22 نوفمبر، 2024 10:52 م
Search
Close this search box.

جهل مركب

في التالي من سطور، أستطلع مشاهد ووقائع حية، ارتأيت ذكرها للاستفادة من مغزاها، ومعرفة ما اذا كنا نسير على الدرب الصحيح أم أنا أضعنا الطريق!. فالإنسان يسير في الحياة متفحصا منازلها مستكشفا محطاتها التي يحط رحاله فيها بعد طول السفر، وبعد ان يختار احدها يخوض في شق غمارها، فإن كانت حيص بيص من حروب وتفسخ على كل المستويات، وتجويع وتركيع فلا مناص ولا خلاص من أن تشمله تلك الفوضى، ولشدة تلاطم امواجها وصخب هديرها، لا يبقى الا القليل ممن تواصوا بالحق وبالمرحمة. ولتخفيف المأساة اود سردها بأسلوب ساخر، وكما يقول الله تعالى في محكم كتابه عن حال الانسان الذي فقد ربان سفينة عقله وسلم للطغاة امره: “مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ”.

مشهد رقم (1)

سعد ورعد جاران متحابان، لم يقع بينهم الا ما يقع بين الجيران من نزاع الاطفال وخلاف النساء وجدال حول نظافة الشارع واماكن وقوف السيارة. وما ان حل رمضان الكريم حتى اشتد الخلاف حول الهلال، ومن كان على صواب ومن اخطأ، وتفاقم الخلاف وأوصدت الابواب وأغلقت النوافذ، وتوقف الكلام وانقطع السلام، واستنصر كل بعشيرته، تحسبا لتطور النزاع، فهذا هلال سعد وذاك هلال رعد، وكفر احدهما الاخر، وازداد التطرف بينهما، والكل يعرف التزامهما بالعرف والعشيرة اكبر من التزامهما الديني. وبعد التي والتيا، أجلس الطرفان على مسافة واحدة من النزاع، ونزع فتيل الازمه، بعد ان تم احضار احد المتخصصين بالرؤية الشرعية، مستعينا بأستاذ الفيزياء لإحدى المدارس المجاورة ليزيل الشبهة عن هذا الموضوع، فأضاءت المعرفة المكان واستدل الجميع بالبرهان، واستأنس الحاضرون المكان، وذهب الجميع الا سعد ورعد وساد الصمت الأركان، قال سعد هذا هلالك هذا العام، وحصتي هلال العام المقبل لامحال!

مشهد رقم (2)

ذهب سعد ليشتري تلفازا، فسأل صاحب المعرض عن سعره وهو يشير الى احد الأجهزة، فقال البائع: لا نبيع للمغفلين. وبعد شجار صغير عاد سعد متنكرا بزي رجل كبير السن، وسأل البائع السؤال نفسه، فقال البائع: سلامة نظرك يا رجل، لا نبيع للمجانين، وكتمها سعد في نفسه. وعاد متنكرا في زي امرأة، واعاد على البائع السؤال، فقال: لا نبيع للفاشلين. فانتفض سعد ورمى العباءة والفوطة وهو يتمايز غيظا وقال: لم تبق هيئة لم آتك بها، وما زلت ترفض تبيعني هذا التلفاز اللعين، فما السر في هذا؟ فاجابه البائع مستغربا: كنت اظنك تمزح فهذه ثلاجة صغيره وليس بتلفاز. كم منا لا يعرف كيف يشخص الاشكال او كيف يوجه السؤال، وخلف كواليس هذا الموقف الجهل والأميه المعرفية والارباك الذهني، فنهلك ونهلك الاخرين على امر لا نعرف مدى نفعه او ضرره، او نصبح إمعة فننعق مع كل ناعق ونلهث خلف السراب.

مشهد رقم (3)

هنا على قارعة الطريق يقف رعد في يوم صيفي لاهب، يتصبب عرقا تحت اشعة الشمس الحارقة، يراوح بقدميه لشدة حرارة القير المتميع تحتهما، منتظرا من يقله بسيارته .وهو يحلم بإحدى السيارات الفارهة،

وبتبريدها المنعش، وصاحبها المهذب، وكان يسأل نفسه أي الكلمات يختار للترحيب بالسائق؟ واي حوار يدير مع السائق المهذب، ليبين لصاحب السيارة انه اقل رجل يستحق ذلك. وهو يتنقل بين أحلامه وافكاره، مر رجل على حمار وتعتليه مظلة خلقة من خلف رعد، فندسه بعصاه وقال له: ما وقوفك هنا؟ فجفل رعد وتلفت مرتبكا وقال: انتظر من يقلني بسيارته. فرد صاحب الحمار: يا رجل انت صاح ام مجنون! قال: صاح. فقال صاحب الحمار: قف تحت ظل تلك الشجرة وانظر جيدا. لم يعبأ رعد بكلامه، وظل بأحلامه حتى ساح دماغه من الحر، وأخذ ينسحب شيئا فشيئا نحو الشجرة، وما إن انقضت ساعة، حتى عاد الحمار وصاحبه وهو ينظر شزرا الى رعد، ويعيد عليه السؤال: انت صاح ام مجنون! فأجابه رعد: صاح. فقال صاحب الحمار: بل انت حمار. فقال رعد: ألم تهدني الى تلك الشجرة؟ قال: نعم ولكن قلت انظر جيدا. فلمحت عين رعد اللافتة (الطريق مقطوع) فذهل وتسمر في مكانه متفاجئا، لا يعير جوابا، ثم هرع مهرولا خلف الحمار وصاحبه. وهذا ليس حال البسطاء من الناس فقط، بل حتى الرؤساء والساسة والمسؤولين وأصحاب البحوث والمفكرين، بل يتعدى الامر الى اصاحب المذاهب والعلماء، وأروي لكم هذه الحالة بين طرفين عاقلين، تهمهم المصلحة العامة لعلنا نقتدي بهما.

يذكر أن يعقوب بن إسحاق الكندي المعروف بفيلسوف العرب، كان قد بدأ في تأليف كتابٍ يدعي فيه وجود تناقضات في القرآن الكريم، فوصل الخبر إلى الإمام الحسن العسكري (ع)، فصادف أن دخل على الإمام أحدُ تلامذة الكندي فقال له الامام (ع): أما فيكم رجلٌ رشيد يرَدَعُ أستاذكم عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحنُ من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟! فقال له الامام (ع): أتؤدّي إليه ما اُلقيه إليك؟ قال: نعم .قال: فصِرْ إليه، وتلطَّفْ في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعتِ الأُنسَةُ في ذلك، فقل: قد حَضَرتْني مسألة أسألكَ عنها. فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاكَ هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مرادُه بما تكلَّم به منه غير المعاني التي قد ظننتَها أنك ذهبتَ إليها؟ فإنه سيقول: إنَّهُ من الجائز، لأنه رجلٌ يفهمُ إذا سمعَ، فإذا أوجب ذلكَ فقلْ له: فما يُدريك لعلَّهُ قد أرادَ غير الذي ذهبتَ أنتَ إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه! فذهب التلميذ إلى أستاذه وتلطَّفَ إلى أن ألقى عليه هذه المسألة. فقال له: أعِدْ عليَّ! فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأى ذلك محتمَلاً في اللغة، وسائغاً في النظر. فقال: أقسمتُ عليكَ إلاّ أخبرتَني مِن أين لكَ هذا؟ فقال: إنّه شيء عَرَضَ بقلبي فأوردتُه عليك، فقال: كلاّ، ما مِثلك مَن اْهتدى إلى هذا ولا مَن بلغَ هذه المنزلة، فعرِّفْني مِن أينَ لَكَ هذا؟ فقال: أمَرَني به أبو محمد (يقصد الإمام الحسن العسكري (ع))، فقال: الآن جئتَ به وما كانَ ليَخرُجَ مثلُ هذا إلاّ مِن ذلكَ البيت. ثم أمر الكندي بما ألفه ودعا بالنار فأحرق ما ألفه من الكتاب. فرحم الله يعقوب ابن اسحاق الكندي وتلميذه، فقد خفف من بلوانا بعد ان اقتنع وتراجع عما كان يفعل، عندما اضاء له الامام العسكري عليه السلام منطقة الجهل في مبحثه، ليزيل عنه الشبهة في ادراكاته.

وفي الختام، نذكر قول الامام الصادق في ما يخص اهل العلم، ومن يريد ان يصيب كبد الحقيقة (العامل على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق، لا تزيده سرعة السير إلا بعدا).

[email protected]

أحدث المقالات