السبل السلمية لحل النزاعات بين أي طرفين سواء كانوا أفراداً أو كيانات اعتبارية أو دولاً يقوم على مبدأ إيجاد الحلول الوسطى بين الأفرقاء، وفق مبدأ يستند ضمنياً على تقديم تنازلات معينة من قبل كل طرف مقابل مكاسب يحصل عليها من الطرف الآخر ينتج عنها في المآل الأخير اتفاق بعينه يمثل حاصل الجهد الدبلوماسي في الحقل السياسي كمثال على ذلك المبدأ العمومي. ولكن تلك المعادلة لا تستقيم فعلياً في حالة نموذج العلاقات الدولية السائد في عصرنا الراهن القائم على اختلال مطلق في موازين القوى لصالح هيمنة مطلقة للأقوياء على الضعفاء دولاً ومجتمعات. وهو ما يعني من الناحية العيانية المشخصة استحالة استعارة أدوات الدبلوماسية والمفاوضات لأجل تحقيق حلول وسطى في معادلة لا يرتضي فيها الأقوياء إلا أكل الكعكة كاملة بكل حيثياتها، ومفاوضة الضعفاء على حقهم فقط في لعق الفتات المتبقية من الكعكة بعد التهامها وهضمها وإعادة إنتاجها قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية بيد الأقوياء.
ومن ناحية لأخرى لا يستقيم استخدام الأقنية الدبلوماسية وتقنيات المفاوضات لإقناع المستضعفين وخاصة إن كانوا دولاً ومجتمعات بالتحول إلى مصادر مشروعة دون رقيب أو حسيب لاستخراج الموارد الأولية من بواطن أرضها، ومصدراً لليد العاملة الرخيصة التي ليس لها من نصير يكبح جماح استغلالها الوحشي، وسوقاً مفتوحة على أعنتها لتصريف نتاج الأقوياء في اقتصاديات مجتمعات المستضعفين دون أي ضوابط قد تتيح إمكانية تطور صناعات وطنية في مجتمعات المستضعفين يحتمل أن تنافس حتى لو بعد حين نتاج الأقوياء، وتحد بالتالي من طوفان إدمان البشر المستضعفين على استهلاك ذلك النتاج؛ إذ أن ضعف المستضعفين لا يعني سذاجة أو هبلاً، وهو ما يستدعي من الأقوياء الاتكاء على مصدر قوتهم الوحيد فعلياً في شروط عالمنا المعاصر، وأعني هنا العنف اللامحدود مشخصاً بالقوة العسكرية التدميرية التي لا يستحي الأقوياء بإعلانها جهاراً نهاراً ورقتهم التفاوضية الأسمى التي لا بد من إشهارها في كل مفاوضات بنفس الطريقة التي يشهر فيها سارق مسدسه على رأس من يسرقه ويطلب منه طواعية التخلي عن كل ثمين لا بد للسارق من أخذه برضى وقبول ضحاياه.
ومن ناحية أخرى فإن بنيان الاقتصاد العولمي الراهن يبقي على مفاصل الحل والعقد الاقتصادي بيد الأقوياء الذين يتحكمون في آليات تدفق السيولة المالية بين المؤسسات الاقتصادية على المستوى الكوني من خلال تحكمها بمؤسسات التمويل المصرفي وخاصة تلك المعروفة بنظام Swift، وغيرها من الأقنية المشابهة التي هي بيد الأقوياء أيضاً وبشكل شبه مطلق، كما هو الحال في سيطرة الأقوياء على كل التبادلات المالية الإلكترونية التي تتم على المستوى الكوني عبر بطاقات الدفع الإلكتروني عبر سيطرتها على الشركتين الوصيتين المتحكمتين بتلك الأقنية، وأعني هنا شركتي Visa وMastercard، وهو ما يعني تمتع الأقوياء بميزة تفاضلية أخرى في نسق ممارسة العنف تكمن في الحقل الاقتصادي مشخصة بقدرتهم شبه المطلقة على ممارسة فنون الخنق الاقتصادي لدول ومجتمعات بأسرها، إن سولت لأنفس البشر فيها التفكر بمحاولة الانعتاق من بنى وشروط ومتطلبات هيمنة الأقوياء على مجتمعات المستضعفين المفقرين، وهو الحال الذي نشاهده كثيراً في غير موضع من أرجاء الأرضين تتحول فيه أدوات الخنق الاقتصادي إلى وسيلة لممارسة العنف دون صواريخ ودبابات وطائرات، على الرغم من تطابق نتائج العنف الاقتصادي مع ذلك العسكري في المآل الأخير متمثلاً بالأعداد المهولة من الأطفال الذين لا يجدون ما يقتاتون به، والجوعى الذين يتمنون الموتالصاعق لتخليصهم من معاناتهم السرمدية، والمرضى الذين لا يجدون سوى التوجع والتفجع ترياقاً لهم.