تعد السلوكيات غير المسؤولة والتصرفات التسلّطية التي تقوم بها اغلب السلطات الأمنية في العالم العربي والاسلامي من العوامل الاساسية التي تؤدي الى ولادة افكار متطرفة وراديكالية بشكلها الديني الاصولي المعروفة نسختها التقليدية والعلماني الذي يتخذ احيانا مظهرا يساريا على حد سواء.
واخر ضحايا هذا الغرور، بل الغباء الحكومي العربي، هو قيام اجهزة الامن الاردنية في مطار الملكة العلياء، فجر الاحد، باعتقال مدير مركز الشرق الجديد للدراسات والابحاث النوعية الكاتب الاردني المعروف الدكتور جهاد المحيسن بعد رجوعه من لبنان.
الكاتب والصحفي جهاد المحيسن حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الاثني والديني في الاردن وهو احد الكتاب المعروفين في صحيفة الغد الاردنية ومستشار وزير التنمية السياسية في الاردن منذ عام 2010 ، وهو عضو نقابة الصحافيين الأردنيين، ورابطة الكتاب الأردنيين، بالإضافة إلى العضوية في عدد من المنظمات العربية والدولية المعنية بحقوق الإنسان والحريات العامة والمواطنة، وله عدة اصدارات منها ” مستقبل الديمقراطية في الاردن”، و”القبيلة والدولة في شرق الأردن”، و”الإمارات العربية المتحدة من البداوة إلى الدولة الحديثة”.
وقبل هذا الاعتقال التعسفي المجحف بحق الدكتور جهاد، قامت ادارة صحيفة الغد بفصله! واستغنت وزارة التنمية عن خدماته بالرغم من اعتراف الجميع بافكارة القيّمة واراءه الايجابية وقلمه المستنير وفكره الحر، الا ان مانشره مؤخرا على صفحته في موقع التواصل الفيسبوك، والذي كان في اغلبه يدور حول الاصلاح السياسي والافكار الدينية، قد اغضب السلطات في الاردن وادى ذلك الى اصدارهم امرا باعتقاله.
وتشير صفحة المحيسن الشخصية على الفيسبوك الى آخر ما كتبه المحيسن، قبيل دقائق من توقيفه في المطار، أذ كتب “ وصلنا والحمد لله وكان الشباب كعادة الاردنيين محترمين، ولكن الإجراءات تقتضي اعتقالي وتحويلي إلى أمن الدولة” غدا”.
اعتقال المحيسن ليست حالة منفردة او استثنائية بالنسبة للاردن والكثير من الدول العربية التي تغيب فيها حرية الفكر والتعبير عنه بصورة فاضحة على الرغم من الشعارات الزائفة والكليشهات السخيفة التي تتمشدق بها وسائل اعلامهم الرسمية وتصدح بها ليلا ونهار محاولة اقناع المواطن، وخداعه، بأن هنالك ديمقراطية وحرية تعبير تسمح بالتفكير خارج الأطر المحددة لهم والحدود المرسومة لاقلامهم من قبل السلطات التي تزعم انها توفر حرية تفكير وتعبير لمواطنيها.
وماجرى للمحيسن مثال واضح على تناقضات التصريحات الرسمية للدول العربية مع ممارستها على ارض الواقع، فالرجل كانت له اراء سياسية مختلفة عن منهج الحكومة الاردنية وخصوصا فيما يتعلق بسياستها في العراق وسوريا، كما انه ابدى ميولا للتحول الى المذهب الشيعي وهو مايعتبر، في عرف الحكومات العربية، جرما لايقل عن جرائم وخطايا السياسة.
وانطلاقا من حريته الفكرية وتخصصه الدقيق في التاريخ الديني كان للمحيسن اراء تتعلق بالدين والتمذهب، ولذا اعلن عن تحوله للمذهب الجعفري وايمانه بالفكر الشيعي وعمل على تشكيل جبهة للمقاومة الفكرية ضد اسرائيل في جنوب الاردن.
ولفت اعتقال المحيبس من قبل السلطات الاردنية الى قضية مهمة تتعلق بالوجود الشيعي في الاردن ، حيث هدد أحد كوادر حركة الإخوان المسلمين البرلماني الأردني السابق تيسير الفتياني في 2006 بمساءلة الحكومة الأردنية رسميا اذا استمرت في صمتها على حركات التشيع التي تنتشر في الأردن والتي تعدّت الطبقات الفقيرة والمتوسطة الى طبقات متعلمة ومثقفة وعائلات كبيرة مثل بيضون، برجاوي، البزة، سعد، ديباجة، فردوس، جمعة، الشرارة، حرب، كما تشير التقارير الصحفية، مع ان هذا النائب ” الاخواني ” يتناسى ان أن الوجود الشيعي في الاردن يعود إلى عام 1890 حينما نزحت العشائر الشيعية من جنوب لبنان الى ارض الاردن قبل تأسيس المملكة، وتحمل جميعها الجنسية الأردنية أباً عن جد، شأنها شأن بقية العشائر الأردنية الأخرى.
ونقلت بعض المواقع الالكترونية والصحف الرقمية ماكتبه المحيبس في صفحته الشخصية، والذي اعتبر السبب الرئيسي للتعجيل باعتقاله، اذ دوّن الكاتب وبكل جرأة مايلي : “العملاء الذين يشتمونني على صفحتي أودّ أن أغيظكم بأني وجدت ما يثبت نسبي للأمام الحسين عليه السلام، وسوف اتصل بمراجعنا العظام في النجف الأشرف وقم للتثبت من ذلك، وأعلم الجميع من المرجفين والذين يدفعونهم أني طالب شهادة كجدي الحسين بن علي سِبْط رسول الله عليه وعلى آل محمد الصلاة والسلام”.
ولم يكتف المحيسن بهذا بل اعلنها صراحة: “قررت أن أتحول للمذهب الشيعي وأن أقوم بعمل جيب مقاوم في الجنوب الأردني للعدو الصهيوني، لأن النظام ممثلا بالملك وزمرته الفاسدة قد تجاوز كل الحدود، ولا نعرف أين يأخذ الأردن، وسنتحالف مع كل ما يخدم القضية الوطنية الأردنية بعيدا عن تحالفات النظام السافلة”.
هذه الكتابة كافية في زمن ” العهر العربي الفاحش” ان تقود اي كاتب الى الاعتقال والايداع في السجن مهما كان عنوانه الاكاديمي او الادبي او الفني، اذ لايشفع مع الدول العربية المهووسة بهاجس البعبع الشيعي وهلاله، الذي لم نره في الحقيقة ، اي اسم او شخصية فكرية تقول مابدا لها ان تقوله على منصاتها الرقمية، مهما كانت متحصنة بالانتماء لمنظمات واتحادات دولية تُعنى بحقوق الانسان المسحوق في العالم العربي ” الجبان”.
محيسن قال في اخر اتصال مع اخيه قيصر المحيسن قبل ان يغلق هاتفه انه ” مع الجماعة “، وهي عبارة توضح، على عفويتها، كل حقيقة المشهد العربي، اذ ان هذه “الجماعة” مع ” جماعة” داعش والجماعات الارهابية الاخرى تشكل اساس مشاكل الشرق الاوسط والعالم العربي المحبوس بين فكر ديني طائفي متطرف وآخر سياسي سلطوي ظالم.