انا انطلق في سردي في هذا المقال ، بوصف النص هذا نصا قابلا لمحمولات نصوص أخر ، على وفق النظريات الأدبية الحديثة ، التي تَعدُّ النص خارجا عن مؤلفه في اللحظة التي انتهى من كتابته ؟
وكما يقول ابو علاء المعري : وكل معنى له نفي وايجاب ..”
ويقول جوزيف فراي ” إنّ التاريخ استرقاق وحتمية ، ويبقى الادب هو المكان الوحيد الذي يمكن ان نكون فيه احرارا .. ”
وبداية ، أنَّ هذه المسرودة ، الشهادة ، الذاكرة ، المدوَّنة ، تنهض على قاعدة مزيج من التناول التاريخي والتخيل الذاتي ؛ وبعبارة أخرى التناول ، أوالإبداع السردي بطريقة التخيل التاريخاني ، Imagination Historicism ، هي ايضا ، رواية داخل رواية ؛ او رواية وراء رواية ؛ فنرى السارد يجمع عشرات الملفات والإستعانة بكتب التاريخ والوثائق والسجلات لغرض توثيق مشروع مسرودته الجديدة هذه .
اذن ، أن هذه الرواية كُتبت على وفق منهج ما وراء السرد Meta-Narration . وبما إن الروايه هي مزيج ما بين التناول التاريخي والتخيل التاريخاني ؛ لذا فإن تناولنا لجوانبها الفنية يأتي من هذا المنطلق . اذ إن عبد الخالق الركابي يعيد انتاج التاريخ بطريقة التخيل ، واضفاء ظلاله على شخصيات الرواية واحداثها وطريقة سردها ، وهذا نوع من جنس ما بعد حداثي ؛ أي ما بعد الروي ؛ بمعنى آخر دخول التاريخ هنا في مجال الروي التخيلي .. وليس سردا تاريخيا كما تعامل جورجي زيدان في رواياته ، مع التاريخ ؛ والتي اطلق عليها النقاد روايات تاريخية والتي تعودنا على قراءتها في مرحلة شبابنا . وهنا ، يقول هايدغر: إن التاريخانية LHistoricite ، أي ” مغامرة ” الانسان في التأريخ بما تقتضيه من ” قرار ” ، انما هي متقدمة بالاعتبارعلى التأريخ وأن لا قيام لتأريخ العالم ولا انتماء تأريخيا للتأريخ الا بها وعلى اساسها . ) نقد الحداثة في فكر هايدغر. الدكتورمحمد الشيخ ص 193. ( . وبالتالي ، يتعامل الركابي مع الحقب التاريخية ليس بوصفها زمنا ماضيا حسب ، بل عني بالزمن تماما كما عني ” مارسيل بروست لا لأنه يكتب عن الماضي ، مع الحقب التاريخية ؛ بل لانه يتعامل مع احداث الماضي ودور العقل في حفظ هذه الاحداث وترسيخها ” الزمن في روايات فوكنر د . نجم عبد الله كاظم ص 83..
ومَنْ يقرأ هذه الرواية لعبد الخالق الركابي ، ينصرف ذهنه أول ما ينصرف ، الى منحى ثيمة معظم رواياته هذا المنحى، اذا لم نقل جلّها منحى التخيل الذاتي للتاريخ . فالتاريخ الحديث للعراق هو القاسم المشترك في هذه المسرودات الكبرى، ذات النفس الطويل ، وكأننا أمام احدى روايات ليو تولستوي الملحمية ، مثل رواية ” الحرب والسلام “، او رواية “موبي ديك “لهيرمان ميلفل ، او رواية ” الاخوة كرامازوف “، لفيودور دستويفسكي الخ ..
ولكن ، يسرد الراوي احيانا ثيمة تاريخية تخيلية ، بموازاة سرد تاريخي محض ؛ والفرق بالطبع ، شاسع بينهما ؛ إذ يلتقيان احيانا ، ثم يفترقان أحيانا أخرى ؛ أو لنقل تفترق الرواية التاريخانية عن السرد التاريخي لتسجل بصمات ابداعها وفنها وعالمها إياها ؛ وبهذا ، يستثمرالمؤلف مادة التاريخ منطلقا لعمله الابداعي التخيلي ، ويقدمه لنا بوصفه مادة ابداعية تخيلية ، خلفيتها التاريخ ، ومنطلقات نسيج متنها السردي ، الثيمة التاريخانية والزمكانية .
ومن هنا ، دعونا ندخل في الماوراء الروائي ، اذ يُعدّ بدرفرهو طارش الذي يزوره السارد بين الفينة والأخرى ، بمثابة السجل الموثِق ، أو الذاكرة المدوِّنة للأحداث في عهد الإحتلال البريطاني ، في مدينة الأسلاف ؛ المدينة التي تخيلها المؤلف ؛ ” ربما على غرار مدينة فوكنر ماكوندو، اوقرية آراكاتا لغابرييل غارسيا ماركيز، بوصف هذا التخيل نزعة ما بعد الحداثة Meta –modernism ، في الادب ، وفي الرواية خاصة. ولا يني بدر طارش يحث الراوي ، او ينكزه على استكمال الرواية ؛ رواية الرواية ؛ إن توقف لفترة زمنية ليطلب حضوره . فيسارع السارد حاضنا ملفات ضخمة لمسودة مدوِّنته . وهكذا ، يتنقل السارد بين بلدته الأصل الأسلاف ، المدينة المُتخيَّلة وبغداد . ليسرد له بدر وقائع واحداث عهد الاحتلال البريطاني بخاصة ، من خلال ذاته ، وبعد ذلك يقوم السارد بمهام الروي. ومن ثم يتقاسم الروي مع بقية الشخصيات .. وبدر هذا هو ابن بلدة الأسلاف كما السارد . والأسلاف بوصفها مكانا تخيليا للسارد ، فإنه أي السارد – المؤلف يعيد خلق هذا المكان ” ربما لإندراسه او ربما لتآكله بفعل الزمن .” ليحاول أن يقنعنا بواقعيته وارضيته .. والهدف من وراء المؤلف هذا هو إمّا أن يكون هاربا من مكان حقيقي ، اسما وناسا وتاريخا وجغرافية وسوسيولوجيا ؟ وإما مكانا متخيلا بديلا لجغرافية مدينة اخرى، وإما ؛ لنقل معادلا موضوعيا ؛ وهو الأرحج على وفق رأينا ، لمدينة بدرة ؛ مسقط رأس المؤلف. تلك المدينة التي تقع على الحدود العراقية – الإيرانية ليخلق منها المؤلف ، مدينة تضج بالأحداث والوقائع وحتى الحياة .
اذن ، كان منطلقنا من هنا، في أن نكون بمستوى احداث هذه المسرودة، خاصة في الجانب الجمالي ، او التقني منها ، آخذين بالإعتبار المضمون ، وبما يقوله الروائي عبد الخالق الركابي ، وما اتخذه من موقف اخلاقي وفكري ، في فضح وكشف حقائق الإحتلالات ، من خلال عمل سردي صادق . وهذه المسرودة ، مسرودة ” ليل علي بابا الحزين “، تنفرد عن سابقاته الى حد ما في ثيمتها التي تتضمن ثلاث حقب في تاريخ العراق هي ، حقبة الإحتلال العثماني الى حد ما، وحقبة الإحتلال الانجليزي ، وحقبة الإحتلال الأميركي ، فضلا عن ارتجاعات الى النظام السابق . وكل هذه الإحتلالات جاءت حاملة شعارتحرير العراق !. فالعثمانيون رفعوا شعار” الاخوّة الاسلامية ” والبريطانيون رفعوا شعار” جئنا فاتحين لا مستعمرين .” والامريكان رفعوا شعار ” تحرير العراق .” وتُعدُّ هذه الاحتلالات مُدوِّنات لذاكرة تلك الحقب التاريخية ، لدى عبد الخالق الركابي، التي تمتد مسافة جسدها الزمنية ، بين 1920- 2003 ، وهي عقودالإحتلال الإنجليزي والأميركي والنظام السابق. نرى فيها أنًّ ادوات السارد الضمني ، الذات الثانية للمؤلف في هذه الروايات ، يمسك بخيوط مسروداتها بمرونة وانسيابية فائقتين ، واحيانا يقوم المؤلف الذات الاولى كشخصية في الرواية كما نرى لاحقا.
تنهض رواية ” ليل علي بابا الحزين .”على ثلاث عتبات تاريخية ذوات مدلولات رمزية ، فضلا عن عنوانها الرئيس ” ليل علي بابا الحزين .” تليه العناوين الفرعية وتطبيقها على ارض الواقع السردي وعلى التوالي :
الخروج من المغارة .
افتح يا سمسم .
كلمات كهرمانة الاخيرة .
ولم يتناول السارد، مضامين تلك المحمولات ، على وفق التسلسل الزمني – التاريخي . Chronological، أي لم يتبع المؤلف التسلسل الزمني ، لمجريات ووقائع الأحداث بالتتابع ؛ إنما استخدم ما يُعرف بطريقة الإسترجاع Flash back، واحيانا يتداخل نسيج متن الأحداث فيما بينها زمنيا ، حتى يكاد من الصعوبة بمكان فرز الزمان الذي يتحدث فيه السارد عن سابقه ، وحتى السارد ذاته قد تساءل ” أيعود ذلك الى تمكن اليأس مني وقد توصلتُ الى يقين أن الكتابة أمر لا جدوى منه ؟ أم الى حيرتي في ايجاد الطريقة التي أربط بها الماضي بالحاضر؟ ص 230 .” فهو على سبيل المثال ، لا الحصر، ينتقل في سرده من الأحدث الى الأقدم ، والعكس صحيح ؛ فنراه وبعد اجواء الحرب الأهلية الساخنة والإغتيالات الواسعة ورمي الجثث في الشوارع الخ ؛ نراه يعود الى زمن بدر فرهود الطارش ليسترسل في روي الرواية عن زمن المسز بيل أو ما يُطلق عليها شعبيا ” الخاتون . ” ؛ الذائعة الصيت لدى العراقيين في زمن الاحتلال البريطاني ، والمستر تيلر تومسون العميل البريطاني ، ومسؤول المتُحف في مدينة الاسلاف ، ص 292. لذا سنتحدث عنها أي عن المسرودة ،على وفق سياق هذا المقال في طريقة التناول . وبما أن المسرودة تحمل مدلولات ومرموزات تاريخية – معاصرة ، فهي هنا ، اعني المسرودة ، تطرح نفسها لمتلقيها ليمتح ما يريد أن يمتح ؛ او ما يتمكن من الغورعميقا في ثنايا متن هذا السرد الباذخ ليجترح نصه إياه . وسنأتي على ذلك بما يناسب الحديث عنها في هذا المقال .
ولكن ، ثمة اسئلة تطرح نفسها علينا هنا ، أن بدرالشخصية المشاركة في التدوين لمرحلة معينة من الروي ، مرحلة الإستعمار البريطاني ، هو عرَّاب هذه الرواية اصلا، او ذاكرتها بالأحرى، كان صبيا مدللا لدى تيري تومسون ، منغلا منه ومن أمه ؛ شذرة المرأة الجميلة المتزوجة من ثلاثة ازواج ، وترتبط بعلاقة سرية مع تومسون هذا . وقد كشف هذه العلاقة ابنها فرج شقيق بدر الذي كان كثيرا ما يناكده بنغولته وعدم اصالته ، ويصفعه بين الحين والآخرعلى قذاله ساخرا منه بسبب او دون سبب. وذات يوم واجهها مباشرة امام ابنها بدرهذا المُنغل ؛ بأنه قد كشفها مرات عديدة ، وهي تتسلل الى غرفة تومسون اثناء الليل . وصرخ بوجهها ” اترينه ؟ تطلعي جيدا الى هاتين العينين الزرقاوين !! من اين جاءتهما هذا المسكين ؟ انهما آثار جريمتك ؟ ونشوتك العابرة التي ختمت وجه هذا الصبي بوصمة عار لن تمحى ابدا !! ص 211. وفضلا عن هذا ، كانت المسز بيل قد اعتادت ان تستقبل” بدر ” باسمة ، وبعدما ان تتأمله لحظات بعينيها الملونتين مثل عيني دمية كانت جملة واحدة اعتادت تكرارها مخاطبة بها زميلها تومسون :
” سبحان الله ! .. كأني بهذا الصبي العراقي النسخة ” النيجتف ” منك ! ص 293 .
ليس هذا حسب ، إنما يُعد بدر ربيبا للإستعمار البريطاني ، وكان محل عناية ورعاية تومسون دائما. فهو الذي ادخله في ارقى المدارس البريطانية في بغداد، وكانت سيارة المتحف بسائقها الهندي تحت خدمته توصله الى السفارة ثم تعيده الى منزله .
وهنا ، وبما إن جانبا كبيرا من مهام المسرودة ، أية مسرودة ، هو طرح تساؤلات ، فإننا نتساءل ، بوصفنا قراء ، ربما نحظى بجواب من المؤلف هنا. ما الذي يرمز اليه تنغيل بدر وخيانة شذرة لأبنائها ؟ هل أن الانجليز نغّلوا الشعب العراقي باحتلاله مثلا ؟ ولماذا يدوِّن بدر بالذات دون غيره من الأسلاف ، مدونة المسرودة من الذين عاصروا الاحتلال الانجليزي ؟ّ! على كل حال ، ربما ، سنوضح المزيد من السرد عن هذه الثيمة لاحقا . علنا نجد دالتنا هذه .
وهنا ، نرى عبد الخالق الركابي السارد الأول في المسرودة ، يستقي مادته من بطون التاريخ وازمانه كما المحنا – المادة الاساس – في معظم رواياته ؛ وبشكل خاص في هذه الرواية ، التي يمسك السارد بخيوط عهودها التاريخية أو مادتها الأساس فهو يقول: ” أنا مثل ذلك النحّات الفلورنسي الذي كان يقول إنَّ التمثال يكمن في قلب الكتلة الصخرية ، وما عليه سوى ازالة القشور عنه ..” انا مثله اشعر أنَّ روايتي تكمن في تلك الاشياء المتنافرة : نصوص شفوية ، ووثائق وتواريخ ، وكتابات عرفانية ، واخرى ادبية .. فاضل ثامر ، المبنى الميتا- سردي في الرواية ص 51 .” وهذه العملية تتأتى من شعور المؤلف في التربع على عرش ادارة السرد والإمساك بتلابيب الأحداث وتوجيهها مباشرة بالاتجاه الذي يريد . . وهذه السايكولوجية النرجسية في السرد الروائي تمنح المؤلف المباشر ” السارد ” أحقية ادارة الأحداث والوقائع ، وتوجيه سلوكات الشخصيات بطريقة فنية بعيدا عن السرد السِيَري– مباشرة تمنح متن السرد الروائي ضخ دماء جديدة للسرد الروائي ، او انساغ صاعدة او نازلة في تشابك وتعقيدات نسيج المتن الروائي تكون اكثر مصداقية – فنية لو تولاها ما يطلق عليه السارد العليم او السارد الأول الذي يختفي خلفه الروائي،، كما إن المتلقي سيكون اكثر حميمية في تعامله مع السرد هذا إن هو تلقاه من سارد مباشر مؤلف ؛ وهذا لا يعني الوقوع في عملية سرد مباشرة ابدا .
منذ مستهل القص أي منذ بداية فصل ” الخروج من المغارة .”يرسم لنا السارد مقطعا يكاد يكون بانوراميا عن توقف كهرمانة . وبداية منه يعني انتشار اللصوصية في زمن الاحتلال في بغداد ، وبالتالي في عموم العراق كله ، ومنها يحترز السارد باتخاذ الاجراءات لتحصين بيته بالشكل الذي يردع اللصوص على ما لا يحمد عقباه ص 7. ومنذ البداية ايضا نعلم وبالذات من الصفحة الثامنة ، أن السارد ينقل مشهدا عن هدير السمتيات وهي تصول وتجول لتستبيح شوارع بغداد ويعلن عن استعداده لإستثمار الوضع في كتابة رواية . ومنها نعرف ان السارد هو مؤلف وروائي لأول مرة .. كما يتكفل السارد ببعض احداث الرواية والإمساك بخيوط الشخوص وتحريكها على وفق ما يريد ، وكان شاهدا على كثير من احداث الإحتلال الأميركي ؛ وكان يتولى سردها بأدق التفاصيل الكبيرة والصغيرة ، أو بمعنى لا يترك شاردة أو واردة إلاّ ودوًّنها لتكون بمثابة شاهد على عصره الذي يعيش .
ولنطرح ثيمة اخرى، هي في غاية الأهمية للمتلقين والناقدين والروائيين الخ ،، عموما، فكثيرا ما أثارت تساؤلاتهم عن ظهور المؤلف صراحة في عمله ، وهنا ، في ثنايا متن هذا السرد ، وبوصف الروائي عبد الخالق الركابي شخصية روائية ظهرت لتفاجيء المتلقي في هذا السرد اكثر من مسروداته الأخر، وتثير التساؤل واحيانا الحيرة لديه. ولنوضح ما نريد أن نقول ، إن ظهور الروائيين او القصاصين او حتى الشعراء في اعمالهم الادبية ، كما ظهرعبد الخالق في نص مسرودته هذه ، هو ظاهرة ادبية ظهرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي ، وربما يوحي هذا الى ظاهرة سرد مباشرة في العمل الروائي كما يعتقد القاريء. رغم إن بعض النقاد قد استهجنها ، مثل الناقد الدكتور حسين سرمك حسن اذ قال عنها ” إنَّ دخول عبد الخالق ، بنفسه ، الى مسرح الرواية ، بدلا من ان يكون متخفيا خلف الراوي سواء أكان عليما يروي الحوادث بضمير الغائب ، او محدود العلم يروي الحوادث بضمير الأنا ، خلخل تعاملنا مع الراوي وبالتالي مع تقييم الوقائع ، مثلما حدد حريتنا التاولية كنقاد ومتلقين . إنه يقفز فوق القاعدة الاهم التي طرحها ” فلوبير” عن علاقة المؤلف بشخوصه حين قال : على المؤلف ان يكون في عمله كالله اتجاه الكون ، حاضرا في كل مكان ، ولكن لا يُرى في اي موضع . الدكتور حسين سرمك حسن ، في دراسة له مطولة : عبد الخالق الركابي في ” ليل علي بابا الحزين ..” ص 26) وإنني هنا لست بصدد المحاججة مع الصديق الدكتورحسين سرمك حسن او الرد عليه، ولا توافقا مع الصديق عبد الخالق الركابي ، بقدر ما أردت أن اوضح ظاهرة ادبية اختطت طريقها في انساق الادب ، في اعمال الماوراء السردي Meta –narration ، خاصة تلك التي اصبحت احد اساليب هذا الادب في الحياة المعاصرة ، واثارت استغراب كثيرا من النقاد والمتلقين على حد سواء في حينها .. حتى انبرى لهم نقاد ما بعد الحداثة من بنيويين وتفكيكيين وحتى شكلانيين. وبخاصة البنيوي رولان بارت ، وجون فاولز . والروائي ماركيز وجاك دريدا الخ ..
وقبل أن ادرج امثلة متعددة لكتّاب وروائيين اسسوا لهذه الظاهرة ؛ وعززوا دراساتهم او ادخلوا اسماءهم كشخصيات في اعمالهم الروائية بهذا الشأن عن موقف ظهورالروائي في اعماله الروائية ؛ او بعضها وعدّوها بمثابة ظاهرة المابعد حداثي ، او حداثوي في الاعمال الابداعية . وندرج في ادناه عيِّنة من ظهور الروائي عبد الخالق الركابي في بعض نصوص رواية ” ليل علي بابا الحزين .” لتكتمل الصورة في الذهن :
يقوم السارد وعلى امتداد مساحة الزمان والمكان توزيع بعض روي احداث هذه الشخصيات ؛ لا بل نرى الكاتب بعينه ؛ وهو يصرح بإسمه عبد الخالق الركابي ، ويوزع أناه الى أنوات أخر ويتحدث عن بعض رواياته بعناوينها التي عندما تُذكر يَعلق في الذهن إسم مؤلفها ، عبد الخالق الركابي، مثل رواية ” الراووق “، و ” قبل أنْ يُحلِّق الباشق ،” و”سابع ايام الخلق.. ” ولا يتوهمْن القاريء ، أنَّ هذا هو عبد الخالق الركابي بدمه ولحمه وقبعته وعكازتيْه الذي يمشي على الارض ، ونتحدث معه ، ويجالس الادباء والكتاب في مقهى الشابندر ، واتحاد الادباء، والمنتديات الأخرى ، والموظف في دار الشؤون الثقافية ؛ إنما مع كل هذه الدلائل فهي حسب رولان بارت لا تتعدى عن شخصية ورقية ليست إلا .. او هو راوٍ مزدوج ؛ يضم الكاتب والراوي الضمني . وبما إن المؤلف قد اوضح في مقابلة له مع جونا فراس مندوب موقع حبر: إن هذه الرواية ، هي عمل تفكيكي ، ابتداء من الحدث الصغير الى الحدث الكبير، فلم لا تظهر شخصية المؤلف الورقية على متن السرد هذا ؟ وليشارك السارد الضمني توأمه في العملية التفكيكية هذه ؟!!.. وحين يقول عبد الخالق الركابي عن كل ما ورد بإسمه صراحة او ضمنا فإنه يُعبِّرعن أنوات أخر في هذه المسرودة ؛ لا لِأنا أولى ، أو أنا ثانية ، أو ثالثة الخ .. وقد امتعض الروائي عبد الخالق الركابي كثيرا في احدى المقابلات معه من بعض النقود لهذه الرواية واعتبار السارد الضمني – الذات الثانية هو عبد الخالق ذاته ..
وربما يتوهم البعض أن ورود اسم المؤلف وعناوين بعض رواياته بوصفه مؤلف هذه الرواية او رواياته الأخرى، صراحة لا ضمنا هو عمل سِيَري ذاتي مباشر يخلخل العمل الابداعي، لا يشي للعملية الابداعية بشيء. وهذا استنتاج خاطيء ، وبعيد عن العمل السردي الفني ، ذلك أن إسم المؤلف الركابي وعناوين بعض رواياته ، مثل قول حمزة احد شخصيات الرواية اثناء اقتياد السارد ” المؤلف ” الى ضابط الأمن للتحقيق معه وحديثه عن متابعته لرواياته ولا سيما ثلاثيته تلك التي لفظها خطأ ” الرواق ” و” عندما يحلق الباشق ” و” اليوم السابع ” والتي صححها السارد الاول بعد ذلك ” المؤلف ” كما يلي ” الراووق ” و ” قبل أن يحلِّق الباشق ” و ” سابع أيام الخلق .”
وقد يتوهم البعض ايضا ، أن مؤلف المسرودة هذه عبد الركابي ، قد تولى عملية السرد مباشرة واحتل موقع السارد الضمني ، الذات الثانية له ؛ لكن هذا لايعني أن المؤلف حين يرد اسمه هنا ، في النص او بعض ما يرد من سيرته لا يعني ابدا انه مؤلف الرواية الحقيقي؛ وانما هي احالات من المؤلف الحقيقي للسارد او ذاته الثانية ، ليوزعها على بعض شخصيات الروي او السرد . وما ورد اعلاه من اشارات تؤكدعائديتها لإسم المؤلف صراحة لا ضمنا لا يمكن نكرانها ؛ إنما هي ليست سوى اشارات يتولى فيها المؤلف عملية السرد المباشر ، وتدخل ضمن عملية تقنية بحتة يقوم بإحالتها المؤلف على مَن يريد على بعض الشخصيات . وسيجد القاريء المزيد من هذه الاشارات والتلميحات صراحة او ضمنا لشخصية المؤلف في متن السرد. وهذا ما يطلق عليه ادب ما بعد الحداثة او ما وراء الرواية او رواية الرواية كما اسلفنا، الخ ..
وتعلقا بروائيين ونقاد اخرين ننقل على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
اذ قال تولستوي مؤلف رواية ” أنّا كارنينا ” أنا كارنينا ..
وفي ” المزحة .” يقول ميلان كونديرا ردا على السؤال التالي: لكن نجد في رواياتك ايضا مقاطع يكون المتكلم فيها انت ، مباشرة ؟
حتى لو كان المتحدث هو انا ، فإن تفكيري يرتبط بشخصية ما في الرواية ، اريد ان افكر بموقفها بطريقتها في رؤية الاشياء ، كما لو انني في مكانها وعلى نحو اعمق مما تفعله هي بالذات .” فن الرواية ، ميلان كونديرا ص 83-84.”
ويقول الناقد الما بعد حداثوي فاضل ثامر بهذا الصدد ” … إن المؤلف غالبا ما يتدخل بصورة مباشرة في سير الاحداث ويعلق على ما يجري او يقتحم صفاء شخصياته الروائية بتطفله الدائم مبنى الميتا – سردي في الرواية ص 14 .”
ويؤكد الناقد شكري عزيز الماضي : واذا كانت الرواية الحديثة تكابد من اجل اختفاء الكاتب لتقديم المادة الروائية بموضوعية ، فإن الروائي الجديد يتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة ، بل يتعمد مخاطبة القاريء ومحاورته كما يتقصد التعليق والشرح ، وكل هذا من اجل تحطيم مبدأ ” الايهام بالواقعية . انماط الرواية العربية الجديدة . ص 15 ..”
ان ورود اسم شخصية المؤلف عبد الخالق الركابي صراحة في متن السرد هنا ، في هذه الرواية لا علاقة له بالمؤلف الحقيقي في متنها كما ألمحنا. اذن ، بعبارة اخرى هو شخصية تخيلية او ورقية كما المح رولان بارت . وحين يرد هنا ، كما يرد في مكانات اخرى في هذا المتن الروائي ، هل هو الاصل ام القناع ؟ ؟! ام تناصا بارانويا ؟ ام اراد السارد أن يقول انا عبد الخالق كما قال تولستوي في رواية انا كرنينا !
ومسك ختامنا هذا ننهي به مقالنا بنقل نص حوار قصير بين بدر والراوي ينهي فيه روايته الماوراء ؛ ورأيت فيه تألق عبد الخالق الركابي في جمالية سرده في هذه المسرودة :
… اضاف بدر : على كل حال لا املك إلا أن ادعو ربي ألاّ يضيع جهدك في زمن لا تكف فيه المطابع عن اصدار الروايات على مدار الساعة .
امل ان تطمئن الى أن ما يؤكد أن جهدي لن يضيع مع الرواية القادمة وجود شخص واحد ، في الاقل ، يجنبي هذه الخيبة !
ومن يكون هذا الشخص المحظوظ ؟!
إنه أنا !!
أنت ؟ عجبا ! … وما سر حماستك لهذه الرواية ؟!
ذلك يعود ليقيني بوجود وازع اخلاقي يجعل من هذا الانجاز واجبا لا بد لي من أدائه مهما كلفني الأمر مسوغا بذلك مغزى وجودي على سطح هذا الكوكب !
ومسك ختامنا هذا ، ازعم لنفسي ، أنني تناولت رواية ” ليل علي بابا الحزين .” بصدق تام ، وتعاملت مع احداثها ، وبنيتها بأمانة تامة ، إرضاء لذاتي ، وبما يستحقه المبدع عبد الخالق الركابي لما قدمه لنا من جهد ابداعي يستحق الثناء ، ليس في هذا العمل الذي بين ايدينا إنما في جميع اعماله السردية الاخرى .