23 ديسمبر، 2024 5:31 ص

جمهوريات الخوف ومملكة الرعب

جمهوريات الخوف ومملكة الرعب

هذا العنوان مقتبس من الأستاذ والمفكر المصري وحيد عبدالمجيد نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في جريدة الأهرام، وله عمق معرفي كبير في عالم السياسة والإجتماع، ينعكس بصورة واضحة في واقعنا العربي، فالحديث عما يدور الآن في الساحة العربية من هموم تثقل القلب وتبعث الحسرة في النفوس، ممانراه ونشهده في بعض أقطارنا العربية من محن وتمزق وتعرض للنكبات التي أصبح حلها من المستحيلات، كونها كانت نتيجة منطقية وحتمية لما وصل إليه الواقع العربي في ظل سلطات نجحت في ترسيخ مفهوم الخوف كمعادل لقبول تلك السلطات الغاشمة أوصل الأمور إلى نهاية مغلقة ليس لها من بديل غير المزيد من الدماء ومشاهد الرعب.

فمنذ انطلاق ما يسمى ( بالربيع العربي) بعد الحادثة الشهيرة التي أقدم عليها التونسي محمد البوعزيزي بإحراق نفسه أمام المكتب البلدي لمدينة سيدي بوزيد في تونس احتجاجاً على ما تعرض له من إهانة الشرطة وتردي الوضع المعاشي له في 17 كانون الأول 2010 لتكون الإنطلاقة المدمرة التي اجتاحت العواصم العربية، والتي رفعت في بدايتها شعار التغييّر الذي كان مخططاً له أن يطيح بالأنظمة العربية الفاسدة التي تسيّدت على سدة الحكم، لعقود طويلة من الزمن، ويأتي بدماء شبابية وليبرالية تعيد ضخ الدماء بماكنة المشروع النهضوي العربي المعطل منذ مرحلة الإنقلابات العسكرية التي شهدتها الأقطار العربية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، والتي ابتدأت بانقلاب بكر صدقي في العراق في تشرين الأول 1936 والتي أطاحت بحكومة ياسين الهاشمي، وجائت بحكومة حكمت سليمان، لتكون الفاتحة لصفحة طويلة من الإنقلابات العسكرية، والتي كانت في بعضها نهاية مهمة لمرحلة الإستعمار الأجنبي للأقطار العربية كما حدث في مصر بثورة يوليو 1952 بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر، الذي أنهى مرحلة من الإحتلال البريطاني لمصر استمرت لأكثر من سبعة عقود منذ معركة التل الكبير 1882 وكذلك ثورة 14تموز في العراق 1958 بقيادة المرحوم الزعيم عبدالكريم قاسم والذي ساهم بإنهاء التبعية العراقية للسياسات البريطانية منذ احتلال العراق في العام 1914وبعضها حدث ضد حكومات رجعية كما حدث في الإنقلاب الذي حدث في اليمن في 26 ايلول 1962 والذي قاده المشير عبدالله السلال ضد الإمام محمد البدر بدعم من الزعيم عبدالناصر، والذي فتح الباب لحرب أهلية استمرت لثمان سنوات بين الجمهورييّن والملكييّن انتهت بقيام الجمهورية العربية اليمنية.

كذلك فعل العقيد القذافي في ليبيا، حين قاد انقلابه الذي عرف بالفاتح من سبتمبر1969 ضد الملك السنوسي محمد ادريس السنوسي الذي كان خارج البلاد، وقام على إثرها بإجلاء القواعد الأمريكية والبريطانية عن ليبيا، وإعلان قيام الجمهورية العربية الليبية ليقود البلاد بطريقة دكتاتورية أو بما عرف بمرحلة ( المؤتمرات الشعبية)التي استمرت حتى سقوطه بعد موجة من الإحتجاجات العنيفة والتدخل الدولي والتي بدأت في 17 شباط 2001 وتنتهي بمقتله في 20 تشرين الأول 2011 بعد فترة حكم دامت 42 عام.

بينما حدثت بعض الإنقلابات العسكرية ضد حكومات ديمقراطية منتخبة بعد مرحلة الإستقلال كما حدث في السودان في انقلاب قاده الفريق إبراهيم عبود في 17 تشرين الثاني 1958 ضد الحكومة الديمقراطية المنتخبة المشكلة من تحالف ديمقراطي بين حزب الأمة والإتحاد الديمقراطي برئاسة مجلس سيادي مكون من الزعيم الأزهري وعبدالله خليل.

وفي تونس قاد وزير الداخلية ورئيس الوزراء فيما بعد، زين العابدين بن علي انقلابا عسكرياً ضد الرئيس الحبيب بو رقيبة الرئيس التونسي الأول بعد الإستقلال عن فرنسا 1956 ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في نيسان عام 2000 .

فيما تمكنت جبهة التحرير الوطني الجزائري من خلال جيش التحرير الوطني من تحرير الجزائر في تموز 1962 لتنهي وبطريقة وطنية وشعبية الإحتلال الفرنسي للجزائر الذي استمر لأكثر من 130 عام ولتعلن تاسيس الجمهورية الجزائرية في أيلول من نفس العام. فيما شهدت سوريا 10 انقلابات عسكرية منذ الإنقلاب الأول الذي قاده الزعيم حسني الزعيم في 30 آذار 1949 وانتهاءاً بالأنقلاب الذي قاده الرئيس حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970 والذي وضع حداً لمرحلة طويلة من تاريخ الإنقلابات العسكرية في سوريا تستمر حتى يومنا هذا.

بينما حافظت بعض الحكومات الملكية على وضعها التاريخي، بقيادة بلادها وتمكنت حتى الآن من إبعاد خطر التغييّر الذي أصاب معظم الأقطار المؤثرة في الوطن العرب،مثل المملكة العربية السعودية، والمملكة المغربية، والمملكة الهاشمية الأردنية، ومملكة البحرين، ودولة الكويت، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عٌمان.

الحديث يقودنا إلى مفهوم (جمهوريات الخوف) وإلى منظومات الحكم التي تسيّدت السلطة في العالم العربي لعقود من السنين، وفي أقطاره الرئيسية المؤثرة بالقرار العربي لما تملكه من ثروات بشرية ومادية، وما آلت إليه تلك الحكومات من تحولها السريع باستخدام منهج دكتاتوري سلطوي ضد شعوبها، معتمدة في ذلك على مؤسسات أمنية وبوليسية وقمعية كانت مهمتها الوحيدة أنها تديم من عمر تلك الأنظمة المستبدة، وتحوّل شعوبها إلى قطعان من الجياع والمشردين والمطاردين خارج بلدانهم، وكانت تلك السياسات مقدمات لثورات وانتفاضات حدثت في أكثر من قطر عربي، لكنّها قمعت بكل وحشية وهمجية وذهب ضحيتها الكثير من المواطنين العزل الذين لاذنب لهم غير انهم خرجوا مطالبين بأبسط حقوقهم المشروعة والإنسانية، وفي مقارنة فكرية وسياسية يظهر الفارق الكبير بين منظومات حكم سميت ظلماً بالرجعية مقارنة مع انظمة حكم مستبدة جعلت من نفسها بديلاً عن تلك النظم المبكرة، وهنا يذكر الأستاذ سيار الجميل: لقد نجح بعض القادة من السياسيين العرب في الصنعة السياسية العربية، إبان النصف الأول من القرن العشرين، إذ يدرك المؤرخ المعاصر قيمتهم من تجاربهم السياسية، وخصالهم المدنية، على الرغم من أخطائهم، وخصوصاً في قيادتهم السياسية وبغيتهم التحديث، وإذا راقبنا أبناء جيل سياسي عربي عاش مجايلاً له، بين الحربين العظميين، وجدنا قادة وساسة عرباً تميّزوا، وقت ذاك، بمقدراتٍ وطنيةٍ، لم يمتلكها لا

جيل القادة الضباط الانقلابيين المهووسين، الذين تعاملوا مع السياسة من أجل السلطة، ومع الجماهير، وكأنهم في ثكنة عسكرية، وخدعوا شعوبهم باسم الشعارات الثورية والشعبية والتحرير، بل وأنتجوا، في مرحلةٍ لاحقةٍ، ساسةً من الطغاة المستبدين الذين نكّلوا، ليس بالسياسة وصناعتها وممارستها وفنونها، بل بالمجتمعات التي حكموها بالحديد والنار، فهرب الناس إلى بدائلهم وبقاياهم، لينتجوا، اليوم، مع وفرة المال والسلاح والإعلام المنحرف، ساسة وقادة من البدائيين المتخلفين الذين يريدون تحويل الحياة إلى القرون الوسطى1.

في مصر كانت المماحكة السياسية في المشهد المصري تسير جنباً إلى جنب بين الأحزاب اليمينية الملكية والمعارضة مع حضور لايستهان به لوجهة النظر الدينية التي كان يمثلها آنذاك تنظيم جماعة الأخوان المسلمين الذي أسسه الشيخ حسن البنا في عام 1928 وإذا كانت لعبة تبادل الكراسي تجري بين أحزاب السلطة والمعارضة دون مشاركة الأخوان فيها فأن دورهم كان في ذلك الوقت دعوياً أكثر منه سياسي، لكنهم حرصوا بنفس الوقت على أن يقدموا الدعم للملوك الذين تناوبا على حكم مصر من أسرة محمد علي باشا، وهنا يذكر الإعلامي المصري عبدالرحيم علي واحدة من تلك النوادر التي كان يحفل بها المشهد السياسي المصري: وعندما اختلف النحاس مع القصر خرجت جماهير الوفد تهتف(الشعب مع النحاس)فسيّر الشيخ حسن البنا مظاهرات مضادة تهتف( الله مع الملك) 2وإن فرضت بعض المحاولات الفردية لبعض عناصره من بروز الأخوان كواحد من التنظيمات المؤثرة بالمشهد السياسي المصري ومنها اغتيال الدكتور النقراشي رئيس وزراء مصر ديسمبر 1948 بعد عشرون يوماً من قراره القاضي بحل جماعة الاخوان المسلمين، وكذلك التهمة التي وجهت للجماعة باغتيال رئيس وزراء مصر أحمد ماهر باشا في شباط 1945 ، وحادثة المنشية الشهيرة التي حاول فيها أحد اعضاء الجماعة قتل الزعيم عبدالناصر خلال إلقائه لأحدى خطبه في المنشية عام 1954 ، والتي كانت من الأسباب المباشرة في خلق حالة العداء المستحكم بين الجماعة وعبدالناصر، والتي استغلها عبدالناصر في قيامه بحملة كبيرة ضد تنظيم الأخوان المسلمين وتوَّجها في إعدام المفكر الإسلامي الإخواني وأحد رموز الجماعة سيد قطب في آب 1966 وكانت تلك حلقة في مسلسل العداء الدموي الذي مارسته السلطة والإخوان طيلة سنوات لاحقة في عهدي السادات ومبارك، وتحوله إلى تنظيم سري استطاع أن يخترق شريحة الشباب والفقراء وينشط في أوساطهم المعدمة ويقدم لهم مشروعه الإنقاذي كما كان يسميه ( الإسلام هو الحل).

كذلك الحال مع الحزب الشيوعي الذي تأسس قبل ثلاث سنوات من قيام الثورة في عام 1949، وبالرغم من أن واحداً من قيادي الثورة كان من نشطاء التيار الإشتراكي في مصر المقرب من الحزب الشيوعي المصري وهو يوسف صديق الذي قدم استقالته من مجلس القيادة بوقت مبكر ليتلتحق به مثقاً إشتراكياً لامعاً بعد ذلك وهو خالد محي الدين بعد إيمانه بفشل المشروع الإشتراكي الناصري فأبعد في العام 1954 إلى خارج مصر وأيضاً تعرض المفكر الإشتراكي والضابط القيادي في الثورة أحمد حمروش إلى نفس المصير حيث تم إبعادة عن الحياة السياسية في عام 1953 لتبدء القطيعة الثانية مع ركن مهم من أركان البيت

المصري، وهو التنظيمات الإشتراكية والحزب الشيوعي المصري حيث زج بكوادره في السجون وتعرضوا لشتى انواع التعذيب والإضطهاد والقتل.

وفي محاولة لتصحيح أخطاء الماضي والبدء بسياسة جديدة، بعيدة عن الكبوات التي تعرضت لها التجربة الإشتراكية في عهد عبدالناصر، عمد الرئيس السادات(1918 – 1981 ) والذي حكم مصر ما يقارب إحدى عشر سنة بين (أيلول 1970 – تشرين الأول1981 )إلى الخوض في غمار تجربة اقتصادية جديدة، بما سمي في وقتها(سياسة الإنفتاح الإقتصادي)في العام 1974 وكذلك إصدار قوانين ساهمت في البدء بحياة ساسية تعددية في منتصف السبعينيات أقصى منها التنظيمات الإسلامية والتي كان يقودها جماعة الأخوان المسلمين آنذاك، لكنّه وفي محاولة للخروج من المأزق الذي كان يسببه له اليسار المصري والناصري، حاول أن يخلق معادل موضوعي يحسن من وضعه السياسي أمام حظوة اليسارفاستنجد بالإسلام السياسي وقام بإطلاق سراح كوادره، وسمح لهم بالعمل في الجامعات والنقابات ولقد كانت تلك البدايات الأولى لبلورة التيار السلفي داخل تنظيم الجماعة الذي وجد قاعدة رحبة للإنطلاق بمشروعه الدموي في كتابات سيد قطب والمودودي حيث فجر تحديه للنظام بقتل الرئيس السادات نفسه في 6 اكتوبر 1981 بعد أن حدثت القطيعة بين مشروع السلطة ومشروع الحل الإسلامي السلفي، حين تبين لهم ان الدعم والتأييد الذي شمهلهم به النظام في بدايته كان دعماً مشروطاً بتاييده ومحاربة خصومه السياسيين والقضاء عليهم إذا امكن.وقد أصبح معروفاً ان السماح الحكومي للجماعات الإسلامية ببمارسة نشاطاتها، بل وتمويلها مادياً وتدريبياً، في الجامعات وخارجها مكان مقصوداً به تحجيم نشاط القوى السياسية الأخرى، الناصريين والشيوعيين تحديداً، التي كانت تمثل خطراً على توجهات النظام.وحين وصل الصدام إلى منظقة اللاعودة وقع الإنفجار الكبير في السادس من أكنوبر، ولكنه صدام يظل – رغم دويّه الهائل- صداماً مع شخص الحاكم لا مع نظام الحكم.3 لينكفأ التيار الإسلامي والسلفي في عشوائيات مصر يخطط لعقود قادمة نظرية الحاكمية أو الحكم الإلهي، في أحضان الخط الخلفي لدولة مبارك التي وصل فيها مستوى الفقر إلى نسب متقدمة وصلت إلى الثلث من سكان مصر، استطاع الأخوان والتيار السلفي من استيعاب النسبة الأكبر من هذه الشريحة في تنظيماته السرية، التي ساهمت فيما بعد بالمشاركة في أحداث 25 يناير في مصر.