18 ديسمبر، 2024 6:09 م

ما أن وطأت قدماي باحة البيت وأنا أستعد للخروج متوكلاً على الله للبدء بيوم جديد، إلاّ وسمعت صوت صفير اطارات سيارة تلته صوت ناتج من ارتطامها بجسم ما. سارعت الخطى إلى الخارج مبتهلاً إلى الله أن لا يكون أحداً قد تأذى من الحادث. لم أتمالك نفسي حتى ارتميت إلى الخارج دون ارتداء الفردة الأخرى من الحذاء.
سيارة بيضاء اللون واقفة وسط الطريق وقد ألتم حولها عدد من المارة والسائق يحوم حول سيارته يعاين الأضرار. آثار دم أمام السيارة وعلى الأجزاء الأمامية منها. في قارعة الطريق وعلى الرصيف جرو صغير يحاول النباح. أوتار صوته لم تكتمل بعد وهو يجهد في الصياح بصوت مبحوح متخبطاً بين أرجل الواقفين. يبدو أنه قد فزع من الصوت الذي اخرجته اطارات السيارات حين احتكاكها بإسفلت الطريق وهي تقف فجأة. الجرو يريد الاعراب عن شيء ما لكنني لا أدركه حتى الآن. الكلاب لا تنبح لحالها فهي إما أن تُريد اللعب أو تُعاني من مشكلة صحية أو إنها تُريد الذهاب إلى الحمام المخصص لها. حركة جسد الكلب تختلف مع النباح وبإمكانه أن يُعبر عن سبب نباحه. يُمكن أن يُشير النباح عند الكلاب إلى حاجتها الضرورية في جذب اهتمام الغير أو أنه بحاجة إلى صاحبه من أجل اللعب أو الخروج إذا كانت تشعر بالوحدة. النباح يكون في كثير من الأحيان سبيلاً للكلاب في التعبير عن حزنها ورغبتها في الخروج من حالة الاكتئاب التي قد تُصيبها. لماذا كل هذا النباح لهذا الجرو يا ترى؟!
اقتربت من جموع الواقفين، عندها تبين أن الضحية في الحادث هي كلبة. يبدو جلياً أن الجرو بعياطه إنما يعزي نفسه على ما آل الحال بأمه التي تركته وحيداً يحبو بين أقدام البشر. الأم فارقت الحياة وقد تمزقت أجزاء من جسدها وطفحت أحشائها والصغير يتشبث بهذا وذاك عسى أن يتدخل أحدهم وينقذ أمه. النباح هذه المرة مختلفة عن غيرها من الكلاب وفيها شيء من العويل. قليلاً ما شوهد كلب يرثو أمه، يخشى الموت مفطوماً من حليب أمه. يدخل الجرو من بين أقدام المجتمعين ليتناول شربة من حليب أمه ويرتوي قبل أن يجف الحليب في عروقها. لم يكن معتاداً ليشاهد أمه هامدة كل هذا لا تحرك ساكناً ولا تستجيب لصغيرها. يعز في نفس الجرو أن يشاهد الجميع يواسون صاحب السيارة على ما أصيبت به سيارته من خسائر بسيطة ويتغاضون النظر عن أمه. حال سبيل الجرو يقول أمي أمي يا بني البشر فهي تحمل الروح ايضاً وليست السيارة المصنوعة من جماد.
بتقدم الدقائق وتسارع عقارب الساعة قضينا وقتاً في إزالة الكلبة عن الطريق والجرو يبصرهم وهم يضعون أمه في كيس نفايات لرميها بعيداً في أرض خاوية.
لم يفارق بصري حرقة الجرو وكأنه يتحدث إليّ عن نار تكوي فؤاده ويعرب عن الجمر الذي في عبئه. جلست لأداعبه وأمسح بيدي على رأٍسه عساي أن أخفف عنه مشهد هذا الحدث العظيم وهو يبصر أمه تسير إلى المجهول رويداً رويداً. ذهب الجميع حتى وجدت نفسي وحيداً معه نتقاسم حبات الجمر. ما كان لي إلاّ أن آخذ الجرو هذا إلى بيتي لأهتم به بعد أن سألت أهل الخبرة عما يجب فعله لإطعامه كي لا يموت. لم أكن في أية فترة من حياتي مهتماً بالحيوانات وتربيتها وليس لدي ادراك في الأمر ولا أفقه شيئاً عن هذا. الوقت غير كافي لتربية حيوان وأنا أعمل يومياً لكسب قوتي اليومي. سأطلقه بعد حين حتى يتعلم الاعتماد على نفسه ويشق طريقه ويجد مأكله ومشربه. كان محتاجاً إلى الحنان أكثر من حاجته إلى الحليب. أشفق عليه قبل كل رضاعة وأتحدث إليه عسى أن أخفف عنه شيئاً من ألم فراق أمه ثم أطعمه لأذهب عنه مرارة الجوع وقساوة الظمأ.
مرت الأيام والأسابيع وأصبح الجرو يأكل الطعام ولا يعتمد على الحليب حصراً. ها قد حان الأوان لنفترق أنا وأنت أيها الصغير. اذهب لتجد ضالتك في الحياة، فالله يرزق الطير والحوت معاً. اليوم أو غداً سنكون في مفترق الطرق. أنظر إلى عينيه كأنه يخاطبني ولسان حاله يقول: الحياة أخذت أمي لأبقى وحيداً فلا تفارقني أنت أيضاً. كأنني أقرأ الكلمات من بريق عينيه الموحشتين وأستوحي منها الجمل والعبارات ومن سلوكه استلهم الحسرة التي يكنها وهو يستقبلني ويلقي بجسده في أحضاني. كثيراً ما أحرص العودة إلى البيت لأتزود بالحنان والمحبة التي يحيطني بها كل مرة وهو يجلس بالقرب مني. كلما تقدمت الأيام ازدادت أواصر المحبة بيننا متانة وصلابة. أحياناً لا أريد مغادرة البيت لأبقى إلى جنبه، فهو يفهمني وأنا أفهمه جيداً ونتبادل الحب من غير مصالح.
وفاء عجيب وحب دون مقابل أحسه في هذا الجرو الصغير وها قد أصبح كلباً يجري نحوي ليستقبلني بلهفة وأنا عائد الى البيت. يعوضني عما أعيشه خارج المنزل بعيداً عنه من نكران الجميل والبغض وخيانة البشر والشقاق والنفاق. عوضني هذا الجرو عن الحب الذي أفتقده والذي أصبح عملة نادرة في يومنا هذا ويفتقر إليه أغلب البشر. وجدت عنده الوفاء والاخلاص المفقود بل المنعدم في خارج البيت. كما عوض الخالق الجرو بوجودي، حيث لم أتركه للفراغ بعد أمه، عوضني أيضاً بمخلوق أكد لي بأن الحب ما زال باق وسبحان الذي جمعنا من غير ميعاد.
هكذا أصبحنا نحن الاثنين نعيش معاً ونحس بمشاعر الود والوفاء دون رياء. هذا الذي كان جرواً صغيراً هو بالنسبة لي اليوم مثالاً للحب من أجل الحب فقط ليس فيه مِـراء. الأقدار التي جمعتنا معاً ليس لها أن تفرق بيننا بعد اليوم بعد أن تحسست معنى الوئام وندمت لكل الايام التي صرفتها مصدقا لمن حولي من البشر ولم اصاحب فيها كلبا وفيا. وجدت أن الفرق كبير وهذا الجرو قد علمني حب الحياة.