الاجابات أو المواقف الثلاثة :
1ـ موقف مع التراث.
2ـ موقف مع التجديد والحداثة.
3ـ موقف مع التراث والحداثة.
وقد وصف الموقف الأول بالموقف السلفي (الماضوي)، والموقف الثاني بالموقف العلماني (التغريبي)، والموقف الثالث بالموقف التوفيقي.
والى اليوم وفي الألفية الثالثة من الزمان ونحن ندور في هذا الحديث وهذه الدوامة وهذا الموضوع القديم الحديث، الموقف من التراث. الذي شغل صفحات وكتابات وأقلام الباحثين والمفكرين العرب، وكأنه مطلوب مة كل مفكر أن يدلي بدلوه من هذا الموضوع، ولذلك فقد ذبنا في التاريخ وعشقنا أحداثه، ونتحرك وفقه، سواء أشعرنا بذلك أم لم نشعر، فلم يتحرر أحد منا من قبلياته وقبيلته الفكرية والأيديولوجية مهما نال من معرفة وثقافة وخبرة، وهذا ما جعلنا نفكر بطريقة ضيقة جداً ونستحضر التاريخ بسلبياته في كل خطوات تفكيرنا ومشاريعنا الثقافية.
نحن لا نستطيع التقدم خطوة الى الأمام ما لم نُحسن طريقة تفكيرنا، ونهذب عاداتنا وتقاليدنا، ونتحرر من سلطة السياسة والدين والأيديولوجيا، وأن نفكر بطريقة حرة، وأن نؤمن بالآخر كايماننا بذواتنا، وأن نشكل كينونة انسانية واحدة تنظر الى الجميع بعين واحدة، تحترم حقوقه وكرامته، وأن نتحرر من سلطة التراث والتاريخ المزيف والماضي الذي صرنا أسرى بيديه وبالتالي عبيد لا نستطيع التخلي عنه، بل ان الأمر أصبح أدهى من ذلك هو اننا ندين بدين الانسان وما طرحه من أفكار متطرفة دون اللجوء الى رحمة السماء وسماحة الاديان التي رددها الانبياء للخلاص من الظلم والتطرف والكراهية، وما اسلام الحديث الا تحقيق فعلي واقعي في المجتمع الاسلامي والابتعاد عن الاسلام القرآني الذي جاء به النبي محمد (ص)، وهذا ما ناقشه طرابيشي في آخر مؤلفاته (اسلام القرآن واسلام الحديث)، فضلاً عن كتاباته الاخرى التي دعا من خلالها لتخليص العقل العربي والمسلم من نومته ومن سباته الطويل ليستفيق ويطلق العنان للعقل المستقل تاركاً العقل المستقيل وراء ظهره، والتفكير بعلمية ومنطقية، دون اللجوء الى منطق الكرامات والمعجزة، الذي خضع له الفرد والمجتمع العربي طوال قرون ولا يزال. وهذه أمنية طمح لها طرابيشي لأجل أن تكون للثقافة العربية نصيب من العقل بين الشعوب والمجتمعات، لتقديم علاج ناجع لما تعانيه من أزمات وأنتكاسات وأنكسارات في واقعها المزمن. فما أشبه طرابيشي بالفيلسوف الالماني نيتشه، الذي حمل معوله لهدم الأصنام ومحاربة الجمود والتقليد، ولكن شتان بين الواقع الأوربي والواقع العربي، ولكنني على يقين بأنه مهما طالت هذه الظروف ولكن القادم من الأيام سيرينا النور لنحطم جهلنا وذواتنا المظلمة لنحمل الشمس من جديد.