23 ديسمبر، 2024 9:03 ص

جريدة العالم : حرية الكلمة المغدورة

جريدة العالم : حرية الكلمة المغدورة

مرة سُئل الكاتب الروسي المعروف انطون تشيخوف عن بعض سياسيّ ونقاد ورقباء عصره فقال ممازحاً وبسخرية لاذعة: (أن هؤلاء يشبهون الذباب الأزرق، انهم يحدثون طنيناً مزعجاً ويحملون روائح كريهة) ويقيناً تنطبق هذه المقولة على جميع السياسيين العراقيين أو الرقباء على الصحافة والإعلام والأدب لا في عصر الطاغية صدام حسين وما قبله بل وفي عصرنا الحاضر، فهؤلاء لا يتورعون عن ادارة شؤون البلاد بالطريقة التي تتناول فيها الذئاب الجائعة فريستها، هذه هي عملية الفتك السياسي التي سادت العراق في السنوات الماضية وانطلقت من مواقف السياسي المحتال التي شكلت سابقة خطيرة في النفاق السياسي واللصوصية كما قامت بعملية خلط الثقافي الحقيقي بالزائف، السياسي المنافق بالمواطن المخلص والطائفة بالمواطنة على نحو ميكانيكي بحيث أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بروز حالات مختلفة من التردي العام الذي طال كل مرافق الحياة المتنوعة مما حدا بعودة البلاد وأهلها إلى عصور الانحطاط ودفع بها داخل أحشاء الزمن القروسطي، ومما زاد من تناسل الخراب غياب أي قانون حقيقي نقدي أخلاقي يلتزم المعرفة ويحترم الإنسان وحرية الصحافة والتعبير والكلمة، فما بمقدور المعرفة والقوانين البشرية أن تفعلانه تحت مظلة الانظمة العقائدية القمعية السائدة الآن بمثقفيها ونقادها ومنظريها وأبواقها الذين مرغوا الفكر في الوحل خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد تشرذماً معرفياً وإنحساراً ثقافياً وصعود المد الاسلامي الأصولي على غرار المد العقائدي اليميني واليساري في القرن الماضي، لذلك سوف لم نعد نفاجأ بإيقاف صحيفة العالم عن الصدور أو بتنطع أي مشروع سياسي ثقافي حقيقي من واجهة الاحداث فلقد أنفلتت الأمور من عقالها وسادت وسائل المنع، اليوم وفي قادم الأيام، لهذه الصحيفة أو تلك وانتشرت العمائم الملونة وقوانين الغاب تحت ظل الفتاوى المظلمة التي تدعمها الانظمة المعادية للحرية والحياة والجمال مثلما هي عودة الايديولوجيات المغلقة مرة أخرى بنفس الشعارات الزائفة التي كانت سائدة في الماضي القريب، لقد أمتزجت الاشياء بطريقة فوضوية حتى تصاعدت رائحة التصعيد والتقويل والتحريض وغلق الصحف نحو الخراب الشامل وبدا واضحاً أن لا مفر من مواجهة الموت الثقافي المعرفي رغم أن الحياة لن تنسحب بعد فهي المرشحة الوحيدة للبقاء على الرغم من النجاحات الباهرة للقتل والإقصاء والتدمير التي تمخضت عن الفتك السياسي واتباعه حتى وأن حامت الشكوك وأشتبكت الحقائق حول طبيعة ما يجري الآن أمام الكواليس وخلفها، فوق الطاولات المستديرة وتحتها، داخل الاروقة وخارجها .
لا أحد يمكنه أن يتكهن كيف سيرسو الوضع المستقبلي، ثقافياً وسياسياً، في العراق، ثمة ظلمة حالكة وأسئلة لن نتمكن من الإجابة عنها إلا في الوقائع والتطورات المتسارعة وبالرغم من كل هذه الأحداث ستبقى الصحافة الحرة أو يبقى المثقف العراقي المتحرر والحر والمستقل وسط هذا الركام الهائل من الخراب، لم يخف قلقه من الآتي، انه يواجه الموت والجهل وحجب القول والعبارة الخالصة يومياً ومع ذلك يصر على البقاء، أن الرهان الوحيد اليوم هو على اصرار المثقف العراقي المغاير وتشبثه بالحياة والمستقبل والكلمة الصادقة المحلقة بالفضاء .