17 نوفمبر، 2024 1:42 م
Search
Close this search box.

جحيم الايام / الحلقة الثانية

جحيم الايام / الحلقة الثانية

؟”. تنحنح الرجل وقد تنفس الصعداء بعض الشيء. عدل من وضع البندقية وهو يقول بهدوء:

…” إنها هناك في منطقة الشورجة حيث توجد هناك دبابة أمام مدرسة إبتدائية. المدرسة هي مقر الوحدة العسكرية التي تبحثُ عنها “. شكرهُ صديقي بحرارة مطلقة ثم إعتذر منه فيما إذا كان قد سبب له أي إزعاج . عاد طارق مهرولا نحوي وقد ظهر على وجهه نوعا من السعادة الغامرة . نهضتُ من مكاني وسرتُ صوبه بهدوء. قال بصوت مرتفع نسبياً:

…” ألم أقل لك بأنني سأجد الوحدة العسكرية التي تنتمي اليها؟ فلنذهب الى تلك الناحية. إنها قريبة من هذا المكان”. سرنا جنباً الى جنب. أحسستُ ان هماً كبيراً قد إنزاح عن كاهلي . شعرت أنني أتجه الى بيتي الحقيقي وليس الى وحدة عسكرية في زمن محفوف بالمخاطر . إخترقنا سوقاً جميلاً..كل شيء يدل على هدوء تام وحركة حياة إعتيادية جدا عدا بعض الطرق التي كانت قد خلت من ألأزدحام السكاني. توقفنا عند الدبابة الجاثمة أمام المدرسة ألأبتدائية التي كان الشرطي قد وصفها لنا. كان هناك جندياً بالقرب من الدبابة يدخن سيكارة وهو يتطلع نحونا بعدم اكتراث وحينما سألهُ طارق عن مكان الوحدة العسكرية التي أنتمي اليها..أشار الينا بيده التي كانت تحمل السيكارة دون أن ينبس ببنت شفة. نظر اليَّ طارق وقد ندت عنه زفرة تنفس طويلة كما لو أنه كان قد وصل الى هدفه المنشود بعد صراع طويل . دون أن يشعر بأي ضرب من ضروب التردد توجه الى الغرفة الوحيدة عند المدخل الرئيسي. طرق الباب بهدوء ثم دخل عند سماعه ألأذن بالدخول. قال للضابط الوحيد الذي كان جالساً في الزاوية اليمنى.

…” عفوا سيدي، هل هذا هو مقر الوحدة”…….”؟ نظر الضابط اليه بفضول وهو يتظاهر بالصرامة وعدم المبالاة.:

…” نعم ..تفضل…أنا مساعد ألآمر..الملازم ألأول باسم”.

نظر الي طارق حيث كنت واقفاً عند حافة الباب. حاول صديقي أن يبدو مرحاً بعض الشيء. أراد أن يلطف الجو الكئيب الذي كان قد أسدل ستائرة على مظهر الملازم ألأول:

“…هذا الجندي المكلف، أعتقد أنه أحد جنودكم..جئت معه وكنا نبحث عن هذه الوحدة العسكرية منذ الصباح…لن اذهب من هنا إلا إذا تأكد صديقي من أن هذه الوحدة هي التي كان يبحث عنها”.

تقدمت الى جانب صديقي كي أطمأن الى أن الضابط هو أحد ضباط وحدتي حينما كنا معا في صحراء الكويت. نهض الملازم ألأول وهو يقول بصوت حاول أن يكون من خلاله جديا بعض الشيء.

…” أهلاً ..أهلاً..هل لازلتَ على قيد الحياة؟ الحمد لله على سلامتك. كيف حال البقية الباقية من الجنود؟”. دون وعي تقدمتُ نحوه وصافحته بحراره وأنا اقول:

…” الحمدُ لله على سلامتك ياسيدي. الحقيقة أنني جئت لوحدي. لم أر أي شخص من وحدتنا حتى هذه اللحظة. لقد عانيتُ الكثير الى أن وصلتُ الى بغداد من صحراء الكويت. لم أكن أتصور أنني سوف أعثر على وحدتي أبدأ. بحثنا عنها في كل زاوية من زوايا كركوك وبطريق الصدفة جئنا الى هنا.” بعد ألأنتهاء من مراسيم التحيات والمجاملات توجهنا الى أحد الصفوف الدراسية حيث وجدنا سبعة جنود وقد جلس بعضهم على ألأرض في حين جلس الباقون على مقاعد الدراسه وكأنهم تلاميذ وكل واحد منهم كان منشغلاً بشيء ما. ودعني طارق على أمل أن يعود في يوم أخر حينما يصل الى وحدتة…وحدة القوات الخاصة..

قضيتُ تلك الليلة فرحا جدا لعدة أسباب: أولا أنني كنت قد وصلتُ الى وحدتي سالماً بعد ذلك الطريق الطويل جدا. ثانيا : لقد تم إلان تسريح مواليدي وجئتُ لأتمام أوراق إنهاء الخدمة العسكرية. وثالثا: هذه هي المرة ألأولى التي أزور فيها هذه المحافظة ولحسن الحظ كانت وحدتي تقع في وسط المدينة. هذا سوف يمنحني فرصة جيدة لأكتشاف كل مايتعلق بهذه المدينة الجميلة. سارت ألأيام الثلاثة ألأولى التي قضيتها في تلك المدرسة ألأبتدائية خالية من أي شيء جديد أو مثير. كان عدد الجنود لايزيد على السبعه من مجموع كل اللواء ، ولاادري سبباً لذلك . هل تلاشت أشلاء بعضهم في الصحراء الشاسعة الممتدة بين منطقة المطلاع وبين مدينة البصره من جراء الغارات ألأمريكية التي كانت تشنها الطائرات الوحشية التي لاتميز بين شيء وآخر؟ أم أن صعوبة المواصلات بين المحافظات وتهشم الجسور الممتدة على طول نهري دجلة والفرات هي التي كانت عائقا اساسيا في تاخير وصولهم؟. أما بانسبة لي فقد كانت تلك ألأيام الثلاثة مثيرة نوعاً ما. لقد سمح لنا السيد ألآمر بالتجول داخل ألأسواق والذهاب الى حمام المدينة. جذبتني أسواقها ومحلاتها التجارية وشاي مقاهيها اللذيذ. كانت تلك الزيارات الخاطفة لاتخلو من المخاطر حسب قول السيد ألآمر، لذلك كنا نذهب على شكل مجاميع حاملين السلاح ومتوخين الحذر الشديد. في إحدى المرات قال لنا ألآمر:

..” ذمة في رقابكم ، إذا كنتم تسيرون في السوق وأطلق عيكم أحد المخربين طلقة واحدة..إقتلوا كل من يقع في طريقكم..إجعلوها مجزره حقيقية”. تلك العبارة جعلت الوحشه والرعب تدبان الى أوصالي بصورة جدية لأنني كنت أستبعد حدوث أي شيء من هذا القبيل لأن السوق كان هادئا وحركة المارة طبيعية جدا.

في أمسية اليوم الثالث جاء طارق مرة أخرى كي يطمئن على سلامتي أو هذا ما كنتُ أعتقده..ولكن المسألة كانت مغايره تماما. حينما جلس طارق في المكان المخصص لنومي قال:

…” أنا جائع جدا هل لديك شيئا ما أسد به رمقي؟”. بعد إستضافته وتقديم الشاي له قال بنبرة جديه:

…” إسمع..ساترك الوحدة التي أنتمي اليها واسجل إسمي في وحدتك العسكرية ..سوف أقول لهم بأنني لم أتمكن من العثور على وحدتي العسكرية الخاصة. سأخدم هنا معك لحين إنتهاء خدمتي العسكرية”. ضحكتُ بصوت ضعيف وقلت له:

…” لابد أنك تمزح..هذه واحدة من المزح التي أنت خبير بها”. هنا إلتفت الي وقد ظهر على وجهه نوع غريب من الجدية المطلقة.

…” إسمع..أنا لا أمزح..وسوف افعل ماقلته لك. الوضع خطير جدا هناك وهذه المدينة التي أنت فيها أهدا بكثير وإمكانية إنقاذ النفس أوفر”.

خيم صمت مميت على ذاتي وشعرت أن الوضع أعقد مما كنت أتصوره. على حين غره قلتُ لهُ:

…” إسمع ياصديقي، هذا لايمكن أن يكون..لقد سمعتُ أن البيش مركه سيشنون علينا هجوماً مباغتاً في أيةِ لحظة. هذه المنطقة خطرة جدا وإذا نفذت مايدور في ذهنك ستكون في الدورية الخاصة بالكمائن هذه الليله.”.

حاول طارق أن يقنعني بشتى الوسائل بيد أنني رفضت رفضاً قاطعاً. حينما تركني عائداً نحو المجهول شعرتُ بوحشةٍ لاتطاق .أحسستُ أنني اودعهُ الوداع ألأخير. ذهبت الى زاوية من زوايا المدرسة وجلست وحيداً. أرسلتُ نظراتي الى ألأفق البعيد وبدأت أستعيد ذكريات عديدة كانت تجول في ذاكرتي..إسترجعت فيها طفولتي وصباي حينما كنت التقِ بطارق وبقية ألأصدقاء.

عند حلول الظلام كان الوضع غير طبيعي..ألآمر ينتقل بسيارته الى مناطق مختلفة من المدينة وكأنه يريد أن يطمئن على بقية المواقع العسكرية التي كانت تابعة لنا. في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً جاء زميلي ” أحمد” الحرس في بوابة المدرسة راكضاً نحوي..هز كتفي بعنف وهو يصرخ:

…” إنهضْ..إنهضْ..أنت نائم والجو يحترق! سنموت..لقد أحاطوا بالمدرسة من كافة الجهات.” فركتُ عينيَّ وتطلعتُ اليه برعب قائلاً:

…” ماذا..؟ ماذا..؟ من هم؟”. صرخ مرة أخرى.

…” إستعد..إحمل بندقيتك..هيأ نفسك..سنموت لامحاله”.

دون وعي رحت ألملم ذاتي وأهيأ مُعِداتيْ..وكان ألأرتباك قد سيطر علي تماماً..خرجنا الى ساحة المدرسة. لم يكن هناك سوى ثلاثة جنود. فجأة جاء الملازم – نبيل—وهو من مدينة البصرة. قال:

…” إصعدوا الى سطح المدرسة وإستلقوا هناك على بطونكم..إذا هجموا حاولوا أن تنقذوا أنفسكم بأي طريقة”.وصعد هو ألأخر معنا. إستلقيتُ الى جانب أحمد . فجأة صرخ قائلا:

…” هناك..هناك..إنظر إنهم يتقدمون نحونا بالآلاف”. إستدرتُ الى الخلف حيثُ ساحة المدرسة. شاهدتُ شيئا أسوداً يتحرك أو هذا ماكان قد بدا لي. دون وعي شرعتُ أطلق النار الى الخلف. سحبني بشدة وهويصرخ” سوف تقتلنا جميعا..إذا أطلقتَ النار ستنهال علينا الطلقات من كل حدب وصوب”. إستلقيت الى جانبه وشاهدت شيئا غريبا لم أره في أي هجوم سابق . كانت النساء الكرديات والتركمانيات يصفقن ويزغردن في الشارع والرجال المدججين بالسلاح وهم يطلقون النار علينا وعلى كل وحدة عسكرية هناك. لم نعد نعرف ماذا نفعل. قال أحمد:

…” فلنهبط من الجهة الثانية للمدرسة، سنحاول أن ننقذ أنفسنا.”. كانت مشاعر غريبة تتصارع في ذاكرتي.” ماذا نفعل ؟ عددنا قليل..وأفواج ألأكراد تزداد من كافة ألأتجاهات”. كانت هناك طائرة سمتية واحدة فقط ترسل ضياءها الواضح من إرتفاع قريب . لم تستطع أن تفعل أي شيء. إنهالت عليها الطلقات من جهات مختلفة مما دعاها للهرب بشكل سريع.

كانت بناية المدرسة تتكون من طابقين. ركضت أنا واحمد والملازم نبيل وجعفر وشخص أخر لم أعرف إسمه متجهين الى الجهة البعيدة من سطح المدرسة. نظرتُ الى ألأرض. ياالهي كيف يمكن أن نقفز من ذلك السطح الشاهق ألأرتفاع.؟ القفز معناه الموت ألأكيد. صرخ أحمد:

…” فلنقفز….سنموت بعد لحظات هنا”.دون وعي علقت بندقيتي في كتفي والتصقت في الحافة الحادة للسطح العالي . لم أستطع أن أفك يدي. فكرت مع نفسي…” سأموت فورا إذا سقطتُ على ألأرض المبلطه بالأسمنت”.بَيْدَ أن صرخات أحمد الهيستيرية جعلتني أفتح قبضتي. شعرتُ بالهواء البارد يرتطم بجسدي أثناء الطيران في الهواء. أحسست أن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي ليخرج الى الفضاء الفسيح. عند لحظة إرتطامي في ألأرض كان جسد أحمد قد تكوم فوق كتفي. سقطت نظارتي الطبية وسحقها أحمد بحذائه العسكري فتحولت الى قطع صغيرة من الزجاج. تركتها على ألأرض مهشمه. حاولتُ النهوض إلا أنني لم أستطع . كان ألألم شديداً لايحتمل . سحبني أحمد بقوه وهو يصرخ:

…” إنهض..إنهض..سوف يقطعوننا الى قطع صغيرة، فلنختبيء خلف تلك الصفوف الدراسية القريبة من ذلك الجدار.” ركضتُ خلفه وألألم يكاد يُمزق ظهري. شعرتُ أن العمود الفقري يكاد ينفصل عن جسدي بَيْدَ أن شدة التشبث بالحياة أعطتني طاقة إضافية للتخلص من ذلك المكان واللجوء الى مكان أمين .

عندما جلسنا خلف تلك الصفوف الدراسية كانت السماء قد شرعت ترسل أمطارها الغزيرة جدا وكانت ألأرض موحله جداً. شعرتُ بالمياه تنسل من خلال ملابسي العسكرية فتستقر في داخل جسدي. كانت أجسادنا ملاصقة لبعضنا البعض . بقينا على هذه الحالة أكثر من ساعة. كانت أفواج ألأكراد قد دخلت المدرسة وأستقرت داخل الغرفة المخصصة لأدارة المدرسة…وجاءت رائحة الدخان من جراء إضرام النار في كل قطعة آثاث داخل الصفوف. إزدادت الطلقات النارية بشكل مرعب وشعرتُ أن الموت قد أصبح على بُعد خطوات منا. لحظات عصيبة جدا. تمنيتُ أن تنفذ عدة طلقات قلبي كي أتخلص من ذلك ألاضطراب النفسي الذي كان قد سيطر على كل عصب من أعصابي . دون وعي مد أحمد يدهُ ومسك يدي وهو يقول بهلع تام:

…” إمسكني جيدا..فلنمت معا..إنها النهاية..”. جاءت صور من الحياة التي كنت قد عشتها منذ طفولتي حتى لحظة ألأحتظار تلك. جاءت صور متفرقة من المدرسة ألأبتدائية حتى لحظة تخرجي من الكلية..لمحات من خدمتي في الجيش..أحلامي الكثيرة التي كانت تراودني في الزمن الماضي..وفي النهاية قلت لنفسي:

…” سأفكر بأطفالي الثلاثة الصغار قبل أن ألفظ أنفاسي ألأخيرة. تخيلتهم كيف ينامون مع والدتهم في غرفة واحدة؟ وكيف أن زوجتي كانت تُرضع طفلتي الصغيرة. ياالهي كيف ستتحمل زوجتي نبأ موتي؟ كيف ستربي أبنائي؟ ومن أين ستنفق عليهم؟. لم أترك لها سوى عشرة دنانير..ومادا ستفعل بهذه الورقة الصغيرة في أمواج الحياة الصعبة؟ سالت دموع حاره غسلت خدي الملتهب حرارة وإضطراب، وفي النهاية حاولتُ أن أطرد تلك الصورة المؤلمة وأفكر بواقعية الظروف المحيطه بي..وهل ستدوم سلسلة الحياة هنا أم سيتقطع جسدي الى أجزاء متناثرة كما حدث لبعض من أصدقائي في صحراء الكويت من جراء الغارات المرعبة لتلك الغربان السوداء التي تعود الى القوات ألأمريكية والدول المتحالفة معها؟؟……..

يتبع —–

جحيم الايام / الحلقة الثانية
؟”. تنحنح الرجل وقد تنفس الصعداء بعض الشيء. عدل من وضع البندقية وهو يقول بهدوء:

…” إنها هناك في منطقة الشورجة حيث توجد هناك دبابة أمام مدرسة إبتدائية. المدرسة هي مقر الوحدة العسكرية التي تبحثُ عنها “. شكرهُ صديقي بحرارة مطلقة ثم إعتذر منه فيما إذا كان قد سبب له أي إزعاج . عاد طارق مهرولا نحوي وقد ظهر على وجهه نوعا من السعادة الغامرة . نهضتُ من مكاني وسرتُ صوبه بهدوء. قال بصوت مرتفع نسبياً:

…” ألم أقل لك بأنني سأجد الوحدة العسكرية التي تنتمي اليها؟ فلنذهب الى تلك الناحية. إنها قريبة من هذا المكان”. سرنا جنباً الى جنب. أحسستُ ان هماً كبيراً قد إنزاح عن كاهلي . شعرت أنني أتجه الى بيتي الحقيقي وليس الى وحدة عسكرية في زمن محفوف بالمخاطر . إخترقنا سوقاً جميلاً..كل شيء يدل على هدوء تام وحركة حياة إعتيادية جدا عدا بعض الطرق التي كانت قد خلت من ألأزدحام السكاني. توقفنا عند الدبابة الجاثمة أمام المدرسة ألأبتدائية التي كان الشرطي قد وصفها لنا. كان هناك جندياً بالقرب من الدبابة يدخن سيكارة وهو يتطلع نحونا بعدم اكتراث وحينما سألهُ طارق عن مكان الوحدة العسكرية التي أنتمي اليها..أشار الينا بيده التي كانت تحمل السيكارة دون أن ينبس ببنت شفة. نظر اليَّ طارق وقد ندت عنه زفرة تنفس طويلة كما لو أنه كان قد وصل الى هدفه المنشود بعد صراع طويل . دون أن يشعر بأي ضرب من ضروب التردد توجه الى الغرفة الوحيدة عند المدخل الرئيسي. طرق الباب بهدوء ثم دخل عند سماعه ألأذن بالدخول. قال للضابط الوحيد الذي كان جالساً في الزاوية اليمنى.

…” عفوا سيدي، هل هذا هو مقر الوحدة”…….”؟ نظر الضابط اليه بفضول وهو يتظاهر بالصرامة وعدم المبالاة.:

…” نعم ..تفضل…أنا مساعد ألآمر..الملازم ألأول باسم”.

نظر الي طارق حيث كنت واقفاً عند حافة الباب. حاول صديقي أن يبدو مرحاً بعض الشيء. أراد أن يلطف الجو الكئيب الذي كان قد أسدل ستائرة على مظهر الملازم ألأول:

“…هذا الجندي المكلف، أعتقد أنه أحد جنودكم..جئت معه وكنا نبحث عن هذه الوحدة العسكرية منذ الصباح…لن اذهب من هنا إلا إذا تأكد صديقي من أن هذه الوحدة هي التي كان يبحث عنها”.

تقدمت الى جانب صديقي كي أطمأن الى أن الضابط هو أحد ضباط وحدتي حينما كنا معا في صحراء الكويت. نهض الملازم ألأول وهو يقول بصوت حاول أن يكون من خلاله جديا بعض الشيء.

…” أهلاً ..أهلاً..هل لازلتَ على قيد الحياة؟ الحمد لله على سلامتك. كيف حال البقية الباقية من الجنود؟”. دون وعي تقدمتُ نحوه وصافحته بحراره وأنا اقول:

…” الحمدُ لله على سلامتك ياسيدي. الحقيقة أنني جئت لوحدي. لم أر أي شخص من وحدتنا حتى هذه اللحظة. لقد عانيتُ الكثير الى أن وصلتُ الى بغداد من صحراء الكويت. لم أكن أتصور أنني سوف أعثر على وحدتي أبدأ. بحثنا عنها في كل زاوية من زوايا كركوك وبطريق الصدفة جئنا الى هنا.” بعد ألأنتهاء من مراسيم التحيات والمجاملات توجهنا الى أحد الصفوف الدراسية حيث وجدنا سبعة جنود وقد جلس بعضهم على ألأرض في حين جلس الباقون على مقاعد الدراسه وكأنهم تلاميذ وكل واحد منهم كان منشغلاً بشيء ما. ودعني طارق على أمل أن يعود في يوم أخر حينما يصل الى وحدتة…وحدة القوات الخاصة..

قضيتُ تلك الليلة فرحا جدا لعدة أسباب: أولا أنني كنت قد وصلتُ الى وحدتي سالماً بعد ذلك الطريق الطويل جدا. ثانيا : لقد تم إلان تسريح مواليدي وجئتُ لأتمام أوراق إنهاء الخدمة العسكرية. وثالثا: هذه هي المرة ألأولى التي أزور فيها هذه المحافظة ولحسن الحظ كانت وحدتي تقع في وسط المدينة. هذا سوف يمنحني فرصة جيدة لأكتشاف كل مايتعلق بهذه المدينة الجميلة. سارت ألأيام الثلاثة ألأولى التي قضيتها في تلك المدرسة ألأبتدائية خالية من أي شيء جديد أو مثير. كان عدد الجنود لايزيد على السبعه من مجموع كل اللواء ، ولاادري سبباً لذلك . هل تلاشت أشلاء بعضهم في الصحراء الشاسعة الممتدة بين منطقة المطلاع وبين مدينة البصره من جراء الغارات ألأمريكية التي كانت تشنها الطائرات الوحشية التي لاتميز بين شيء وآخر؟ أم أن صعوبة المواصلات بين المحافظات وتهشم الجسور الممتدة على طول نهري دجلة والفرات هي التي كانت عائقا اساسيا في تاخير وصولهم؟. أما بانسبة لي فقد كانت تلك ألأيام الثلاثة مثيرة نوعاً ما. لقد سمح لنا السيد ألآمر بالتجول داخل ألأسواق والذهاب الى حمام المدينة. جذبتني أسواقها ومحلاتها التجارية وشاي مقاهيها اللذيذ. كانت تلك الزيارات الخاطفة لاتخلو من المخاطر حسب قول السيد ألآمر، لذلك كنا نذهب على شكل مجاميع حاملين السلاح ومتوخين الحذر الشديد. في إحدى المرات قال لنا ألآمر:

..” ذمة في رقابكم ، إذا كنتم تسيرون في السوق وأطلق عيكم أحد المخربين طلقة واحدة..إقتلوا كل من يقع في طريقكم..إجعلوها مجزره حقيقية”. تلك العبارة جعلت الوحشه والرعب تدبان الى أوصالي بصورة جدية لأنني كنت أستبعد حدوث أي شيء من هذا القبيل لأن السوق كان هادئا وحركة المارة طبيعية جدا.

في أمسية اليوم الثالث جاء طارق مرة أخرى كي يطمئن على سلامتي أو هذا ما كنتُ أعتقده..ولكن المسألة كانت مغايره تماما. حينما جلس طارق في المكان المخصص لنومي قال:

…” أنا جائع جدا هل لديك شيئا ما أسد به رمقي؟”. بعد إستضافته وتقديم الشاي له قال بنبرة جديه:

…” إسمع..ساترك الوحدة التي أنتمي اليها واسجل إسمي في وحدتك العسكرية ..سوف أقول لهم بأنني لم أتمكن من العثور على وحدتي العسكرية الخاصة. سأخدم هنا معك لحين إنتهاء خدمتي العسكرية”. ضحكتُ بصوت ضعيف وقلت له:

…” لابد أنك تمزح..هذه واحدة من المزح التي أنت خبير بها”. هنا إلتفت الي وقد ظهر على وجهه نوع غريب من الجدية المطلقة.

…” إسمع..أنا لا أمزح..وسوف افعل ماقلته لك. الوضع خطير جدا هناك وهذه المدينة التي أنت فيها أهدا بكثير وإمكانية إنقاذ النفس أوفر”.

خيم صمت مميت على ذاتي وشعرت أن الوضع أعقد مما كنت أتصوره. على حين غره قلتُ لهُ:

…” إسمع ياصديقي، هذا لايمكن أن يكون..لقد سمعتُ أن البيش مركه سيشنون علينا هجوماً مباغتاً في أيةِ لحظة. هذه المنطقة خطرة جدا وإذا نفذت مايدور في ذهنك ستكون في الدورية الخاصة بالكمائن هذه الليله.”.

حاول طارق أن يقنعني بشتى الوسائل بيد أنني رفضت رفضاً قاطعاً. حينما تركني عائداً نحو المجهول شعرتُ بوحشةٍ لاتطاق .أحسستُ أنني اودعهُ الوداع ألأخير. ذهبت الى زاوية من زوايا المدرسة وجلست وحيداً. أرسلتُ نظراتي الى ألأفق البعيد وبدأت أستعيد ذكريات عديدة كانت تجول في ذاكرتي..إسترجعت فيها طفولتي وصباي حينما كنت التقِ بطارق وبقية ألأصدقاء.

عند حلول الظلام كان الوضع غير طبيعي..ألآمر ينتقل بسيارته الى مناطق مختلفة من المدينة وكأنه يريد أن يطمئن على بقية المواقع العسكرية التي كانت تابعة لنا. في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً جاء زميلي ” أحمد” الحرس في بوابة المدرسة راكضاً نحوي..هز كتفي بعنف وهو يصرخ:

…” إنهضْ..إنهضْ..أنت نائم والجو يحترق! سنموت..لقد أحاطوا بالمدرسة من كافة الجهات.” فركتُ عينيَّ وتطلعتُ اليه برعب قائلاً:

…” ماذا..؟ ماذا..؟ من هم؟”. صرخ مرة أخرى.

…” إستعد..إحمل بندقيتك..هيأ نفسك..سنموت لامحاله”.

دون وعي رحت ألملم ذاتي وأهيأ مُعِداتيْ..وكان ألأرتباك قد سيطر علي تماماً..خرجنا الى ساحة المدرسة. لم يكن هناك سوى ثلاثة جنود. فجأة جاء الملازم – نبيل—وهو من مدينة البصرة. قال:

…” إصعدوا الى سطح المدرسة وإستلقوا هناك على بطونكم..إذا هجموا حاولوا أن تنقذوا أنفسكم بأي طريقة”.وصعد هو ألأخر معنا. إستلقيتُ الى جانب أحمد . فجأة صرخ قائلا:

…” هناك..هناك..إنظر إنهم يتقدمون نحونا بالآلاف”. إستدرتُ الى الخلف حيثُ ساحة المدرسة. شاهدتُ شيئا أسوداً يتحرك أو هذا ماكان قد بدا لي. دون وعي شرعتُ أطلق النار الى الخلف. سحبني بشدة وهويصرخ” سوف تقتلنا جميعا..إذا أطلقتَ النار ستنهال علينا الطلقات من كل حدب وصوب”. إستلقيت الى جانبه وشاهدت شيئا غريبا لم أره في أي هجوم سابق . كانت النساء الكرديات والتركمانيات يصفقن ويزغردن في الشارع والرجال المدججين بالسلاح وهم يطلقون النار علينا وعلى كل وحدة عسكرية هناك. لم نعد نعرف ماذا نفعل. قال أحمد:

…” فلنهبط من الجهة الثانية للمدرسة، سنحاول أن ننقذ أنفسنا.”. كانت مشاعر غريبة تتصارع في ذاكرتي.” ماذا نفعل ؟ عددنا قليل..وأفواج ألأكراد تزداد من كافة ألأتجاهات”. كانت هناك طائرة سمتية واحدة فقط ترسل ضياءها الواضح من إرتفاع قريب . لم تستطع أن تفعل أي شيء. إنهالت عليها الطلقات من جهات مختلفة مما دعاها للهرب بشكل سريع.

كانت بناية المدرسة تتكون من طابقين. ركضت أنا واحمد والملازم نبيل وجعفر وشخص أخر لم أعرف إسمه متجهين الى الجهة البعيدة من سطح المدرسة. نظرتُ الى ألأرض. ياالهي كيف يمكن أن نقفز من ذلك السطح الشاهق ألأرتفاع.؟ القفز معناه الموت ألأكيد. صرخ أحمد:

…” فلنقفز….سنموت بعد لحظات هنا”.دون وعي علقت بندقيتي في كتفي والتصقت في الحافة الحادة للسطح العالي . لم أستطع أن أفك يدي. فكرت مع نفسي…” سأموت فورا إذا سقطتُ على ألأرض المبلطه بالأسمنت”.بَيْدَ أن صرخات أحمد الهيستيرية جعلتني أفتح قبضتي. شعرتُ بالهواء البارد يرتطم بجسدي أثناء الطيران في الهواء. أحسست أن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي ليخرج الى الفضاء الفسيح. عند لحظة إرتطامي في ألأرض كان جسد أحمد قد تكوم فوق كتفي. سقطت نظارتي الطبية وسحقها أحمد بحذائه العسكري فتحولت الى قطع صغيرة من الزجاج. تركتها على ألأرض مهشمه. حاولتُ النهوض إلا أنني لم أستطع . كان ألألم شديداً لايحتمل . سحبني أحمد بقوه وهو يصرخ:

…” إنهض..إنهض..سوف يقطعوننا الى قطع صغيرة، فلنختبيء خلف تلك الصفوف الدراسية القريبة من ذلك الجدار.” ركضتُ خلفه وألألم يكاد يُمزق ظهري. شعرتُ أن العمود الفقري يكاد ينفصل عن جسدي بَيْدَ أن شدة التشبث بالحياة أعطتني طاقة إضافية للتخلص من ذلك المكان واللجوء الى مكان أمين .

عندما جلسنا خلف تلك الصفوف الدراسية كانت السماء قد شرعت ترسل أمطارها الغزيرة جدا وكانت ألأرض موحله جداً. شعرتُ بالمياه تنسل من خلال ملابسي العسكرية فتستقر في داخل جسدي. كانت أجسادنا ملاصقة لبعضنا البعض . بقينا على هذه الحالة أكثر من ساعة. كانت أفواج ألأكراد قد دخلت المدرسة وأستقرت داخل الغرفة المخصصة لأدارة المدرسة…وجاءت رائحة الدخان من جراء إضرام النار في كل قطعة آثاث داخل الصفوف. إزدادت الطلقات النارية بشكل مرعب وشعرتُ أن الموت قد أصبح على بُعد خطوات منا. لحظات عصيبة جدا. تمنيتُ أن تنفذ عدة طلقات قلبي كي أتخلص من ذلك ألاضطراب النفسي الذي كان قد سيطر على كل عصب من أعصابي . دون وعي مد أحمد يدهُ ومسك يدي وهو يقول بهلع تام:

…” إمسكني جيدا..فلنمت معا..إنها النهاية..”. جاءت صور من الحياة التي كنت قد عشتها منذ طفولتي حتى لحظة ألأحتظار تلك. جاءت صور متفرقة من المدرسة ألأبتدائية حتى لحظة تخرجي من الكلية..لمحات من خدمتي في الجيش..أحلامي الكثيرة التي كانت تراودني في الزمن الماضي..وفي النهاية قلت لنفسي:

…” سأفكر بأطفالي الثلاثة الصغار قبل أن ألفظ أنفاسي ألأخيرة. تخيلتهم كيف ينامون مع والدتهم في غرفة واحدة؟ وكيف أن زوجتي كانت تُرضع طفلتي الصغيرة. ياالهي كيف ستتحمل زوجتي نبأ موتي؟ كيف ستربي أبنائي؟ ومن أين ستنفق عليهم؟. لم أترك لها سوى عشرة دنانير..ومادا ستفعل بهذه الورقة الصغيرة في أمواج الحياة الصعبة؟ سالت دموع حاره غسلت خدي الملتهب حرارة وإضطراب، وفي النهاية حاولتُ أن أطرد تلك الصورة المؤلمة وأفكر بواقعية الظروف المحيطه بي..وهل ستدوم سلسلة الحياة هنا أم سيتقطع جسدي الى أجزاء متناثرة كما حدث لبعض من أصدقائي في صحراء الكويت من جراء الغارات المرعبة لتلك الغربان السوداء التي تعود الى القوات ألأمريكية والدول المتحالفة معها؟؟……..

يتبع —–

أحدث المقالات