القليل من المشاهدين ممن تابع القنوات الاعلامية التي غطت انباء اقتحام مبنى الكونغرس الامريكي من قبل انصار الرئيس ترامب قبل تسليمه للسلطة , وكرّست معها عرض نتف من تغريداته الكثيرة التي اطلقها ترامب في الساعات الاخيرة من نهاية حقبتة الفوضوية والمتهوّرة بعد عزله من قبل الكونغرس , التي عبّرت عن تطمينات واستنكار وحب مزيف من ناحية واستخفاف بحفل تنصيب الرئيس المنتخب بايدن من ناحية اخرى ,
القليل منهم لم ينتبه الى فحوى الرسائل الموحية في تلك النتف التي وجهها عبر تويتر والتي ادت الى إغلاق حسابه الشخصي في نهاية الأمر لأنها باتت غير مسؤولة وتؤلب الأعداء على شتم ديمقراطية امريكا بأقذع الشتائم .
هذه الرسائل الموحية وهي ليست – بالطبع- موجهة للشعب الأمريكي لأنه لم ينتخبه , بل لأنصاره وللعالم اجمع فحسب , تعبّر عن اجراس اعمال لا تنفصل عن اعماله المتهورة والفوضوية التي نجمت عن خوالج غرورة والأنا العليا الساكنه في كيانه وعن المضمور الذي توعد به في تعميق الانشقاق بين صفوف الشعب الامريكي على المدى البعيد وخلق جيل عنصري متطرف الى اقصى اليمين يؤيد سياسة غلق ابواب الهجرة ,
والهرب والانكفاء من المنظمات الدولية والإنسانية والتستر بالقوة العسكرية في معالجة القضية الفلسطينية مكن اجل تحقيق كامل الاهداف الصهيونية من خلال صياغة واقع سياسي معاد خاضع لقوانين غير اخلاقية وكاذب وبتأويل جديد يتجاوز فيه الحق الفلسطيني ليخضع العرب فيه للهيمنة والذلّة بالابتزاز وإثارة الرعب في نفوس بعض الحكام الجبناء الذين الفوا انكار اخلاقهم وقيمهم الدينية والارتماء باحضان امريكا والصهيونية بلا حول ولا قوة امام اهدافها المجهولة وذلك بجعلهم مثل حشرة كافكا المحاصرة ليدفعهم للتطبيع مع العدو ,
إذ ان هذه الرسائل – لاشك – تنطوي على فهم للعقل الباطني وآخر للعقل الواعي لترامب , ففي ناحية العقل الواعي فإنها تعني أن هزيمتة بالانتخابات لم تبعث في نفسه الهزّة كما فعلت بأنصاره ولا تعكس صورة ان مافعلوه بمبنى الكونغرس هي صورة لرداءة عواطفه ازاء ذلك الصرح الديمقراطي ,
اما من ناحية العقل الباطني فكانت تعني ذلك مئة بالمئة , ذلك لأنها حققت له صورة توحي بأن روح التمرد بتلك الصورة ستعود يوما ما وبطريقة ما الى المشهد السياسي , وهو بهذا يعني إما أن يتم ذلك في الأنتخابات اللاحقة , اي بعد انتهاء فترة بايدن التي لامحالة من عدم استمرارها لولايتين لأسباب كثيرة اهما ان بايدن لايستطيع تحمل اعباء الرئاسة عندما يناهز الخامسة والثمانين إن لم تكن اكثر , وإما انه يتخيل ان صورة التمرّد ستكون كالمطرقة فوق رؤوس الجمهوريين الى ان ترتسم صورته السياسية التي ابتدعها ثانية بيد رئيس جمهوري اخر .
هذه الصورة الإيحائية التي عبّر عنها في صباح الاربعاء المصادف العشرين من كانون الثاني 21 بخطابه الوداعي الاخير الذي القاه في قاعدة اندروز مخاطبآ أنصاره : “سأناضل دائما من أجلكم وأراقب كل ما يدور من حولي ” هي التي تدل على تلك المطرقة التي ستتكفّل بتعبئة انصاره بالنضال الى مزيد من الطاقة لتحقيق صورة ترامب السياسية التي شكّل بها العالم في حقبته .
أما نتفة ” انا احبكم ” و” اتمنى لكم حياة طيبة ” و ” سأعود بشكل آخر وبطريقة ما ” والرسالة التي تركها الى الرئيس المنتخب جو بايدن التي وصفها ب ” الوديّة ” , كل هذه الرسائل تلامس وجهي ذاته وهما الظاهر الزائف الذي اصطاد به ترشيح الحزب الجمهوري له , اما الباطن الذي يتحرّق الى تحقيقه هو جولة حكم اخرى لإستئناف الإزدراء والأستخفاف بكل اعضاء الحزب الديمقراطي الذي نعتهم ب ” الأشرار ” وناصبهم العداء وخاصة باراك اوباما الذي سفّه كل منجزاته , ولا يستبعد منه في ولايته الثانية الإنقلاب على ديمقرطيتهم التي يقودها هؤلاء الاشرار – كما يزعم – الذين اضاعوا وقتهم بمنجزات ليست ذات قيمة ليصنع منفذآ لخياله المريض بالتمرد عليها , وهذا ماتم فعلآ من قبل انصاره , إلا انه لم يحض بغير الهجوم العنيف من الداخل الأمريكي فضلآ عن قادة العالم .
هذه الالتماعات التي تثير التساؤل في مسيرة ترامب الذي لم يسترح يوما عن الاستخفاف والاستهزاء بمن حوله واستغواله على العرب كونه رئيسا للولايات المتحدة , ستبدو اكثر وضوحآ حين يكترث لها علماء النفس وبلمسات فرودية ليكشفوا عن الاسباب الدفينة التي جعلت من ترامب بهذه السياسة المنحرفة التي تنظر الى نصف المجتمع الامريكي من ذوي البشرة الداكنة بإزدراء لحقوقهم ويقف الى جانب السوق والاقتصاد بلا قيم واخلاق وعدم احترام للعهود والمواثيق الدولية ,
والتي يحدّق بها عقله الواعي ببرود ونوايا انكرت حقوق العرب في فلسطين وارعبت اولئك الحكام الجبناء الذين جعلوه وبيسر ان ينفرد من بين الرؤساء الامريكان في إعلاء شأن الصهيونية بشكل سافر ومن دون تردد او استحياء من ممن ساهم في انتخابه ,
وستكون هناك امثلة اخرى على خروقاته غير المعلنة وخاصة في مجال الارهاب وتقويض السيادة الوطنية وخاصة في مواقفه السياسية مع العراق ومساعدته للكيان الصهيوني في قصف وحداته العسكرية ليزيد من حالة التأزم في مجرى صراعه مع الارهاب ومن دون ان يستنكر او يحتج على ذلك ,
ولعل ذلك كان جزءآ من الرسالة التي بعثها الى حكام المنطقة بأسرها التي تبين ان ذاته العليا لا يستطيع احد ان يتجاوزها لكي لايتردد احدآ منهم من الالتحالم بسياسته الداعمة لإسرائيل من ناحية , ومن اجل تحقيق غبطته النرجسية في تحقيق السلام الكاذب في المنطقة من ناحية اخرى .
في ضوء ذلك يتبين للقارئ النجيب ان سياسة ترامب هي نموذج غير اخلاقي , لا يمتاز بلون من المذاهب السياسية التقليدية التي دأبت عليها الإدارات الأمريكية السابقة , ولا بلون من التيارات السياسية التي تنحني للمصالح البشرية او تبتسم لها , بل تمتاز بلون عنصري فوضوي مناهض للديمقراطية ويتجاوز مؤسساتها , ولو ان علماء النفس من المتفاعلين مع المجتمع الامريكي , فسوف يكشفون في تحليلاتهم عن سبب اختلافه مع الديمقراطيين , وعن سمة وقالب هذا اللون العنصري المتجذر بالمجتمع الامريكي وان ما حصل في حقبة ترامب كان بداية واساس فحسب إن لم يكن احياء لهذا اللون من السياسة .
21 ك2 21