لا يمكن أن يكون سلوك المتدرب السعودي محمد سعيد الشمراني، الذي أطلق النار في قاعدة تدريب عسكرية أمريكية في ولاية فلوريدا مقياساً لغيره من أبناء الشعب السعودي أو مواطني أي دولة عربية أو مسلمة، لأنه ببساطة سلوك فردي متطرف لا يمكن القضاء عليه واستئصاله من أي بيئة مجتمعية نهائياً.
وقد ذكرت في مقالات عديدة أن خطر الإرهاب ليس فقط في عناصره ولا في خارطة انتشاره الجغرافية بل تكمن أيضاً في “بذرة” الفكر المتطرف القابلة للحياة تحت أي ظرف من الظروف، حيث يمكنها العودة والانتشار ومن ثم التسبب في الجرائم بمجرد انتقال أحد متلقيها من دائرة السماع إلى دائرة الاقتناع وصولاً للتنفيذ.
وخطر الأفكار التي كتبها المتدرب السعودي المتورط في جريمة فلوريدا لا يقل عن خطر إطلاق النار على الأبرياء من ضحايا هذه الجريمة الآثمة، ومرتكبها لا يقل خطراً عن غيره من الإرهابيين والمتطرفين ابتداء من البغدادي مروراً باليميني الاسترالي المتطرف الذي قتل العشرات من الأبرياء في مذبحة “كرايست تشرش” ضد المصلين الأبرياء في أحد المساجد بنيوزيلندا في مارس الماضي، وغيره من الإرهابيين المنتمين لتيارات فكرية شتى، الذين ارتكبوا جرائم سفط دماء بريئة في مناطق عديدة حول العالم في السنوات الأخيرة.
والأمر في مثل هذه الحالات لا علاقة له بدين أو جنسية أو عرق، بل له علاقة وثيقة بالفكر الإرهابي المتطرف، الذي يحض على نبذ الآخر ويعتنق تفسيرات وتأويلات خاطئة للأديان السماوية، التي تحض جميعها على السلام والتسامح والتعايش بين بني البشر، ومن ثم فإن الدرس الأساسي من هذه الجريمة وغيرها يكمن في ضرورة مواصلة الجهود الدولية الرامية لاستئصال الفكر المتطرف من جميع أنحاء العالم، وبموازاة ذلك بذل كل جهد ممكن لنشر التسامح والتعايش وحمايتهما بأطر قانونية وتشريعية صارمة توفر لجميع أتباع الديانات والجنسيات والأعراق، الأمن والسلام وتحول دون تضررهم جراء فكر من تشوهت عقولهم ومن انساقت مشاعرهم ومن غاب وعيهم عن القيم والمبادئ الإنسانية القويمة.
إن بقاء فرد واحد أو بضعة أفراد أو حتى العشرات من المؤمنين بأفكار إرهابية يمثل خطراً داهماً على الكثيرين في شتى أنحاء العالم لأننا سنلاحق في هذه الحالة أشباح لا نعرف أماكن تواجدها ولا خطواتها القادمة ولا أين تنوي أن توجه ضربتها التي لا أحد لديه القدرة على التنبؤ بها! إنها سيناريوهات مخيفة يجب أن يعمل المجتمع الدولي متضامناً من اجل تفاديها ودرء خطرها، فالخطر لا يكمن في جنسية هذا أو ذلك ولا دينه، فالأحداث والتجارب أن العنف والإرهاب لا يفرق بين البشر، مجرمين وضحايا، فالكثيرين يقعون فريسة للتطرف والكثيرين يقعون ضحايا لهذه الآفة الخبيثة أيضاً.
والحقيقة ً أن هذه عملية فلوريدا، التي لا يمكن وصفها سوى بكونها جريمة فردية لا تمثل السعودية الجديدة التي تشهد تحولات جذرية تستهدف إعادة بناء المجتمع السعودي للتخلص من جذور أي تطرف وترسيخ مبادئ وقيم التعايش والانفتاح، التي تعود بالمجتمع السعودي إلى جذوره الحقيقية وتنأى به عن أي تطرف وعنف، فمملكة الحزم والعزم تقف في مقدمة الصفوف في الحرب ضد الإرهاب، بل هي تخوض معارك فكرية شرسة ضد هذه الآفة، لذا فإن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز قد أراد بث رسالة مهمة لجميع الشباب السعودي حين وصف جريمة فلوريدا بالشنعاء، وأن منفذها لا يمثل المملكة ولا شعبها، ليؤكد للجميع أن السعودية بريئة تماماً من أي فكر متطرف، وأن الفكر الجديد الذي يسود المملكة يتنافى مع أصحاب رؤى الصراع بين الأديان والحضارات.
الحقيقة أيضاً أن هذه الجريمة تسلط الضوء على الذئاب المنفردة التي تعتنق فكراً ضالاً يصعب تعقبه أو اكتشافه، لأنهم العناصر الأخطر في منظومة ملاحقة الإرهاب والعنف، ليس فقط لأنهم صيداً سهلاً لتنظيمات الإرهاب كي تستخدمهم في تنفيذ جرائمها عبر توجيهات وتعليمات مباشرة أو بالإيحاء الفكري والتنظيمي، ولكن أيضاً لأنه تحولاتهم التي تنتقل بسرعة بالغة من مرحلة اعتناق الفكر إلى مرحلة تنفيذ الجريمة يمكن أن تمثل كابوساً لضحاياهم الذين لا ذنب لهم سوى أنهم تواجدوا في توقيتات وأماكن معينة شاء قدرهم أن تكون مسرحاً لجريمة مختل آمن بفكر متطرف وانتقل إلى تنفيذ جريمة بشعة اعتقاداً وهمياً منه بأنه يدافع عن دين أو عرق أو هوية!
ثمة نقطة تحليلية أخرى مهمة تثيرها هذه الجريمة وهي أنه لا يمكن، في ضوء استمرار خطر انتشار الفكر المتطرف، القبول بما يدور من عمليات ابتزاز أو خلافات أو جدل عقيم حول مصير العشرات من عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي الذين تم اعتقالهم في الأراضي السورية، حيث يتابع العالم الخلاف حول مصيرهم بين تركيا ودول أوروبية عدة، رغم أن الخطر الناجم عن أي خطأ في التعامل مع هؤلاء قد يفوق أي مكاسب مرجوة من عمليات الابتزاز التي تُمارس أحياناً لنيل بعض المكاسب الآنية من دول أوروبية يحمل هؤلاء الإرهابيين هويتها!
الذئاب المنفردة والجرائم المعزولة عن محيطها، لا علاقة لها بدين أو وطن أو عرق، بل هي مرحلة لازمة من مراحل القضاء على الإرهاب والعنف والتطرف، وتكثيف التعاون وتبادل الخبرات والتجارب والدروس المستفادة بين دول العالم يبدو مهماً للغاية في اكتشاف المنتمين إلى هذه الفئة والتصدي لخطرهم قبل فوات الأوان.