اللغة التجريدية :
طبشرة كبرياء مجروح .. بقلم : سلوى علي …السليمانية /العراق..
يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .
فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية , لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .
سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
اللغة التجريدية :
هي إستعمال اللغة في نقل الأحاسيس والمشاعر وليس الحكاية , فتتخلّى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الأحساس المصاحب له كمركز للتعبير , فيرى القارىء الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعنى .
يبقى الشعر من يمتلك مساحة حرّة وشاسعة ومقدرة على التمويه في الخطاب , والأبتعاد عن المباشرة والسطحية في اللغة بسبب لجوءه الى المجاز والخيال والاستعارات والتكثيف والايجاز والايحاء , بحيث يفتح الابواب مشرعة على التأويل وتعدد القراءات , مما ينشيء علاقة ايجابية ما بين الشاعر والمتلقي , والتعامل الايجابي مع النصّ . لذا فان الغاية الرئيسية من الكتابة الشعرية هي خلق علاقة تواصلية ايجابية ما بين الشاعر والمتلقي لغرض ايصال فكرة ما يحاول الشاعر عن طريق لغته ايصالها اليه واحداث سطوة تتملك هذا المتلقي وبعث روح التفاعل والنشوة وفتح ابواب التأويل امامه اضافة الى ما ينتجه النصّ من شعرية وجمالية ورسالية وغيرها , لكن الامر يختلف كثيرا في الكتابة التجريدية , فالنصّ الشعري التجريدي يكون عبارة عن كتلة شعورية , فالمفردالت غايتها نقل الشعور والمشاعر وليس نقل فكرة معينة , فالمتلقي هنا يرى ويتلمّس كتل شعورية زاخرة بالجمال والمشاعر والاحاسيس المرهفة الملوّنة .
انّ نصّ الشاعرة : سلوى علي .. / طبشرة كبرياء مجروح .. / .. نلاحظ في هذا العنوان المثير للحيرة والغرابة والدهشة , فهو لا يحكي عن معنى معين او فكرة شيئية محددة فقط نشعر بحالة شعورية عنيفة تنتابنا ونحن نقرأه . ولنحاول قراءة النصّ ونتلمس ملامح جمالية اللغة التجريدية في صوت الشاعرة .. / صرخات مفجوعة تصهر الروح ، يبعثرها رجع الذكريات بجذورها المتصلبة باللعنات فوق صمت أعشاشها التي شوهتها هتافات القحط بين حصون عصية . تمزق شرنقات حقولها قبل الأكتمال بملحمة حضارة مجهولة ،تزينها الحرائق المرتعشة بالجنون المتكاثر على سفوح تأوهت بدهشاتها الضامئة المغضب بالشوق ../ .. هنا نجد لغة متماسكة تنبض بالجمال والسحر والانفعال الشديد , حاولت الشاعرة ان تتأمل في داخلها النفسي فانتجت هذه اللغة العميقة , هنا لا نرى او نقرأ فكرة ما انما نحسّ بلغة تنبعث من اعماق الذات الشاعرة محمّلة بصور شعورية تهزّ المتلقي وتجعله يقف امامها مندهشا . ولنقرأ مقطع آخر من هذا النصّ ../ تتناسل في مباهجها المزخرفة الليل الملطخ بالأشتهاء وأميال الرمال الظامئة المشبعة بالأنين، تتكاثر زلال أنفاسها تأوهات متسربلة بكركرة طواحينها المتثاقلة بقرنفل الحنين تسيرها سواقي من محيطات ضحلة.تتساقط قناديل سواترها المبعثر بتويجات الضحكات، تهمهم للشيب بأبجديات اللغة ،كلما توهج الحرمان خلف حدائقها الضريرة المشذبة باللامبالاة .. / .. في اللغة الشعرية التعبيرية نجد الافكار والاشياء وندركها ونتلمس رذاذها عن طريق ادراك المعنى والبعد الدلالي , حيث هناك فكرة يرتكز عليها النصّ ويحاول الشاعر التحدث والاشارة اليها , لكن في اللغة التجريدية لا ندرك كل هذا فقط ما ندركه هو النظام الشعوري الذي يدغدغ نفوسنا ونتفاعل معه , حيث يطغى النظام الشعوري في اللغة الجريدية على حساب النظام المعرفي اللفظي في اللغة الشعرية التعبيرية .. ونعود للنصّ مرة اخرى نتلمس ما فيه ../ .. تنتزع الصولات المتكررة المشحونة بأبتهالات ممنوعة سنابل حنطة مزارعها على سريرها الموحش ، كلما أستنشقت خيبة براعمها ، تطبشر كبريائها المجروح بين انامل على صدر الحزن، مستسلمة للهذيان ../ .. هنا نجد ثقل شعوري يتفجر داخل النسيج الشعري عند الشاعرة فلا نرى المعاني ها هنا انما نجد البعد العاطفي والمشاعر طاغية , فلانجد هنا حدث واضح الملامح ولا شيئية مركزية ولا فاعل فقط نجد كيانات شعورية متأججة وكم هائل من المشاعر العذبة التي نتفاعل معها وكأننا نراها حاضرة امامنا . لقد استطاعت الشعرة : سلوى علي نتيجة ممارستها الكتابة بالسردية التعبيرية وبنظام الكتلة الواحدة ان تخترق حُجب اللغة وان تجيد اللعبة بحرفية عالية , وها هي الان تكتب بلغة تجريدية عالية المستوى , فقد حاولت ونحجت في تحويل النظام اللغوي في هذا النصّ من نظام معرفي دلالي الى نظام شعوري يتكون من وحدات شعورية زاخرة بالجمال والاحاسيس العميقة المؤثّرة في النفس . فنحن هنا لا نحتاج الى معاني لمعرفة ما تريده الشاعرة , بل ندرك قيمة النصّ وجمالية اللغة فيه من خلال استقلال الاحاسيس بذاتها أي اننا ندرك هذا الجمال دون ان نلتفت اليه رغم وجوده من خلال الالفاظ ودلالاتها , فنحن اذا امام لغة لا تعتني بالزمان والمكان انما تعتني بمشاهد شعورية تجلب الانتباه اليها .
النصّ :
طبشرة كبرياء مجروح .. بقلم : سلوى علي …السليمانية /العراق..
صرخات مفجوعة تصهر الروح ، يبعثرها رجع الذكريات بجذورها المتصلبة باللعنات فوق صمت أعشاشها التي شوهتها هتافات القحط بين حصون عصية.تمزق شرنقات حقولها قبل الأكتمال بملحمة حضارة مجهولة ،تزينها الحرائق المرتعشة بالجنون المتكاثر على سفوح تأوهت بدهشاتها الضامئة المغضب بالشوق.تتناسل في مباهجها المزخرفة الليل الملطخ بالأشتهاء وأميال الرمال الظامئة المشبعة بالأنين، تتكاثر زلال أنفاسها تأوهات متسربلة بكركرة طواحينها المتثاقلة بقرنفل الحنين تسيرها سواقي من محيطات ضحلة.تتساقط قناديل سواترها المبعثر بتويجات الضحكات، تهمهم للشيب بأبجديات اللغة ،كلما توهج الحرمان خلف حدائقها الضريرة المشذبة باللامبالاة.تنتزع الصولات المتكررة المشحونة بأبتهالات ممنوعة سنابل حنطة مزارعها على سريرها الموحش ، كلما أستنشقت خيبة براعمها ، تطبشر كبريائها المجروح بين انامل على صدر الحزن، مستسلمة للهذيان….