الثورات لا تختزل ، لانها وببساطة اكبر من قاموس يجمعها ، أو محيط يضمها ، او مقالة تحلل ابعادها ، ولان ثورات الشعوب تحتاج الى غوص في تاريخ النفس البشرية ، فالثورة حالة تتجاوز فلسفة المكان والزمان ، والتقاليد والعادات والتراث والحضارات .
كلما ذهبت الى ساحة التحرير ، اجد نفسي عاجزا عن فهم هذا اللغز الذي جعل هؤلاء الفتية كي ينتفضوا ، وكانهم على موعد ثوري لا مناص منه ، بهذا الإصرار ، وبهذا الاستبسال ، وبتلك الحالة الوطنية الجديدة التي عجزت نظريات احزاب و تنظيمات ، وانقلابات سرية وعلنية ان تصل الى حدود تحقيق جزئية بسيطة منها .
حسنا / سأبدأ في اللغز الاول ،، وهو التجمع الكبير الذي حدث في الاول من تشرين ، وكيف تم قمع المتظاهرين السلميين بوحشية ودموية ، رصاص حي وقناصة ، وبين سلمية المتظاهرين ، ودموية سلطة الأحزاب ، انتهى النزال الى موعد اخر ،، وانتهت الجولة الاولى بعد ان سالت دماء الشهداء في ساحة التحرير ، ولَم تجد حكومة عبد المهدي اَي تبرير ،، واطمأنت الأحزاب ان لا عودة للمتظاهرين ، تحت نصب الحرية ، وكانهم ألغوا فكرة ( ان الحرية هي التي تقود الشعوب ) جسدها من قبل الفنان الفرنسي ديلاكروا في لوحته العظيمة التي يحتفظ بها متحف اللوفر في باريس ، وبعد اكثر من مئتي سنة يأتي جواد سليم ليجسد هذه الملحمة على شكل نصب ( يافطة ) اختزل فيها التاريخ العراقي بانتباهات ذكية .
ثم حل الموعد العظيم في 25 تشرين الاول ، وكان المتظاهرون هذه المرة اكثر يقظة ، وأكثر حذرا ، بينما الأحزاب كانت منتشية بقصة الانتصار الاول، وكانت المفاجأة العظيمة ان الثوار استبقوا الأحداث ، و اكتسحوا ساحة التحرير قبل ساعات من الموعد ، واحتلوا بناية المطعم التركي ، وأزاحوا حواجز جسر الجمهورية ، واستمكنوا ، وتمكنوا ، وبدأت أسطورة الثبات والصمود تتحقق ، وكأنها معجزة هبطت من السماء ،، والنتيجة ان الاحتجاج تحول الى انتفاضة ، والانتفاضة الى ثورة عارمة اكتسحت بغداد والوسط ومدن الجنوب .
يبقى السؤال الكبير ،، كيف أمكن للشباب ان يحققوا معجزة الانتفاضة والصمود بهذه الطريقة المدهشة التي ما زالت مثار إعجاب الجميع ..؟
الواقع يقول ،، ان مواقع التواصل الاجتماعي كانت عاملا مهما في عمليات الاتصال والتواصل ، وأنها ساعدت في تخزين هذا التراكم من الوعي الوطني ، كما ان الوضع النفسي والمزري الذي ازعج االشباب ، بعد منعهم من مزاولة رزقهم ( البسطيات ) والى تهديم بيوتهم( العشوائية ) على رؤوسهم ، الى تهميش رمز من رموزهم ، وهو الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي ، كذلك تخلي الأحزاب الدينية عنهم في ايّام محنتهم / كانت اهم الأسباب التي جمعت هؤلاء الفتية لكي يقوموا بانتفاضتهم المباركةتحت نصب الحرية ، ورفعوا شعارهم الأثير ( اريد .. وطن ) .
ان لكل انتفاضة أو ثورة نتائج آنية تتحقق ، واُخرى مستقبلية تتبلور / واظن ان النتائج المرحلية التي تحققت الان مهمة جدا .. واولها خلق( حالة وطنية) مثيرة لم يعتدها العراقيون من قبل ، ربما حدث مثلها قبل مئة عام في ثورة العشرين ، ولكن بشكل اقل حدة واتساعا وصرامة .
في ساحة التحرير ،، سقطت الطائفية ، وسقطت الصنمية ، وبرز دور المرأة العراقية بشكل لافت و بمشاركة قوية ، والاهم ان الانتفاضة ألغت فكرة الثورات التي تتم عادة عن طريق الانقلابات العسكرية ، أو عن طريق الأحزاب السياسية ، وارتباطاتها الخارجية .
واظن .. ان الشباب ، لهم من الوعي حتى في تصحيح حركة التاريخ ، وقصة ( جبل احد) والطمع في الغنائم التي اجبرت المسلمين المرابطين النزول من الجبل بحثا عنها قبل ان تنتهي المعركة ، الامر الذي ساعد التفاف خالد بن الوليد على المسلمين وحسم المعركة لصالح كفار قريش .
هؤلاء الفتية ،، وصلوا ساحة التحرير ، مع أكفانهم ، وانتصروا على ملذات الحياة وبهرجتها ، وأعادوا صياغة فكرة البقاء وهي غريزة تشمل الانسان والحيوان والحشرات
والنبات ، ليضعوا ارواحهم رهن عهد وطني تبنوه جميعا .
اخيراً ،، هل سمعتم ب(جمهورية أفلاطون الفاضلة) ،، كان أفلاطون قد اطر جمهوريته باطار طبقي ، فلا يقبل فيها سوى الفيلسوف والعالم والمثقف ، اما الطبقة الرثة المعدومة والمسحوقة ، فلا مكان لها في رحاب جمهوريته الفاضلة .
المعدمون من فتية العراق ،، اسسوا لنا ( جمهورية التحرير الفاضلة ) وفتحوا ابوابها للجميع ، فهب اليهم المثقف ، والفيلسوف والأكاديمي ، والمدرس ، والموظف ، والعامل والفلاح ،، واصبحت ساحة التحرير وطنا للجميع ، وطنا مثل خلية النحل ، هناك من يهيء الطعام ، ومن ينظف المكان ، ومن يغسل الآوان ، ومن يسعف المصابين ، ومن ينقلهم الى مستشفى الجرحى والمتوفين ، وهناك أيضا ، من يرسم ، ومن يحلق ، ومن يلقي الشعر ، ومن يعزف ، ومن يغني ، ومن يكتب على عربته ( التكتك ) لنستعيد الوطن ،، موعدنا غدا ، ، ومنهم من ظلت عيونه ساهرة لحراسة جمهوريته الفاضلة .