بدأ بعض الجنود يعملون في شوارع المدينة( السليمانية ) وهم يرتدون ملابسهم العسكرية التي لايملكون غيرها. تُشاهد أحياناً جندياً يقف عند منعطف الشارع وهو يحمل – كارتونة… مملوءة بالمناديل الورقية وهو يصرخ بصوت مرتفع:” مناديل ورقية معطرة فاخرة” . وتُشاهد مرة أخرى عند حافة الشارع ألأخر نائب عريف وهو يحمل صندوقاً من التفاح على كتفه ويصرخ:” تفاح…تفاح..” . وتشاهد نائب ضابط كبير السن نسبيا يحمل عدة علب من السجائر ويصرخ” سومر..سومر..”. كان قلبي يتمزق من الحزن على أولئك الصناديد الذين وصلت بهم الحال الى هذه الدرجة المأساوية. هؤلاء المقاتلين الذين شاركوا في معارك قاسية كثيرة ..يتحولون على حين غرة الى باعة متجولين كأنهم مشردين في عالم ليس له نهايه ويصارعون العذاب من أجل لقمة العيش. في اليوم السابع سأمت من السير في الطرقات كالمعتوه بلا هدف معين..وضجرت من الحديث الرتيب المكرر بيننا كلما جلسنا سوية أو سرنا في الطرقات المنسية. قررت أن اختلي بنفسي بعض الوقت كي أطلق لتفكيري العنان وأهيم بعيدا عن الواقع المزعج. أخبرت الزملاء بأنني سأجلس خارج ساحة الجامع ( الجامع الكبير في السليمانية ) أي من الجهة الخارجية القريبة من الشارع الرئيسي كي استمتع بدفء الشمس قبل الغروب. بالكاد وجدتُ لي مكاناً عند زاوية الجدار الذي كان مكتظاً بالجنود الجالسين على الأرض كالشحاذين. اسندتُ ظهري الى الجدار ومددت قدماي ووضعت قبعتي العسكرية فوق وجهي كي لاأرى أحدأ ولايرى عابر سبيل وجهي.أغمضتُ عينيَّ محاولاً الرجوع الى الماضي كي أستذكر جزءاً من حياتي الجميلة.لاأدري كم بقيتُ مستلقياً هناك؟ شعرتُ فجأةً أن دفيْ الشمس يسري في جسدي ويرخي أعصابي وأحسستُ أن قوة التركيز في ذهني قد اصبحت ضعيفه أو معدومة تماماً.عادت لي صورة زوجتي وهي تودعني وتقول:” أنا خائفة ولا تجعل مني إمرأه أرملة “.ثم جاءت صورة ولدي الكبير—ذو الخمس سنوات—تحلق أمامي في الفضاء الفسيح ونظراته تتوسل إلي بعدم الرحيل بعيدا عن البيت. وعادت صورة والدتي العجوز وهي تتمنى أن أخدم في أي منطقه في البلد عدا السليمانية..وماتت بعد ثلاثة أشهر بسبب الحزن الشديد علي وفاضت روحي مع ذكرياتي وازدادت نبضات قلبي وتدفقت دموعي شوقا على منطقتي. فجأة شعرت بيد تهز قدمي..فتحت عينيَّ بسرعة. شاهدت إمرأة متوسطة العمر تمسك طفلا بيدها وتقف الى جانبي. قالت:
…” أبو خليل..إذهب الى داخل الجامع..ستمطر السماء..لقد ذهب كافة الجنود الى داخل الجامع..هل أنت مريض؟ بالمناسبة لاتنسى النقود القريبة من قدميك.؟”.نهضتُ مسرعا ووضعتُ قبعتي العسكرية على رأسي. إلتفتُ الى اليسار ، كانت هناك كومة كبيرة من النقود. يبدو أن الماره كانوا يلقون الي بتلك النقود معتقدين أنني جلست هنا للتسول.جمعت النقود ووضعتها في جيبي وعدت الى الجامع. كان الزملاء ينتظرون قدومي بقلق. قال أحدهم:” أين كنت ياأستاذ؟ جاء دورك اليوم لجلب الطعام..أنت وعلي”.قال جعفر:” أنت وعلي تذهبان الى السوق..حاولا أن تجدا لنا شيئا ناكله..أعتقد أن مهمتكما ستكون صعبة بعض الشيء. غابت الشمس وسيكون السوق مقفلا. لو لم تتأخر لكنا الآن نتناول طعامنا.”. الحقيقة أحزنني كلامه الذي اعتبرته نوع من التوبيخ. الحق معه. كل يوم كنت أتناول طعامي دون أن أخرج الى السوق. توجهت نحو الباب الخارجي مسرعا. تمنيت أن أوفق في مهمتي وأن أجد بعض المحلات التجارية لاتزال مفتوحة ألأبواب. ركض علي الى جانبي وهويقول:
…” إذا لم نجد محلاً مفتوحا سيكون موقفنا صعبا أمام الزملاء.” لم أقل شيء سوى أنني تمنيتُ في قرارة نفسي أن نكون عند حسن ظن الزملاء.
ركضنا نحو السوق الخاص ببيع الأواني لأنه على حد علمي مزدحم طيلة النهار. كان السوق قد سادهُ الهدوء التام.أغلقت كافة المحلات التجارية أبوابها وتحول المكان الى بؤرة مخيفة ومرعبة..يشبه مقبرة غطاها الغبار. الحق يقال لقد شعرت بالخوف والحزن والارتباك في وقت واحد. الخوف لأن هذا المكان خطر جدا وقد يتم إغتيالنا من قبل أي شخص دون أن يعثر علينا أحد، والحزن..لأنني إذا لم أجد طعاماً سيبقى الزملاء بدون عشاء. وألأرتباك، لأنني ماذا سأقول لهم؟ كنت أسير كالمجنون من زقاق الى آخر الى أن توغلت في أعماق السوق المظلم لدرجة أن علي قال:” أستاذ، الى أين أنت ذاهب؟”. نظرت اليه بعصبية دون أن أنطق بكلمة. بعد فترة صمت قليلة قلت له” لن نعود حتى لو بقينا تائهين هنا كل الليل..يجب أن نجد شيئا ما..” فجأة سمعت صوتا يناديني من الجهة الأخرى من السوق المظلم.
…” أبو خليل..” استدرت ناحية الصوت القادم من خلف الظلام. كانت هناك إمرأة واقفة عند زاوية السوق وقربها طفلة في حدود العاشرة من عمرها. كانت تلوح لي بيدها وتطلب مني التوجه نحوها. قال علي بسرعه : ” لا تذهب..قد يكون ذلك فخاً لنا. “. توقفتُ في مكاني ورحتُ أوزع نظراتي بينها وبين علي. خشيت أن يكون كلامه صحيحاً..ولكن الفضول دفعني لمعرفة ماتريده مني.قلت على الفور: تعال لنرى ماذا تريد؟” . في البداية ظل واقفاً في مكانه..لكنه حينما شاهدني اتقدم نحوها اندفع راكضا خلفي وفي لحظات قليلة أصبح الى جانبي. إمراة في الثلاثين من العمر لها مسحة من الجمال..ترتدي ملابس كردية براقة وعباءة عربية سوداء. قالت بلهجة كردية سريعة لم أفهم منها اي شيء إلا ان الطفلة قالت بلهجة عربية ضعيفة ولكنني فهمت ما كانت ترمي إليه.
…” ماما تقول … هل لديك كيس نايلون كي تعطيك هذا الطعام؟ ” أخبرتها بأنني لاأملك أي كيس. عادت الطفلة راكضة الى الباب القريب منها وراحت تطرقه بقوة وحينما ظهرت فتاة في مقتبل العمر تحدثت معها بسرعة..في النهاية حصلت الطفلة على كيس نايلون أعطت الكيس الى أمها وراحت ألأخيرة تُفرغ قدرا من الدولمة داخل الكيس. راحت المرأة تتكلم بالكردية والطفلة تترجم لنا.” ماما تقول أن هذا العشاء لكم. إنها خرجت تبحث عن أي شخص يمر من هنا كي تعطيه هذا الثواب بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك وأمي ستكون سعيدة إذا قرأتما سورة الفاتحة على أرواح عائلتها بعد تناول الطعام”.
أسكرتني رائحة الدولمة وبدأت أفرغها بيد مترجفة في الكيس وأنا ادعو لها بالخير والمحبة. قالت الطفلة : ” ماما تقول يجب أن تعودا بسرعة كي تتناولوها حارة “. عدنا الى الجامع بسرعة البرق، وأنا أركض كنت أقول لعلي” ألم أقل لك لاتحزن إن الله معنا..وهو كفيل بالأرزاق..ويرزق من يشاء”. كان بقية الزملاء واقفين عند الباب الخارجي للجامع ينتظروننا قلقين وحينما دخلنا صرخ جعفر”
…” ياالهي، لقد تأخرتما ..قلقنا عليكما كثيرا”. عندما سلمته ..الدولمة..قلتُ بأنتصار” خذ هذا من عند الله..طعامنا هذا اليوم مجاني..لن ندفع أي شيء..إنه حار جدا”. أخذ الكيس مني مذهولاً وبسرعة البرق أخرج قطعة صغيرة من النايلون من جيبه ثم فرشها على ألارض وأفرغ الطعام عليها وصاح ” ياإلهي..دولمة؟ إن هذا لشيء عجيب!!. ” ورحنا نأكلها بصعوبة لشدة حرارتها..فجأة تذكرتُ والدتي رحمها الله وكيف كانت تطبخ لنا مثل هذا الطعام.. وفاضت روحي ولم أعد أواصل ألأكل. وذهبتُ لأغسل يدي في مغاسل الجامع ودخلت المرافق الصحية بحجة الوضوء ورحت أبكي وأبكي وأبكي الى أن جفت دموعي وشعرتُ ببعض الارتياح. كان الزملاء قد جلسوا في أماكنهم وسط الجامع وقد وضع كل واحد منهم سيكارة في يدهِ وراحو يتهامسون بحديث متقطع حتى ساعة متأخرة من الليل…