أول الكلام:
لمصر مكانة في نفوس العرب، وإذا سمح لي الأصدقاء أن أتحدث عن شخصي الصريح، فعندئذ أقول أن فضل مصر عليّ وعلى أبناء جيلي وما سبقه كبير، فمن كتابها العمالقة غرفنا علما غير يسير، ولست الوحيد الذي يقّر بهذا، بل سأصارحكم وأقول أنني أحببت مصر الملكية أكثر من الجمهورية، وحُكمي هو أدبي وثقافي ولا يخلو من السياسي، فمع الجمهورية المصرية وبعدها الجمهورية العراقية الفتية ناصبت مِصرُ الناصريةُ العراقَ العداء وتحالفت مع القوى الرجعية والاستعمارية ونجحت في إسقاط حكمه الوطني وزعيمه تحت شعار تحقيق الوحدة الفورية وحين وصل دعاة الوحدة للحكم فارقوا الوحدة وانما اكتفوا بوزارة ليس لها ملاك ولا ديوان سوى غرفة للعلامة الجريء الوزير عبد الرزاق محي الدين، الذي توفي مسموماً بقهوة شربها عندما دعي للقصر الجمهوري بعيد انقلاب البعث الثاني عام 1968..
وهنا أتوقف عن الشأن المعرف بكل مجرياته ومآلاتة ومخرجاته وهذه الأخيرة مفردة جديدة!!
***
عندما زارهيرودوت (484 ق.م – 425 ق.م) المؤرخ والرحالة اليوناني- والملقب يأبي التاريخ – مصر وصفها يومذا ك البعيد بعبارته الأغريقية العميقة: “إن مصر هي أرض المتناقضات، وهي هِبة النيل!” ومازال هذا الوصف دقيقاً عميقاً، وأحسبه ينطبق على العراق أيضاً وعلى بلدان عديدة إسلامية وعربية ومن مظاهر التناقض:
العبادة والتقوى ويقابلها الرقص وترجيف الصدور وهز البطون والأرداف تحت شعار: هز ياوز!
الغنى الفاحش والفقر المدقع.
والظرافة وحب المرح وسرعة البديهة وخلق النكات والمقالب يقابلها وجوه “التقاة” المكفهرة، والجباه المكوية من أثر السجود، واللحى المطلقة على عنانها والجلابيب البيضاء الميني والمايكرو والماكرو والمسبحات الطويلة وشفاه تتحرك وتسبح لله بكرة وأصيلا..
كنت كلما أزور مصر أرى ما لا يُحصى من يافطات وألواح للأطباء والمحامين ومعالجي البواسير بدون جراحة والمأذونين بعقود النكاح، والقابلات ومقرئي القرآن في الفواتح ومقرئي الأدعية للأموات، ومنظمي حفلات الزواج والطرب والفرفشة، ومكاتب الزواج على سنن الله ورسوله! ولكثرة هذه القطع والألواح يعزّ عليك أن ترى قطعة أو يافطة تحمل اسم الشارع لتعرف في أي مكان أنت من القاهرة المحروسة!
ربما لهذه الأسباب ومثلها يحب الإنسان القاهرة فمن السهل جداً أن تكسب صداقات المصريين من كل الأصناف، وأجمل الساعات تلك التي تلف بها القاهرة الاسلامية وفي حاراتها الشعبية تتلقى السلام وتسلم على الناس، وتقف للحديث معهم قليلا .. أو تجلس في حانة ستلا ليبدأ الغناء ليلا وتتعرف على مثقفي مصر، ومرتادي الحانة من الجنسين أو تجلس في مقهى ريش الشهير وتتمتع بكأس نبيذ أو بالمقهى السويسري لتناول الشوكولا أو المثلجات الراقية!
آخر ما وصلني من صديق كريم هو تسجيل فيديو لمكالمة شخص ظريف يتصل بمكاتب دينية تجارية تعلن عن ترحيبها بقرب حلول شهر رمضان، فتتولى الصيام عنك بسعر، وعن كل أفراد العائلة بسعر مخفض، فتستطيع أن تأكل وتشرب وتمارس الجنس في نهار الشهر الفضيل دون تثريب عليك، ويقدمون أكثر من ذلك صيام للأموات، والحج للأموات، والبكاء على الأموات… وكذلك يقدمون لك الزواج السري والعلني والمسيار… وكل هذا قد يقبله عقل المحتاج وغير المحتاج لكن الأغرب الذي يصل الى حد الإعجاز أن يباع لك ترخيص يخرجك من حساب يوم الدين ويضمن لك الجنة بكل ما فيها من خرائد ورعابيب الحور العين، وإذا كنت من مشتهي الغلمان ستلقاهم مخلدين (يضعون اقراط في آذانهم) وهم يفوقون الحور العين جمالاً – لا أسمي شاعراً هاماً عراقياً وضع القرط في أذنه تشبها بالولدان المخّلدين! – كل هذا بسعرمن ألف جنيه مصري فما فوق حسب درجة الجنة من نجمة حتى سبع، وحسب المأكول والمشروب وفوق هذا وذاك حسب جمال الحور والولدان (وحياتك يارخص) !
لقد تطور وتتوج هذا الاتجاه بفعل اتجاه الترهيب والترغيب من قبل من جعلوا أنفسهم وكلاء عن الله ليصبحوا منافسين لله في ثوابه وعقابه وفي فردوسه وجحيمة، وتجاوزا على الله الذي وصف جناته التي أعِدت للمتقين بأجمل الآيات!!
قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا/ النساء 69 }
● قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23].
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57
● قَالَ الله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ . جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} [الْوَاقِعَة:22-24].
● قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ . فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍعِينٍ} [الطور:17-20
أكتفي بهذا القدر من الآيات الكريمات التي تؤكد أن الصالحين الأبرار والتقاة (ذكراً وإناثا) هم المؤهلون لدخول جنته الموعودة؛ ولا يستعمل الله لدخولها سياسة الباب المفتوح لكل من يدفع حسب الدرجات من ذوات نجمة الى سبع نجوم، حسب المأكول والمشروب، وقبل هذا وذاك تكون التسعيرة حسب جمال الحور والولدان..
لدي سؤال أو سؤالان: ترى ماذا أبقى تجّار الدين لله وقد نافسوه في مهنته؟
أين الدولة ومؤسسة الأزهر؟
والسؤال الأخير: هل مازال هناك من يسأل لماذا يزداد عدد الملحدين في مصر والعراق والسعودية بدالة المتوالية الهندسية؟!! هل هناك من يُنكر الأرضية الخصبة لتزايد الإلحاد بفضل وبركة الإسلام السياسي؟
الفاتح من أيار/ماي 2019