القسم الثاني
ومن جانب آخر فإن شيخ الاسلام ابن تيمية يرد في كتابه القيم ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح): على عقيدة التثليث بقوله:” بأن الأمر ليس كما ادعيتموه أيها النصارى، فإنكم تقولون : إن هذا ( أب وابن وروح قدس)، فكان أصل قولكم هو ما تذكرونه من أنه تلقى من الشرع المنزل، لا أنكم أثبتم الحياة والنطق بمعقولكم، ثم عبرتم عنها بهذه العبارات. ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا وهو مشار إليه، بل ما هو جسم كالإنسان .ولو كان الأمر كذلك ( أي إثبات وجود الله وحياته ونطقه) لما احتجتم إلى هذه العبارة ( أب وابن وروح قدس) ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندكم وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم قدير متكلم، لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبرون عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ الأب والابن وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسرتموها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام أحد من الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكرتموه من المعاني، بل إثبات ما ادعيتموه من التثليث ومن التعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعتموه، لم يدل عليه شرع ولا عقل.
وإذا قال النصارى : إنه إحادى الذات ثلاثي الصفات قيل: لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد وله صفات متعددة لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث.
ووصفهم الأقانيم الثلاثة بأنها جوهر واحد، إنما ينبيء أنها جملة، وليس هذا مما يذهبون إليه، ولا يعتقدونه، ولا يجعلون له معنى، لأنهم لا يعطون حقيقة التثليث، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة، ولا حقيقة التوحيد، فيثبتون القديم واحد ليس باثنين ولا أكثر من ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، فما قالوه هو شئ لا يعقل، ولا يصح اعتقاده ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.
وإذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحد، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة فلا يجدون فصلا .أي هذا الكلام لازم لهم لا ينفصلون عنه.
ويقول النصارى: كل من اعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير، والتبعيض، والتشبيه فنحن نلعنه ونكفره .
فيرد عليهم ابن تيمية مبينا تناقضهم في ذلك، فيقول لهم:” وأنتم أيضا تلعنون من قال : إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق، ولا هو مساو الأب في الجوهر، ومن قال : إنه ليس بخالق، ومن قال إنه ليس بجالس عن يمين أبيه، ومن قال أيضا : إن روح القدس ليس برب حق محيي ومن قال إنه ليس ثلاثة أقانيم” .وتلعنون أيضا مع قولكم : إنه الخالق ، من قال : إنه الأب، والأب هو الخالق، فتلعنون من قال : هو الأب الخالق، ومن قال : ليس هو الخالق، فتجمعون بين النقيضين ” فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر، وتجمعون بذلك بين قولين متناقضين: أحدهما حق، والآخر باطل” .وكل قول يتضمن جمع النقيضين ( إثبات الشيء ونفيه )، أو رفع النقيضين (الإثبات والنفي) فهو باطل .
ومن مظاهر تناقضهم أيضا : زعمهم أن كلمة ( ابن الله ) التي يفسرونها بعلمه أو حكمته، وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته، وأنها صفة له قديمة أزلية، لم يزل ولا يزال موصوفا بها. ويقولون – مع ذلك – أن الكلمة مولودة منه، فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه، وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه، لكن ظهر بذلك بعض متناقضاتهم وضلالهم، فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته، يقال : إنها ابنه وولده ومتولد عنه، ونحو ذلك . فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه، وإن لم يكن كذلك ، فلا يكون علمه ابنه، ولا ولده، ولا متولدا عنه … فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها، ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات، ومخالفون لجميع لغات الآدميين، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم …
ويقول النصارى : الموجود إما جوهر، وإما عرض، فالقائم بذاته هو الجوهر، والقائم بغيره هو العرض .ثم يقولون : إنه مولود حي ناطق، له حياة ونطق .
ويرد عليهم ابن تيمية يقوله : حياته ونطقه إما جوهر وإما عرض. وليس جوهراً، لأن الجوهر ما قام بنفسه، والحياة والنطق لا يقومان بأنفسهما، بل بغيرهما، فهما من الأعراض، فتعين أنه عندهم جوهر تقوم به الأعراض، مع قولهم : إنه جوهر لا يقبل عرضا .وإن قيل أرادوا بقولهم : (لا يقبل عرضا ) ما كان حادثا . قيل : فهذا ينقض تقسيمهم الموجود إلى جوهر وعرض، فإن المعنى القديم يقوم به ليس جوهرا، وليس حادثا ، فإن كان عرضا فقد قام به العرض وقبله، وإن لم يكن عرضا، بطل التقسيم .
فتبين من هذا أنهم يقال لهم : أنتم قلتم :” إنه شئ حي ناطق ، وقلتم : هو ثلاثة أقانيم ، وقلتم: المتحد بالمسيح أقنوم الكلمة، وقلتم في الأمان: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد الولود من الأب قبل كل الدهو، إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر”(= عقيدة مجمع نيقية المسكوني عام325م).
ثم قلتم : أن الرب جوهر لا يقبل عرضا. وقلتم : إن الذي يشغل حيزا أو يقبل عرضا هو الجوهر الكثيف. وأما الجوهر اللطيف فلا يقبل عرضا ولا يشغل حيزا، مثل : جوهر النفس وجوهر العقل، وما يجري في هذا المجرى من الجواهر اللطيفة ، وبعد أن صرحتم بأن الرب جوهر لا يقبل عرضا. قلتم ” ليس في الوجود شئ إلا وهو إما جوهر، وإما عرض، فإن كان قائما بنفسه غير محتاج في وجوده إلى غيره فهو الجوهر، وإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه فهو العرض. فيقال لكم ” الابن القديم الأزلي الموجود من جوهر أبيه ، الذي هو مولود غير مخلوق ، الذي تجسد ونزل هل هو جوهر قائم بنفسه أم هو عرض قائم بغيره ؟.
فإن قلتم : هو جوهر، فقد صرحتم بإثبات جوهرين، الأب جوهر والابن جوهر، ويكون حينئذ أقنوم الحياة جوهراً ثالثاً ، فهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر قائمة بأنفسهما. وحينئذ يبطل قولهم : إنه إله واحد، وإنه إحدى الذات، ثلاثي الصفات، وإنه واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقنوام. إذ كنتم قد صرحتم – على هذا التقدير – بإثبات ثلاثة جواهر .وإن قلتم : بل الابن القديم الأزلي، الذي هو الكلمة التي هي العلم والحكمة، عرض قائم بجوهر الأب، ليس جوهرا ثانيا. فقد صرحتم بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض، وقد أنكرتم هذا في كلامكم، قلتم : هو جوهر لا تقوم به الأعراض، وقلتم : إن من المخلوقات جواهر لا تقوم بها الأعراض، فالخالق أولى، وهذا تناقض بين …
ويعلل شيخ الاسلام ابن تيمية سبب هذا التناقض بقوله :” إنهم يلفقون عقيدتهم من مصادر متعددة، بحيث يبدو فيها وضوح التضارب والتناقض بين أجزائها فيقول : وسبب ذلك أنهم ركبوا لهم اعتقاداً، بعضه من نصوص الأنبياء المحكمة كقولهم: الإله الواحد، وبعضه من متشابه كلامهم، كلفظ الابن وروح القدس، وبعضه من كلام الفلاسفة المشركين المعطلين كقولهم: جوهر لا تقوم به الصفات، فجاءت عقيدتهم ملفقة .( بتصرف من كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح).