22 ديسمبر، 2024 2:56 م

جذور الفساد في النظام السياسي العراقي ولماذا يتعين استبداله ؟

جذور الفساد في النظام السياسي العراقي ولماذا يتعين استبداله ؟

من الصعب اختزال قضية كبيرة كهذه في مقالة واحدة دون ان تشوب العرض نواقص وثغرات بسبب اغفال العديد من التفاصيل اضطرارياً ؛ في ذات الوقت فانني من المنحازين لوجهة النظر القائلة بان فساد العملية السياسية في العراق يعود في جزء كبير منه الى تدخلات اقليمية ودولية ووفق برامج وتواطؤ وارتباط معظم اللاعبين السياسيين بها . لكن التدخلات الخارجية لابد ان تتم في بيئة مناسبة لنجاحها ، وان الاطر الدستورية والقانونية التي رُسمت بموجبها اللعبة السياسية وفرت قواعد مناسبةلهذا التدخل . لذلك فمن المهم فهم الالية التي يعمل النظام السياسي بموجبها والتي قادته الى مستنقع الطائفية والفساد وفق اهداف رسمتها القوى الخارجية ؛ ومن ثم طرح بعض التصورات حول نظام بديل ، لان تعديله او اصلاحه امر متعذر بسبب معطيات متجذرة في أسسه تنتج الفساد بشكل الي روتيني !! .

دون الحاجة الى مقدمات نظرية مطولة ، فان الاغلبية الساحقة من منظري علم السياسة والقانون الدستوري ” يفترضون ان وضع السلطة كاملة بين أيدي افراد او جماعات او طبقات بعينها يحمل معه خطورة الانحدار نحو الطغيان ، او توظيف السلطة لخدمة مصالح من تناط به وليس مصالح المجتمع ككل ” ، وهذه في واقع الحال تجربة عشناها في مجتمعاتنا العربية ومنها العراق ، ولسنا بحاجة الى العودة لتقليب صفحات ماض فهمنا دروسه .

البديل الوحيد اذن هو نظام ديمقراطي وفق فهم اصيل لجوهر الديمقراطية ؛ ان الديمقراطية في معناها العام تعني ، وفقاً لتعبير ابراهام لنكولن ، حكومة الشعب ، بواسطة الشعب ، ومن اجل الشعب ؛ هذا التعريف يشمل في التطبيق طيفاً عريضاً من الانظمة التي تتوزع على عدة أصناف مثل النظام الپرلماني ، والنظام الرئاسي ، والنظام المختلط بينهما ، والديمقراطية الشعبية المباشرة … الخ ؛ بغض النظر عن الاسم فان الهدف الاساس من التطبيقات الديمقراطية هو الحيلولة دون الطغيان ، وهو طغيان قد يتمثل في فرد او جماعة او طائفة … الخ .

واذا عدنا للوضع القائم الان في العراق نجده قد بني وفقاً لنموذج النظام الپرلماني ، حيث تذهب الهيئة الناخبة الى صناديق الاقتراع لاختيار أعضاء الپرلمان الذي يفترض به ان ينتج بقية السلطات ؛ بعد ان يكون قد انتخب هيئة رئاسته في اول جلسة ؛ يقوم المجلس بعدها بانتخاب رئيس الجمهورية الذي يقوم بدوره وخلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخابه بتكليف مرشح الكتلة النيابية الاكثر عدداً بالمنصب الاكثر أهمية في النظام وهو رئاسة مجلس الوزراء لغرض تشكيل المجلس ، وهذه ممارسة شائعة في الانظمة الپرلمانية ولاغبار عليها من حيث المبدأ ، الا ان التجربة العراقية ، ولاسباب عديدة ، خارجية وذاتية ، قد انحرفت خلال الممارسة ليتحول النظام الى آلية مقننة لإنتاج سلطة طغيان طائفي فاسدة فشلت حتى في تمثيل مصالح الطائفة التي انتخبتها ورفعتها الى السلطة . واهم هذه الاسباب هي الأسس التي قام عليها الدستور ، ونوعية النظام الانتخابي ، والتدخلات الدولية والإقليمية .

لقد تم بناء الدستور على اساس اعتبار الشعب العراقي اتحاد طوائف وإثنيات وليس اتحاد مواطنين ، وهذا واضح جلي في ديباجة الدستور ومواده العاملة ، وقد جاء قانون الانتخابات واعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة وفق نظام القوائم الحزبية ليكرس هذا الفهم ، حيث اصبحت القوائم تصنف استناداً للمذهب او القومية رغم انها كانت تطعّم بعناصر من مذهب او قومية مغايرين ، وتبعاً لذلك فقد اتجه النظام برمته ليكرس تصنيف ممثلي الشعب وتركيب السلطة بالاستناد الى الأوزان النسبية للطوائف تارة والإثنيات تارة اخرى تاركاً الى جنب قضية الانجاز كمعيار للشرعية لصالح معيار الولاء والتمثيل الطائفي ومكرساً بذلك الطائفية السياسية ؛ ولكن الاحزاب التي سلمت موارد البلاد المالية وقواتها المسلحة عند نقطة البدء منذ الاحتلال مروراً بعام ٢٠٠٥ لم تكن ذات قواعد شعبية أصيلة بين الطوائف التي زعمت لنفسها الادعاء بحق تمثيلها ، كما ان الطوائف والإثنيات التي ندبت نفسها لتمثيلها كانت قد شهدت تشظياً سبق حتى قيام الاحتلال بوقت ليس بالقصير ، كما هو الحال بالنسبة للأكراد لاسباب تتعلق بعدم اكتمال نضوج الوعي القومي تحت تأثير عوامل ذاتية واخرى خارجية . اضافة لذلك فان روح الطائفية المذهبية بين صفوف عرب العراق لم تكن قد تمكنت الى الحد الذي يوحد صفوفها سياسياً وفق معيار مذهبي . ان الاحزاب السياسية في بلدان العالم الثالث حديثة الخبرة بالتجربة الديمقراطية عموماً لاتشكل وفق برامج اقتصادية – سياسية – اجتماعية ، بل وفق معايير الولاءات الشخصية والرشوة والمنافع المتوقعة لمجموعات او شرائح بعينها ، مع خصوصية تاريخية ملحوظة بالنسبة للعراقيين الشيعة وهو الولاء للعشيرة والقبيلة والاصل العربي ، كما وجدت أغلبيتهم ” مظلوميتهم التاريخية ” نفسها في احزاب اليسار واليسار القومي ، مما جعل احزاب الطائفية السياسية الشيعية غريبة عن روح العامة في اوساط العرب الشيعة ، وبقيت تدور في اطار نخبوي كان قد تربى اصلاً في ظل رعاية ايرانية ، ناهيك عن الأصل والولاء الايراني للعديد من رموزها ؛ فيما ساد عزوف واسع النطاق لدى السنة في عدد من المحافظات بسبب الطابع الطائفي الواضح للنظام والمبادئ التي أقيم وفقاً لها ، ولم يكن السنة قد قدموا انفسهم تاريخياً كطائفة ( مع استثناءات محدودة ) ، بل توزعت انتمائاتهم السياسية على التيارات القومية العربية ، اليمينية واليسارية ، او اليسار الايديولوجي تحت مسمياته المتعددة الى جانب التمسك بروح العشيرة والقبيلة شأنهم شأن ابناء عمومتهم وأبناء أفخاذ تعود لذات القبيلة والعشيرة من العرب في الجنوب ، لكن هذا العزوف سمح للحزب الاسلامي بزعم تمثيل السنة ، وكان في الأصل قد اسس بتمويل سعودي اواخر الثمانينات ليكون بديلاً عن الاخوان المسلمين التي واجهت فشلاً في العراق بسبب سيادة النزعة القومية لدى العراقيين العرب بشكل عام ، ولم يكن حظ هذا الحزب بافضل منها. فضلاً عن كل ذلك فان اعلاء الولاء المذهبي لم يكن من أولويات العرب في العراق ؛ ليس من الظواهر الغريبة ان نرى عشيرة او قبيلة تدين بمذهب مغاير لمذهب بيت المشيخة ، او تتباين أفخاذ ذات العشيرة في المذهب ، وهذا التباين وصل حتى مستوى ابناء أسرة واحدة ، وهنالك امثال عديدة لامجال لتعدادها . هذه المعطيات أنتجت تمثيلاً مشوهاً للمكونات العراقية ، الطائفية والاثنية ، وشكل ذلك العامل الرئيسي لان تتحول كتل الاحزاب الپرلمانية والنخب السياسية الى مجموعات مصالح خاصة اكثر منها ممثلاً لمصالح شعبية ، وتكرست القطيعة بين هذه النخب والقواعد الشعبية وانعكس ذلك في تراجع الحماس الشعبي للمشاركة في العملية السياسية الى مستويات متدنية بشكل يُفقد هذه النخب شرعية التمثيل الطائفي ، الى جانب فقدانها شرعية الانجاز منذ نقطة البداية .

هذه العوامل الذاتية في اوساط العراقيين جعلت من احزاب الطائفية – السياسية فقيرة الشعبية ولم تجد سوى الاغراء بالوظيفة والرشوة لبناء بعض القواعد ، فيما تجاهلت قوة الاحتلال الاحزاب والكتل القومية والعلمانية بما في ذلك تلك التي قدمت معها ، وكرّست موارد البلاد واهم مناصب السلطة للأحزاب الدينية رغم قناعتها بولاءاتها غير الوطنية وافتقارها لقواعد شعبية حقيقية ، وهذا فتح الباب واسعاً امام القوى الاقليمية للتدخل في توجيه مسار العملية السياسية .

لقد لعبت تدخلات القوى الاقليمية وفِي المقدمة ايران في تعميق ظاهرة تعدد ممثلي ” الطائفة او الاثنية ” الواحدة رغم تطابق اللافتات التي ترفعها ، وقد شمل ذلك الطائفة الشيعية الاكبر عدداً والتي تحتل القوى الحزبية التي زعمت تمثيلها العدد الاكبر من مقاعد الپرلمان ، وفتح الباب امام المساومات والتسويات التي تلعب الوعود بالمناصب والرشاوى دوراً اساسياً في تشكيل كتلتها الپرلمانية التي تؤهلها لحيازة المنصب الأهم في بنية السلطة وهو رئاسة مجلس الوزراء الذي لم يستطع العمل ككتلة موحدة ، بل اصبح كل وزير حاكماً مطلقاً في شؤون وزارته بحكم اتفاق التواطؤ على السلطة بين حزبه وحزب الكتلة المحورية لتحالف الحكومة ؛ في لقاء تلفزيوني ذكر القيادي في الحزب الاسلامي ان حصة حزبه هي ستة وزارات وخمسين منصباً حكومياً وبالتالي فهو غير معني بما تفعله السلطة او يفعله اللاعبون السياسيون الاخرون . ان هذا التشظي يخدم مصالح هذه القوى الاقليمية ، وخاصة ايران ، التي يتيح لها تشتت تمثيل الطوائف وخاصة الطائفة الشيعية امكانية ابقاء خيوط اللعبة السياسية والقرار السيادي العراقي بين أيديها . وتبعاً لذلك اخذت ظاهرة الفساد الذي تنتجه الزبائنية السياسية تمثل قاعدة ونمطاً للاداء السياسي والحكومي ، وتحولت مؤسسة الپرلمان من هيئة للرقابة الشعبية الى مؤسسة لطبخ تسويات الفساد وتنتج حكومة بعيدة عن الرقابة خاصة مع شيوع ظاهرة تشكيل الحكومة وبقية الهيئات السيادية وفقاً لمبدأ ” التوافق الوطني وتمثيل الجميع ” بفعل الضغط الامريكي الذي فرض هذا التقليد منذ لحظة ولادة النظام ، وكان بوش الابن قد جعل ذلك موضع إشادته الدائمة زاعماً مع ولادة كل حكومة عراقية انها تمثل الجميع متخذاً ذلك دليلاً على نجاح ” ديمقراطيته ” التي أسسها في العراق ، وظل ذلك سياسة ثابتة لدى الإدارات الامريكية اللاحقة ؛ فتم إلغاء احد الأركان الاساسية في العمل الپرلماني وهو ” المعارضة ” ؛ هذا النمط من الحكومات يحيل السلطة بالتالي الى سلطة نخبة متوافقة على الحكم وفق مبدأ التغاضي المتبادل .

نتيجة كل ذلك تحولت السلطة في العراق الى ” غنيمة ” بدل ان تكون وكالة او مسؤولية بالنيابة عن الشعب لادارة شؤونه ، وتحولت موارد البلاد الى موارد للأحزاب وقياداتها والاستحواذ على اكبر قدر منها وسيلة تلك الاحزاب لتعزيز نفوذها في السباق السياسي ، واخذ هذا الفساد اسوأ مايمكن تصوره من اشكاله ، فقد تحولت الوظيفة العامة ذات الراتب المجزي مثلاً الى واحدة من ادوات شراء الولاء حتى تجاوز عدد متلقي الرواتب والتقاعد من القطاع الحكومي ثمانية ملايين موظف ومتقاعد يستنفذون اكثر من ثلث موارد البلاد النفطية ، وقد بلغت الحالة حد الاقتراض من البنك الدولي ومن اسواق المال العالمية لتمويل دفع مايسمى الميزانية التشغيلية ، وزاد الطين بلة تراجع الخدمات العامة وتردي قطاع الكهرباء بشكل خاص نتيجة الفساد والإهدار وعدم المبالاة مما ادى الى إغلاق عشرات الالاف من الوحدات الصناعية التابعة للقطاع الخاص والتي كانت تؤمن مئات الالاف من الوظائف .

لقد مثل الشكل الپرلماني للسلطة مع تشوه شكل القوى السياسية منذ لحظة ولادتها وقانون الانتخابات وفق نظام القوائم واعتبار العراق دائرة انتخابية واحدة والذي يفصل بين الناخب وممثليه خلطة لاتتناسب مع واقع المجتمع العراقي واحتياجاته ، واصبح الزمن عامل مراكمة لتداعيات الفساد السياسي والوظيفي وتناهب المال العام ؛ كان ذلك عامل عدم استقرار تمثل في تظاهرات شعبية تكررت حتى تجاوزت حدود المطالبة بالإصلاح الى المطالبة باسقاط العملية السياسية برمتها ، ومن المؤكد انها ستبقى في الشارع حتى تحقيق هدفها ،

ينبغي التوقف هنا لإبداء بعض الملاحظات العامة والتي تتعلق بخبرات شعوب اخرى وكيفية بناء تجربتها السياسية أراها مفيدة ، ومن المفيد تدبرها قبل المضي قدماً في مناقشة افضل الخيارات المتاحة امام الشعب العراقي

١- في جميع الديمقراطيات الراسخة التي نعرفها في العالم الغربي والتي اختارت الشكل الپرلماني نشأت النخب السياسية والاحزاب خلال عملية تطور اقتصادي – واجتماعي ، ثورية سريعة او تراكمية بطيئة ، وكانت ثمرة لها . ولان السياسة هي في نهاية المطاف تنافس على السلطة وفق مصالح محددة لفئات السكان التي تتبلور وفق مصالح طبقية او فئوية فقد كانت هذه الاحزاب والنخب السياسية تمثل مصالح اجتماعية – اقتصادية واضحة ، وصار الناخبون يتجهون الى صناديق الاقتراع تحركهم هذه المصالح وينتخبوا ممثليهم الذين ينقسمون الى أغلبية سياسية وأقلية سياسية وفق مايمثلونه من مصالح ، واستمرت هذه الممارسة واصبحت تقاليد راسخة في العمل العام ، وفِي وقت من الأوقات تجد النخب السياسية انه لابد من تأطير هذه الممارسة بدستور مكتوب ( فرنسا مثلاً ) او اعتمادها بشكل عرف راسخ له قوة الدستور المكتوب ( بريطانيا مثلاً ) .

٢- في مجتمعات اخرى تحصل على استقلالها نتيجة ثورة ، او تشهد تغييراً سياسياً ثورياً يطيح بنظام سياسي قائم يكون طابعه الطغيان تمارسه نخبة عسكرية او حزب منفرد او فرد ، تكون النخب السياسية مشتتة في العادة لان فترة الحكم الأجنبي او حكم الطغيان قد أعاقت النمو الطبيعي للمجتمع بضمنها انتاج النخب السياسية او الاحزاب التي تمثل المصالح الشعبية . لقد منحت هذه الشعوب نفسها فترة من الوقت كي تستقر العملية السياسية وفق اسس واضحة وتعقبها في مرحلة لاحقة عملية كتابة الدستور الدائم . لم يكتب الدستور الامريكي الا بعد ثماني سنوات من الاستقلال ، وفِي جنوب افريقيا استغرق الامر حوالى خمسة عشر عاماً شهد خلالها دستور البلاد الذي اعتمد بعد زوال النظام العنصري التعديل ست عشرة مرة حتى اخذ شكله النهائي ، ومن المحتمل ان يشهد مزيداً من التعديلات ؛ وفِي هذين المثالين كانت السمة البارزة في العملية السياسية هي انعدام الثقة بين مصالح الفئات السكانية . في الولايات المتحدة كانت الأزمة الاساسية هي في تنظيم العلاقة بين سلطات الولايات المستقلة والحكومة المركزية ، فضلاً عن التنوع العرقي والديني لان الشعب الامريكي كان بالأساس شعب قوامه المهاجرون من شتى الأعراق والديانات ، وكان الهاجس الاساس هو الخوف من الطغيان ، طغيان المركز على الولايات وبالعكس ، او طغيان عرقية او دين على ماسواه ، ولذلك استغرقت عملية بناء الثقة حوالى ثماني سنوات عاشت خلاله الولايات المتحدة في ظل نظام كونفدرالي وبقيت العديد من الولايات متمسكة باستقلالها بل وبادرت الى وضع تشريعات گمرگية وضريبية لحماية مصالحها الاقتصادية المحلية ، وبعضها لم ينضم الى الاتحاد بعد إعلانه الا في وقت متأخر ، ورغم ان نص الدستور الامريكي هو جامد غير قابل للتعديل الاّ ان المشرعين الامريكان ابتكروا طريقة لتجاوز ذلك من خلال إصدار ملاحق تعديلية بلغت سبعة وعشرون تعديلاً حتى عام ١٩٨٩ .

اما في جنوب افريقيا فقد ساد البلاد الانقسام العرقي وتراث سياسي سادته روح العزل العنصري لصالح المستوطنين البيض الذين تم اعتبارهم مواطنين بعد زوال النظام العنصري ، ولذلك استغرق الامر حوالى خمسة عشر عاماً لإرساء تجربة سياسية وتقاليد ثابتة لادارة الحياة العامة وفق مبدأ المواطنة المتساوية من اجل ازالة المخاوف من الانحدار نحو نظام طغيان عنصري معكوس لصالح الملونين من اهل البلاد ، فضلاً عن تباين المصالح بين الطبقات الاجتماعية حيث احتكر البيض لفترة طويلة موارد البلاد وثرواتها وشكلوا طبقة بيضاء عليا وغالبية ساحقة بين صفوف الطبقة المتوسطة المتعلمة .

لقد تم اعتماد الدستور العراقي بطريقة مستعجلة ، ومن المرجح ان طرفاً غير عراقي هو الذي كتبه ووضعت امام امكانية تعديله عقبات دستورية وقانونية يصعب ، ان لم يكن ذلك مستحيلاً تجاوزها ؛ ولذلك فان الخيار الوحيد المتاح امام الموجة العارمة من الاحتجاجات الشعبية التي اخذت سمات ثورة شعبية شكلاً ومضموناً ، وتجنباً لإراقة مزيد من الدماء هو إلغاء النظام السياسي برمته بما في ذلك دستور عام ٢٠٠٥ الذي طرح للتصويت الشعبي العام بطريقة مستعجلة وفِي ظروف استثنائية جداً، وعلى الأغلب فان الجزء الكبر من الدستور كان جزءاً من اهداف مشروع الاحتلال ذاته ؛ لقد تضمن الكثير من الاحكام المتناقضة ، وعلق تنفيذ الكثير من مواده على إصدار مايقرب من ثمانية واربعين قانوناً لم ينجز غير القليل منها ، وفيه اضطراب فاضح وخلط للسلطات مثل اعتباره رئي الجمهورية جزءاً من السلطة التنفيذية فيما لايتمتع في واقع الحال بأية سلطة تنفيذية مستقلة ، وفِي مكان اخر من الدستور يعتبر ” رمز وحدة الوطن – م ٦٧ ” وهي صفة لايجوز منحها لجزء من السلطة التنفيذية ، ناهيك عن اشغال منصب الرئاسة من قبل رموز انفصالية عملت لفترة طويلة برعاية الموساد الاسرائيلي وغيره من اجهزة المخابرات الأجنبية . هذا اضافة الى تعطيل تنفيذ بعض من اهم مواده مثل تلك التي تخص تشكيل مجلس الاقاليم الذي كان لو شُكّل وبصلاحيات تجعله شريكاً فاعلاً في السلطة التشريعية على اساس مبدأ التمثيل المتساوي للمحافظات لكان بامكانه ان يحقق قدراً مهماً من التوازن لهذا الدستور المعيب .

في ظروف العراق الحالية وبكل معطياته التي ذكرنا بعضاً منها فان شكلاً معدلاً لنظام رئاسي ، وربما الأدق ان نقول نظاماً پرلمانياً مطعم بعناصر من النظام الرئاسي ، يقوم على المبادئ التالية قد يكون هو الشكل الأفضل لاستيعاب واقع المجتمع العراقي ، ولعله الحل الدستوري الأفضل للازمة العراقية الراهنة .

من الواضح ان عناصر الفشل في النظام الحالي تكمن في نقيصة جوهرية قادت الى جميع التداعيات السلبية للنظام ، وتتمثل هذه النقيصة في طغيان مؤسسة الپرلمان ، وفِي قلب هذه المؤسسة طغيان كتلة پرلمانية رئيسية تتألف من مجموعة احزاب نشأت نشأة شاذة سواء في ظل الاحتلال او خلال فترة وجود قياداتها في الخارج واحتضانها من قبل اطراف خارجية ، ثم قيام هذه الكتلة بتوزيع المناصب وموارد الدولة وعقودها على الجميع تحت مبدأ المشاركة الوطنية الشاملة . وهنا يكمن بيت الداء : ان جوهر النظام الديمقراطي يكمن في منع ظهور الطغيان رغم وجود أغلبية وأقلية في قلب النظام ، ويتم ذلك من خلال توزيع مراكز السلطة والنفوذ في النظام على عدد من السلطات مع تبادل الرقابة وتشكلها من خلال الإرادة الشعبية المباشرة ، وخاصة السلطة التنفيذية المتمثّلة برئيس الدولة ووزرائه التي يتعين منحها قدراً كبيراً من الاستقلال مع خضوعها لرقابة السلطتين التشريعية والقضائية من خلال اليات معروفة ، ومن اجل إلغاء مصادر عدم الثقة والخوف في مجتمع متعدد الطوائف والعرقيات وعاش تجربة طائفية مريرة ؛ يمكن تقديم قدر من الضمانات للاغلبية وللإقليات على حد سواء من خلال اعتماد مبدأين قد يبدوان متناقضين ولكنهما متكاملين في واقع الحال في تشكيل السلطة التشريعية التي تمثل سلطة الرقابة الشعبية الاقوى داخل النظام ، يقوم المبدأ الاول على اعتماد التمثيل النسبي للسكان في احد المجالس التشريعية ، وفق قانون للانتخابات يجمع بين نظام القوائم الحزبية ونظام الصوت الواحد وتعدد الدوائر الانتخابية ؛ ويتم اعتماد مبدا التمثيل المتساوي للحافظات في المجلس التشريعي الثاني ( بضمنها محافظات منطقة الحكم الحكم الذاتي الثلاث ) ، ويكون المجلسان على قدم المساواة فيما يتعلق بالامور المهمة في حياة ومستقبل الشعب ودولته ، مثل اعلان الحرب او حالة الطوارئ ، اضافة الى القوانين المهمة مثل الموازنة العامة للدولة وذات الصلة بموارد البلاد الوطنية وقضايا الحريات والحقوق وفِي سلطة الرقابة على السلطة التنفيذية والقوانين ذات الطبيعة المُنشئة . وهنالك تفاصيل اخرى يمكن الحديث فيها في مقالات قادمة .

ينبغي كذلك ان يؤخذ في الاعتبار ان نجاح آية تجربة سياسية جديدة في العراق مرهون بتطبيع الاوضاع في الحياة العامة واليومية للعراقيين . ينبغي وضع جميع السلاح تحت السيطرة الفعلية للدولة واعتبار اي طرف يرفض ذلك متمرداً على السلطة الشرعية وتتم محاسبته باعتباره تنظيماً ارهابياً لانه يحاول تمرير رؤاه السياسية من خلال السلاح ، كما ينبغي العمل فوراً على اعادة النازحين الى مواطن سكناهم الطبيعية وفق ماكانت عليه قبل الاحتلال ، ومعالجة ملفات السجناء والمغيبين ومحاسبة الفاسدين والطائفيين وتطبيق مبدأ ” من اين لك هذا ؟! ” .. هنالك امور اخرى يتعين العمل عليها واعتبارها مهمات أساسية مثل اعادة العمل بقانون معدي لخدمة العلم وتطويره ليكون نظاماً للخدمة الوطنية الالزامية والتي تشمل ، من بين امور اخرى ، خدمة مدنية تكون مجزية عن الخدمة العسكرية اذا كان هنالك فائض من المدعوين للخدمة العسكرية ..