جورج جرداق شخصية لبنانية كبيرة , بل قامة طويلة في الأدب والفن والشعر والتأريخ , يعشقه محبو التراث الإسلامي وبالذات عشاق الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام , كما يحبه عشاق أم كلثوم , وبقدر ما أبدع في الكلمة الناعمة الرقيقة والمفردة الساحرة ليجعل المطرب محمد عبد الوهاب وأم كلثوم يشدون الرحال إلى صومعته الريفية حيث كانت ولادته عام 1933 في “جديدة مرجعيون ” في لبنان وتكتمل بوجودهم هناك رائعة ” هذه ليلتي وحلم حياتي ” .
مات قبل يومين فإرتفعت روحه للسماء لتحل ضيفا بحضرة الخالق إكراما للإمام علي بن ابي طالب , الذي كتب عنه الراحل أغنى الكتب وأغزرها , فقد صب خلاصة فكره وسر بلاغته وطول نفسه في ست مجلدات بعنوان الإمام علي صوت العدالة الإنسانية , علي والثورة الفرنسية , علي وحقوق الإنسان , علي وسقراط , علي والقومية العربية , علي وعصره .
لقد حول الراحل السرد التأريخي الثقيل إلى قراءة جديدة , أحداث الماضي ممزوجة بنكهة الحاضر وبذلك أنهى جمودية المعلومة التأريخية ليظهر لنا احد رجالات الإسلام بواقع عصري متميز , وليقدم للغرب بطريقة غير مباشرة الكم الثر من فنون المعرفة التي إقترنت بظهورالإسلام وحولها من الجانب النظري للجانب التطبيقي , وهكذا نجد الثورة الفرنسية وفلسفة سقراط ولائحة حقوق الانسان التي جاءت بها وثيقة الأمم المتحدة وقيم العدالة المطلوبة دوليا جزء من ممارسات الإمام علي في حياته شخصا وزوجا ومواطنا وخليفة .
لو كان الرجل مؤرخا إسلاميا أو رجل دين محترف لقلنا تلك من متطلبات وجوده لكن الرجل كان مسيحيا لكنه ينظر بعين المنصف وبمنظار العصرية حتى لتشعر به كأي واحد من الناس العادين غير أن نقطة خلافه مع الآخرين الحب والإيمان والإقرار مع النفس أولا بأحقية الإمام ولذلك عندما كتب سفره الملحمي كان سعيدا لأنه قدم للعالم صورة الإسلام من خلال علي وقدم علي صورة الإنسان السوبر أو قل الإنسان القريب من الله بل صورة الله على الارض .
وبقدر إنشغال الناس بالكتاب وجمليات التنوع الحياتي الذي تناوله بما يقارب بثلاثة وعشرين ألف صفحة إنشغلوا بالرجل الضئيل البسيط الذي لا يبدو عليه كل هذا الإقتدار , فعرضت عليه قنوات فضائية وحكومات وشخصيات ووسائل إعلام الكثير من المغريات من أجل أن يكتب عن شخيات أخرى لكن الرجل أجاب بصراحة المثقف الملتزم : لقد عرض علي بعض الناس من دول الخليج العربي ومصر أن أكتب عن عمر شيئا وآخرين لكنني رفضت ليس لأني أرى ان عمر سيئا لكنني لم أجد من هو أهلا بعد علي للكتابة فعقرت قلمي في أن أكتب لشخص غيره وهو ما حدث بيني وبين علي وما يجب أن يحدث بين الآخرين
وعلي , يجب أن يكون ماهو معتمد على عرقية أو فئوية أو حزبية أو إيديولوجية ضيقة , بل أن العدالة المتوفرة في علي من عادات عربية أصيلة كحب الخير والمساعدة والنخوة والشهامة والكرم والرجولة والبطولة والفروسية والشجاعة والعدل والإنصاف والثقافة والأدب والعلم والدين والزهد ومخافة الله وما غير ذلك أمور تدفعني في أن أتخذ من الإمام علي عليه السلام إيقونة قومية عربية أتفاخر بها .
كل تلك المواصفات في علي جعلته يتوقف عن الكتابة للآخرين لأنهم لا يملكون ما يملك بطله وكي يوقف سر تعجب الآخرين أجاب بلا تحفظ ولا وجل : أن أحد أسباب الكتابة عن الإمام علي لأنه كان نموذجا وهو يؤسس في دولته إلى العدالة , ولأن علي كان إستاذ عصره وجيله في الحكمة والفلسفة , بل إستاذ الأجيال ألتي تعاقبت من بعده .
هذا هو جورج سجعان جرداق الرجل الوحيد من دون كل العالم الذي كان يتمنى الموت وكلما شعر بدنو أجله إبتسم بنشوة المنتصر لأنه سيلتقي مع من أغرم به في الدنيا , هنيئا لك وأنت الضيف الكريم في حضرة أمير المؤمنين , هنيئا لروحك الطاهرة هنيئا لك وأنت تحمل جواز مرورك السراط بثقة المؤمن الذي تجاوز التعصب والمنافع وإعتقد بأن الدين عند الله العمل والحب وإشاعة المكارم وتخليد من ذب بسيفه عن دين محمد.