23 ديسمبر، 2024 5:54 ص

جدل التوحيد والتثليث بين الاسلام والنصرانية

جدل التوحيد والتثليث بين الاسلام والنصرانية

القسم الاول
لقد ثار جدل كبير بين علماء المسلمين والنصارى حول حقيقة التوحيد والتثليث، وكتب الجانبين مملوءة بتاريخ هذا الجدل، ولكن الغريب أن التثليث الذي أنكره الإسلام غير التثليث الذي يعتقده النصارى، وذلك لأن العقيدة التي يعتنقها النصارى – على اختلاف مذاهبهم- هي عقيدة أن الله تعالى كيان ذو ثلاثة أقانيم كل اقنوم منهم اله تام: الأب، والابن، والروح القدس.
وتتمايز هذه الاقانيم فيما بينها، فالآب ليس هو الابن، والروح القدس ليس هو الآب ولا الابن، وكذلك تتميز في الافعال، فالى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، والى الابن الفداء، والى الروح القدس التطهير؛ غير أن الثلاثة واحد لا يتجزأ وكل لا يتبعض يتمتع بكل خصائص الالوهية الممنوحة للاقانيم على حدة.
وكان (منصور بن سرجون بن منصور) الملقب ب ( يوحنا الدمشقي، 700- 754م/81-137هـ) أحد أكبر علماء اللاهوت في الكنيسة الملكانية الخلقدونية (= الأرثوذكسية) أيام الدولة البيزنطية، والكاتب في عهد الخليفتين الامويين يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان؛ دور كبير في تأليف الكتب الخاصة بالجدل النصراني – الاسلامي وتبرير عقيدة التثليث، فألف رسالتين على شكل محاورة بين مسيحي و مسلم في شأن ألوهية المسيح و حرية الإرادة الإنسانية؛ الغرض منها تبرير النصرانية والاستناد إلى أفكارها في مواجهة مفهوم التوحيد. و قد طعن في عقيدة المسلمين و ألف الكتب في الرد عليهم و جادل علماءهم في أمور كثيرة، و كان قد برع في المنطق و الفلسفة اليونانية و اتخذ من هذا المنطق سلاحا يدافع به عن الكنيسة ، وقد فلسف المعارف الإغريقية الوثنية وأخضعها لمفاهيم النصرانية، وجادل المسلمين حول طبيعة المسيح، ووضع للنصارى خطة للبحث و المناظرة في كتابه (الايمان الارثوذكسي) استهلها بقوله :” إذا سألك العربي(= المسلم) ماذا تقول في المسيح فقل إنه كلمة الله ، ثم ليسأل النصراني المسلم بعد ذلك ، بم سمي المسيح في القرآن و ليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجد المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول : كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، فإن أجاب بذلك فاسأله هل كلمة الله و روحه مخلوقة أم غير مخلوقة، فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذا كان ولم يكن له كلمة و لا روح فإن قلت لك فسيفحم العربي لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين”.
ومضى على سلف (يوحنا الدمشقي) تلميذه ثيودور أبو قرة (المتوفى سنة211هـ/826م) اسقف مدينة حران الذي كان يناظر علماء الجدل المسلمين في حضرة الخليفة العباسي المأمون(198-218هـ/814-833م).
وعلى أية حال فقد اختلف علماء النصارى في تفسير هذه الاقانيم على عدة أوجه:
1- فذهب بعضهم الى أنها صفات.
2- وذهب أخرون الى أنها أشخاص.
3- وذهبت طائفة الى أنها مجموعة الجوهر والصفة.
4- وذهبت أخرى الى أنها غير الصفة والعًرًض.
ورأت خامسة أنها ما ليس بكيان عام ولا عرض.
كما اختلف علماؤهم في الافكار التي طرحوها لبيان ماهية التثليث، وعلاقة أفراده بعضهم ببعض، وكيفية التقائهم وصورة اجتماعهم:
1- فالقديس يوحنا الدمشقي يقدم الثالوث أو التثليث باعتباره: ( الجود والحكمة والقدرة).
2- ويتصور تلميذه ثيودور أبو قرة التثليث على أنه: ( الذات والنطق والحياة).
3- أما يحيى بن عدي فيعرفه بأنه: (الجود والحكمة والقدرة)، ثم تتطور نظريته في التثليث حتى يصل الى أطروحته الشهيرة (العقل والعاقل والمعقول).
4- وجمع تلميذه عيسى بن اسحاق بن زرعة بين الاطروحتين.
5- ورأى إيليا مطران نصيبين انه: ( الذات والحياة والحكمة).
6- وطرحه بولس الانطاكي بوصفه: ( الذات والنطق والحياة).
7- وصوره ابن العسال على أنه: ( الحياة والعلم والقدرة).
وكذلك اختلفوا في تمثيل صورة التثليث:
1- فمنهم من يراه: كالشمس وضوئها وحرارتها.
2- ومنهم من يمثله: بالانسان ونطقه وروحه.
في اعتقادي أن أفضل من دحض فكرة التثليث هو فخر الاسلام الرازي (المتوفى سنة606هـ/1210م)، وشيخ الاسلام ابن تيمية (المتوفى سنة728هـ/1328م)؛ ولكن هذا لا يقلل من جهود العلماء الاخرين كالجاحظ المتوفى سنة255هـ/869م، وابوبكر الباقلاني المتوفى سنة403هـ/1012م، وحجة الاسلام الغزالي المتوفى سنة505هـ/1111م، والقرافي المتوفى 684هـ/1285م، وابن القيم الجوزية المتوفى سنة851هـ/1447م وغيرهم.
وكانت مناقشات الإمام فخر الدين الرازي للنصارى تدور في ثلاثة محاور، ومن خلال دراسة تفسيره للآيات المتعلقة بالتثليث، فإنه كان يميز بين هذه الاعتقادات الثلاثة، وكان للفخر الرازي فيها رأي مميز، ورد على عقيدة النصارى، ومن هذه الآيات نجد ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}، [البقرة: 116-177]، فمن هذه الآية يتوجه الرازي إلى نقض بنوة المسيح عليه السلام لله تعالى، وإثبات عبوديته مثل بقية المخلوقات التي ذكرتها الآية، فهو يستعمل الدليل العقلي للبرهان على استحالة أن يكون عيسى ابنا لله تعالى، وذلك من أوجه:
1- دليل الوجوب والإمكان: وذلك ” أن كل ما سوى الموجود الواجب بذاته ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً “. ولتحديد هذا المفهوم أكثر فإن الرازي ذهب إلى الحديث عن استحالة اجتماع موجودين واجبين لذاتهما، فهذا يؤدي إلى اشتراكهما في وجوب الوجود، وهذا يؤدي إلى التركيب، لكن التركيب بينهما يؤدي إلى نقض وجوب الوجود والتحول إلى إمكانية الوجود، وهذا خلف، فالمصير إلى أن كل ما يحتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر، وهذا يقود إلى القول بأن ممكن الوجود محدث، فهو مخلوق.
2- دليل القدم والحدوث: فالولد المضاف إما أن يكون أزليا وإما محدثا، فإن كان أزليا ” لم يكن حكمنا يجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكما مجرداً من غير دليل” ، والحكم من غير دليل هو محض الهوى والتقول، ولا يعتد به. وإن كان الولد محدثا “كان مخلوقا لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له”. وبهذا فإن عيسى محدث باعتراف النصارى أنفسهم، من خلال قولهم بميلاده وموته، فهو مخلوق ولا أزلية له، وبطلت مقولة البنوة لله كما يزعمون.
3- دليل المجانسة: ومضمون هذا الدليل أن ” الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد”، فلو كان لله ولد، لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازا عنه من وجوه أخرى، وهذا يقود إلى القول بأن كل واحد منهما مركب ومحدث وذلك محال، لأن الله غير محدث، والنصارى لا تقول بذلك، بينما عيسى محدث من خلال ميلاده، إذ لم يكن فكان، ومن هنا فإن المجانسة ممتنعة، إذن فالولدية ممتنعة بالتبع.
4- دليل الكمال وعدم العجز: ومعناه ” أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه، ورجاء الانتفاع به، فعلى هذا كان إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة “، غير أن العجز والحاجة والفقر محال في حق الله تعالى، فهو المستغني عن العالمين، والمتصف بصفات الجلال والكمال، ولهذا يورد الرازي الآيات التي احتج به الله سبحانه وتعالى على استغنائه عن الولد، وذلك في قوله تعالى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}،[مريم:34]، وقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إداًّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداًّ، أن دعوا للرحمن ولداً، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} ،[مريم:88-93]. فالله سبحانه وتعالى يشنع على الذين نسبوا له الولد، ويحاججهم بأنه مستغن عن الولد، وأن ذلك محال، ولا ينبغي في حقه جل جلاله، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، وكل من فيهما وكل ما فيهما ملك له سبحانه، فما حاجته للولد، فالأمر أمر ملك وأمر خلق، ولله القدرة على أن يخلق ما يشاء وكيف يشاء، بأن يقول له كن فيكون.( بتصرف من مقالة بدران بن الحسن في مقاله: آراء المفسرين في عقيدة التثليث).