23 ديسمبر، 2024 5:15 ص

جهة خامسة.. لبيت معتق ” كالنبيذ

جهة خامسة.. لبيت معتق ” كالنبيذ

احدهم فتح باب السيارة المسرعة بقوة، فحطمني فجأة، وتكومت مثل قش يتداعى فوق لهيب نار، غبار اسود يعصف، وامطار سود.. يتخمران في الريح التي استوحلت، فصرنا نتنفس وحلاً سائرين انتظم الى جواري، المسار، فتى ابيض.. يافع لاحت عليه العافية من تحت وعثاء الحرب.

فالحرب سفر لا اياب له

تصاعدت الحرب من محيى الفتى، شآبيب عرق معتم ينضح من مساحات بشرية اللدنة.. الى السماء افترضت بغضاضة كره الخوف:

– خذ.. تمسك بهذه المسبحة فاننا ان تمسكنا بها لن يصيبنا مكروه.. التمسها العصمة من الموت، فتعصمك نجاة، قبض عليها، وسمى بالرحمن، وهو يرنو الي متسائلاً:

– بركة لكنني لست بخائف.

ضربة الباب المميتة، اصبت ذاكرة المدينة.. ايقظتها فأنتفض اللهو في ايامنا المستعرضة على رصيف الشظايا، وها انا، يافع، اشاكس بنات الاعدادية المجاورة لمدرستنا، فتباغتني الحرب بالنفاذ الى الشوارع الفارهة.. المرفهة، تحيل سماءها الى جهات، نرنو اليها وتضحك:

– خدعة سينمائية

وتظل تضحك حتى.. تتصاعد هيستريا الضحك و… تصفعنا الحرب بخطفة نجلاء من باب سيارة مسرعة العمر.. فسحة بين مناصين.

********

جيوب.. بانت على فتوتهن طاقة في التحميل لن تدعه يعجز عن المشي.. طالت حولنا جثث الآليات المعطوبة وقد..

… بلغنا جسراً معتقاً.. القض الزمان من حوله، وترامت عنه البيوت… قصباً

يربط بساتين الضفة البعيدة والساحة الفاصلة بين بيوت وشاطئ النهر.

فقد نأت البيوت عن الشاطئ بمساحة تتيح نسج ملعب للاطفال يبدأ باراجيح العيد وينتهي بصف دبابات على اهبة الاطلاق

بفرح…

… يدخلون لهواً.

و… بفرح يخرجون، وقد تمزقت على جثثهم الاكفان السود.. الهزئة، التي شح الزمان بها واوقفنا موتانا طابوراً، لتسلم الاكفان، بالدور، متوسلين.

*****

كدنا نرتقي ظل الجسر، قبل ان يقصفوه، لولا ان ناداني ” حسب ” بصوته الرخامي الاصيل..

*****

اسهر ليلتي خائفاً.. ارتعد حتى الصباح، سهاداً، كلما قصت علينا جدتي، حكاية خالها ” حسب” كي ننام.

– القى ” حسب ” باسر كال.. جابي ريع المزارع، من الفلاحين للشيخ، في الماء، لانه لم يجفل رجولة عندما باغته، بل تأوه كالنساء الحائضات شبقاً فلحسب طول… اعلى من قصب الهور، يحضر اغلظ من (كبشة) بردي، طلع من بوابة بيت يقع منفرداً، حذو مفرح الجسر في المسافة الخالية بين الشاطئ والبيوت كما يهبط من السماء، او شتاته عفاريت الجن في خلو الانحاء.

ناداني حسب، قبل الجسر، بثوان:

– ن . ع محمد اسماعيل حسين.. تعال.

فجئت الى جدتي والفي يافعاً.. معي

*****

باب قديمة، اشبه ببوابات القلاع التي قرأنا عنها في روايات القرون الوسطى.. وجدرانه تنتصب تحت سقف خفيض ذي غبرة معتقة استجبت لنداء حسب خال جدتي الذي رأته عينا خيالي وتشبعت برؤيته منذ اول المساء الى مطلع الفجر طفلاً.

واستجاب الفتى.. طائعين

قال:

– ثمة طماطم داخل الدار.. اقلوها، فانتما جائعان.

كان هو حسباً ذاته بصورة العريض، وعضلاته المفتولة.. وقامته المديدة، وصوته الرخامي الذي يشوبه اللحظة بعض العليل والدوي.

للطماطم منظر معدني صلد، فبدأ وهو يقطعها بالسكين، تقطيعاً هيناً.. يسيراً، كما لو يؤتي معجزة مستحيلة الوقوع وضع الشرائح في طاوة، فرقعت بالدهن ضاحكاً مبتسماً له.. مجاملة تعبى لم تخف الوجل المتلجج من اوراحنا انطلاءً على الوجوه.

تحمصت الطماطم.. فأكلنا شرائح معدن لذيذ، له رائحة (عطاب) الاليات، بأذاكرة الجرحى وهم “يتكنكرون”. باردة ولذيذة، بينما الدهن، مازال من حولها يغلي. نمضغها، مثلما يحشرج ذئب بعوائه. وآفات جنادب تفتك بمزارع فقراء “حسب”

قال:

لن تستطيعوا ارتقاء الجسر، لقد قصفوا حافته وانتظرنا.

*****

احدهم فتح باب السيارة بقوة، فارتطم يافع الى جانبي بقوة، ارتطاماً حفني بالالم، جعله يشفق عليّ فيتظاهر بالامبالاة لان لاخيار امامنا سوى المواصلة ضحكنا.ز وتبسم حسب وجدنا جسر اتاتئاً، قصفوه. جوعى، فقطع معدناً لذيذاً كالعطاب.

تلبد محيا الحرب، على وجوهنا التي استكانت رويداً، بعد ان هدأت شرائح المعدن، رجوعنا.

استعاد وجهة المديني الغض كافيتهن حين دنت البيوت القصية، مع انبلاج الفجر، طالعاً من سدوف الليل.

ضامد الملعب الذي افترضناه، مؤخراً بثياب اللهو واكفان الممات زاهية.. تحلو لك مزقاً بعض الشيء.

وقفنا عند ذاكرة “حسب” لاعود بعد ان (فكفكت) الحرب ازرار درع المقاتل وارضت لامته.. هادئاً..يحط تعبه في ظل الجسر الذي يحرسه ” حسب” من داخل بيته المعتق.. متخمراً في الامان.. كالنبيذ وجدت الجسر قد استعاد جهاءه لابساً ثياب العيد.. تطرزت سياجاته باغنية سليمة خضير ” بالله يمجرى الماي ذبني عليهم ” تنساب اصدقاؤها مع امواج دجلة الى ذاكرة الشط.. شط العرب.. فالخليج مروراً بالكويت والسعودية وباقي اقطار الجزيرة.

نزلت من انراح الجسر الى بيت “حسب” المنتصب فرداً والشاطئ يترقرق اسفل اساسات جدرانه، وجدت بوابته التي سبق ان قرأتها في روايات القرون الوسطى، موجودة برتاج ثقيل بدا لي مزلاجة ثابتاً، لم يترك بين عراه منذ دهور.

بيت خال.. داخله خيال.. وخارجه خيال فقد افادني سكان البيوت النائية، انه هكذا مهجوراً قبل بناء مساكنهم.. وربما قبل النهر الذي يشاطئه ابر طماطم معدنية وانا اتوارى مذهولاً.

– هل ثمة فتى متعاف.. لمس خرزات مسبحتي، دونما خوف.. يوم “حسب”