23 ديسمبر، 2024 6:30 ص

جحيم الأيام / الحلقة العشرون

جحيم الأيام / الحلقة العشرون

إزدادت صداقتي معه لدرجة أنني إنقطعتُ عن السير مع أي شخص سوى سطام ـ الذي جاء الحديث عنه سابقاً ـ بدأ سطام يغار قليلاً من عمر حينما يراني أجلس معه ساعات طويلة أحدثه عن قصص كثيرة باللغة الأنجليزية.كان سطام يقول له ” ماهذه الجلسات الطويلة مع الأستاذ؟ أنت تضيع وقتك سدى ، يجب أن تقرأ وتكتب بدلاً من الجلوس والخوض في مواضيع لافائدة منها”. كان عمر يضحك ويقول له بسعادة ملحوظة ” أنا حر في تضييع وقتي مع الأستاذ. ومن قال لك أني أهدر وقتي سدى؟ كل جلسة مع الأستاذ هي بمثابة دروس ومحاضرات لاتنتهي”.كان هناك شخصان يتكلمان الإنجليزية مثلي ،الشخص الأول شاب من مدينة الموصل كان قد تخرج من كلية اللغات في الموصل وخدم برتية ملازم مجند. شخص يعجز الإنسان عن وصف أخلاقه العالية وتربيتة تدل على أنهُ من عائلة لامثيل لها في إخراج إنسان على شاكلته. والشخص الآخر هو أبو فيروز الذي مر الحديث عنه.

في يومٍ من الأيام طلب منه سطام أن يُدرسهُ جزءاً من المعلومات التي يملكها عن مادة اللغة الإنجليزية إلا أن “ماهر” قال له” لماذا لا تنتبه لدينك؟ لماذا لاتقرأ القرآن بدلاً من الإهتمام بهذه اللغة اللعينة؟”جاءني سطام أحمر الوجه خجلاً وقال لي”ماذا يتصور نفسه …هل هو مصلح ديني ؟ لماذا يحدثني هكذا؟ يتصور أنه الرجل الوحيد الذي يعرف الله. لن أتحدث معه حول هذا الموضوع أبداً”. الحق يُقال أن ماهر من الشباب النادرين في هذا العالم المليء بالحقد والغش والخداع في جوانب متعددة. ماهر مؤدب جداً ويخاف الله إلى أبعد الحدود ولا أعتقد أنه تخاصم مع أي شخص طيلة وجودهُ معنا. لقد حدثت له حادثه جعلته يفقد الثقة بكل شيء وخصوصاً فيما يتعلق بالدراسة. كان ضابطاً مجنداً وقدم أوراقه لدراسة الماجستير وحينما ذهب إلى الجامعة وجد أن الدراسة قد مضى عليها عدة شهور, حقد عليهم وعلى تأخرهم في إرسال إشعار له كي يأتي للدراسة. ترك دراسة الماجستير وعاد إلى الجيش . قال له أبو فيروز ” أنت مطالب أمام الله بتعليم هذه اللغة إلى أي شخص يسألك لأن زكاة العلم نشره.أنت مسؤول عن هذا والأمر متروك لك “. بدأ يعطي دروساً بسيطة لبعض الطلبة ولكنه لم يستمر طويلاً في ذلك.

عزيزي القاريء الكريم ، كما أسلفتُ سابقاً أن الحديث عن الأزمنة الصعبة التي يعيشها الأسير مع زملائهِ في قبور الأحياء لا تعد ولا تحصى ولكن سأذكر حادثة من هنا وأخرى من هناك كلما جاءت إلى ذهني المرهق. من المتعارف عليهِ هناك أن كل شخص يأكل مع شخص آخر يتشاركان في السراء والضراء في كل شيء ما عداي ، أنا لا أطيق الإقتراب من أي أحد في مسألة الأكل لعدة أسباب ذكرتُ بعضاً منها سابقاً ولكن لاباس في التكرار السريع منها التقيّد مع من تأكل والمجاملات المرهقة للأعصاب وغير ذلك.ولكن مع كل ذلك وجدتُ نفسي آكل وأشرب مع شخص يحمل صفات جيدة وأخرى غير ذلك. إ

استمريتُ معهُ فترة غير قصيرة تخللتها أحداث متنوعة سأحاول أن أُلقي الضوء عليها لأنهُ كان دائماً يقول لي بأنني سوف أنساه حينما نعود إلى أرض الوطن وبأنه سوف يبقى مجرد ذكرى في تجاويف عقلي اللاواعي.أكدتُ له بأنني سأبقى أتذكرهُ مادمتُ على قيد الحياة.هو( أبو هوبي). شخص ورع يخاف الله جميل الصورة متوسط القامة كان قد تخرج من الكلية العسكرية.حفظ القرآن كله . كان سريري قريباً منه – الطابق الثالث – ودون سابق إنذار راح يتقرب مني ويدعونني للجلوس على سريرهِ ويقول لي دائماً ” لماذا تتسلق كل هذا الإرتفاع لغرض تناول كمية قليلة من الرز؟ إجلس هنا معي وعندما تريد النوم تستطيع الذهاب”.

تعودتُ عليهِ شيئاً فشيئاً ورحنا نجلس ساعاتٍ طويلة مع بعض نتسامر فيها عن أشياءٍ كثيرة. أحسن شيء فيه كان النظافة والترتيب. كان أنظف شخص في المكان على الإطلاق. يمتلك من الحرف الشيء الكثير.أفضل شيئاً يجيدهُ الخياطة بالإبرة.يبقى ساعاتٍ طويلة يجلس على سريرهِ يخيطُ قميصاً لفلان وبدلة لفلانٍ آخر. كان قد قدم لي خدماتٍ كثيرة في هذا المجال. كان بمثابة الأخ لي في أشياء كثيرة حقاً. حينما كنتُ أجلس أمامهُ وقت تناول الطعام يدقق النظر إلى ملابسي وعندما يجد شيئاً ناقصاً يصرخ بأخوّه نادره ” ماهذا ياصديقي؟ إنزع هذه البدله فوراً”. دون أن ينتظر مني جواباً يقفز إلى حقيبتهِ التي صنعها بيدهِ من أكياس الطحين…حقيبة نادره لا أحد يستطيع أن يصنع مثلها أبداً في ذلك المكان. يُخرج بدلة نظيفة ويقول لي ” إرتدِ هذه البدلة النظيفة وأعطني بدلتك الممزقة كي أخيطها لك”. بعد فترة زمنية قياسية استلم منه بدلة من نوع آخر.احياناً اقبّله قبله أخوية صادقة يبتسم ويقول ” هل هذه القبلة من قلبك أم مجرد نفاق اجتماعي؟” . كان قد إرتاح لي لسبب أنا أعتبرهُ بسيط جداً ولكنه كان يؤكد لي بأنه سبب كبير جداً بالنسبةِ له. في أحد الأيام كان قد تخاصم مع أحد الأشخاص وقررت إدارة المعسكر سجنهُ لمدة ثلاثة أيام في زنزانة انفرادية وطلب منه الجندي المكلف بنقلهِ إلى الزنزانة أن يجلب معه بطانية واحدة. بحث عن بطانية من بطانياته فلم يجد واحدة مناسبة لأنه كان قد خيط بطانياته مع بعض لدرجة لايمكن فصلها عن بعض. راح يصرخ بصوتٍ مرتفع”أريد بطانية..أريد بطانية “. كان الآخرون ينظرون إليهِ ويسمعون استنجادهِ ولكن دون جدوى. كل واحد يعرف سلفاً أنه إذا أعطاه بطانية فسيعود بها قذرة جدا لأنه سيفرشها على الأرض داخل الزنزانة والمكان هناك قذر جداً ومليء بالبول والقاذورات والحشرات.

حينما شاهدته يقلب نظراتهِ ذات اليمين وذات الشمال بانكسارٍ وإندحار لم أعد أتحمل الوضع المزري الذي كان يمر فيهِ. دون وعي – كورت – بطانيتي وقذفتُ بها إليهِ من الطابق العلوي وكانت البطانية التي أتغطى بها. في اللحظة التي أمسك بها نظر إليّ بعينين حمراويتين وهو يقول ” أنت شريف.. حقاً أنت شريف “. كان ينظر إلى الوراء نحوي وهو يغادر القاعة المكتظة بالبؤساء. عاد بعد ثلاثة أيام وقد ظهر على وجههِ شحوب كبير. في اللحظةِ التي أعاد فيها البطانية لي كان يقول لي ” كنتُ أصلي من أجلك وأدعوا لك بالخير والسلامة كل وقت من أوقات الصلاة…لا أدري كيف أعيد لك ذلك الجميل الذي أعتبرهُ أمانة في عنقي وإن شاء الله سوف لن أنساك”. كانت حادثة البطانية قد قربته مني ومن خلالها كنت قد اكتسبتُ إنسانا رائعاً. كان أبناء منطقتهِ ينفرون منه لسبب واحد وهو أنه عصبي المزاج ويتخاصم مع أي شخص بسهولة عندما يشعر أن حقهُ مغبون وأن أحداً يحاول الانتقاص منه. شخص رحيم القلب كريم النفس إذا طلب منه شخص ما أي شيء لايعرف كلمة – لا –.

مهما اشتدت أزمة السجائر فأن سجائرهُ لاتنفذ أبداً. يعرف كيف يبرمج طريقة تدخينه. كان يقول لي:(دائماً يجب تهيئة خط ثانٍ وثالث فعندما ينتهي الخط الأول يجب أن يكون هناك البديل”. إذا أردتُ الحديث عن هذا الإنسان فأنني أحتاج إلى مئات الصفحات لتغطية الأحداث التي مرت بنا سوية. في يومٍ ما وبينما كنتُ جالساً على سريرهِ بعد إنتهاء شاي ما بعد الغداء صرخ الأرشد العراقي بأنه يريد عشرون شخصاً للعمل خارج السجن حيث توجد شاحنه كبيرة محملة بأكياس الطحين خاصة بمعسكرات الأسرى . صرخ أبو هوبي ” إذهب هذه فرصة ذهبية ربما نحصل على قليل من الطحين..سأعمل لك حلاوة رهيبة كل صباح”. كان الطقس بارداً جداً والثلوج تغطي الأرض برداءٍ ناصع البياض. بسرعة البرق قفز صديقي ونادى على الأرشد العراقي كي يسجل إسمي( بالمناسبة هو لا يستطيع العمل كعملٍ من هذا النوع لأنه مصاب بالصرع) . كان يقول لي عند البوابة الخارجية ” لاتخف إن الله معك. إجلب لنا قليلاً من الطحين ..ألا تعلم أن الطحين هنا يعادل الذهب؟” . سرنا بشكل منتظم فوق الأرض الثلجية. كنت أشعر بالبرودة تتسلل إلى أقدامي من خلال الشبشب البلاستيكي. أعاد لي موقع العمل أشجاناً وآلاماً نفسية لا تطاق فقد كان نفس المكان الذي عشتُ فيه قبل ثمانِ سنوات. كان المكان مرتفع يتكون من قاعة شاهقة الارتفاع والباب يرتفع عن ألارض أكثر من متر.

وقفتْ شاحنة ضخمة بالقرب من المدخل الرئيسي وهي محملة بأطنان من أكياس الطحين . صدرتْ التعليمات بأن يحمل كل شخص كيس طحين على ظهرهِ ويدخلهُ إلى القاعةِ الضخمة. كانت الاكياس العشرة الأولى قد أحدثت تعباً شديداً لي ولكن بعد ذلك شعرتُ أن جسدي قد تخدر وتحجر. بدأ العرق يتصبب من أجسادنا رغم قساوة البرد الثلجي. إضطر بعض الزملاء إلى خلع ملابسهم الخارجية والبقاء في الملابس الداخلية. كانت معركة حقيقية من أجل حفنة من الطحين. عندما تمت العملية وزعوا لنا ” كاستين من الطحين” لكل واحد إضافة إلى خمسة سجائر لكل شخص. خمس سجائر فلتر كانت بالنسبةِ لي بمثابة الحصول على خمسة كيلوات من الذهب. عدنا إلى المعسكر وعادت ملابسنا معنا وكأنها صُبِغَتْ باللون الأبيض.تجمع البؤساء من الزملاء قرب الباب الحديدي ينظرون إلينا بشفقة وحسد في نفس الوقت. بشفقه لأننا كنا مرهقين جداً وملابسنا قذرة وبحسد لأننا نملك قليلاً من الطحين. استقبلني أبو هوبي كما يستقبل الأب إبنه العائد من إحدى الدول البعيدة بعد سنواتٍ طويلةٍ من الإغتراب. أخذ من يدي الطحين وأخفاهُ في مكانٍ أمين. دون أن أطلب منه شيء حمل سطلاً من الماء البارد جداً وركض أمامي نحو الحمام وهو يصرخ ” استعجل قبل الآخرين سيحجزون الحمامات…لقد حجزتُ لك أحد الحمامات.” ركضتُ خلفه كما يركض طفل صغير خلف أبيه. كان وقع الماء البارد على جسدي كالسكين الحادة. بعد الحمام جلستُ على فراشهِ أرتجفُ من البرد….غطاني بواحدة من بطانياته.

كان ينظر نحوي بانكسار وحزن شديد وهو يردد”المعذره يا أخي العزيز لقد أجبرتك للاشتراك بهذا العمل ، سمعتُ أنكم تعبتم جداً لاتهتم سيفرجها الله علينا.جاء بعض الأشخاص غير المدخنين وهم يحملون عددا كبيراً من السجائر التي خزنوها لمثلِ هذه الحالات وطلب أحدهم مني أن يقايضني بالطحين مقابل السجائر. أشرتُ اليه أن يتفاهم مع صديقي لأنه مسؤول المواد الغذائية. صرخ صديقي ” إبتعد من هنا وإلا كسرتُ رأسك لن نبيع هذا الطحين بأي ثمن” . في اليوم التالي عمل لنا – أبو هوبي – حلاوة- لابأس بها بعد أن عانى الشيء الكثير أثناء تحميص الطحين على النار المخصصة لصنع الشاي. كان أبو هوبي المنقذ الوحيد لي في أشياء كثيرة، مثلاً عندما أكون في حاجةٍ ماسة إلى قلم ودفتر فأنه يعمل المستحيل لتوفير ذلك. كان سنداً لي في بيت الأموات.عندما كان يُصاب بنوبة صرع فأن أبناء منطقتهِ يأتون إليَّ راكضين وهم يقولون”صديقك جاءته الحاله”، كنتُ أغسل ملابسه وأرفع القيء الذي يسقط عليه أو على المنشفة. كان الباقوون يتقززون من مشهد – القيء- ولكنني كنتُ أنظف المنشفة دون أن أهتم لذلك. كان يحترمني وكنتُ أحبه إلى أبعد الحدود. عندما كنتُ أكتب رواية بالأوراق المخصصة للطماطم أو أشياء أخرى فأنه يبذل جهداً كبيراً في تجليدها وإخراجها بأحسن حال. الحديث عن هذا الإنسان يتطلب وقتاً طويلا .( ملاحظة : قال لي أحدهم يوما ما – لماذا تحب أحمد ابو هوبي إلى هذا الحد؟) أخبرته بأنه كان آمر الدفاعات الجوية لمصفى الدورة – والدورة مدينتي اي انه كان يدافع عن بيتي وزوجتي وأطفالي في حالة حدوث أي هجوم علينا من قبل الغزاة فكيف لا أحبه وهو يدافع عن كل مدينتي ).

التنبؤ اللاإرادي

خلال فترة العيش في جحيم الأيام كانت تحدث لي أشياء عجيبة. في البداية لم أهتم لها ولكن تواترها المستديم جعلني أؤمن بها إلى ما لا نهاية. في بداية الأمر عندما كنت أحدث بعض الزملاء عنها كانوا يسخرون مني ويصفوني بالإنتماء إلى صفة العجائز في العصور القديمة.البراهين والإثباتات التي قدمتها لهم جعلتهم يصدقون تلك الحالة بشكل لا يقبل الشك. آمنتُ بأن تلك الحالة ماهي إلا امتدادات غيبية تتصل بالخالق سبحانه وتعالى. أحيانا تحدث أشياء لايمكن ان تخطر على ذهن انسان وسأطلق على تلك الحالة اسم- الحكّة- لا تضحك علي عزيزي القاريء كما استهزأ زملائي لأنه ربما توجد لديك نفس الحالة لكنك غير منتبه لها. سأحكي لك حوادث كثيرة من هذا النوع من التنبؤات ومن خلالها تستطيع أن تؤمن بها أم لا..فهذا الأمر متروك لك أيها القاريء الكريم. كانت يدي اليمنى تحكني بشكل مباشر دون سابق إنذار . حينما يحدث مثل هذا الشيء فأنني استبشر كثيراً مع ذاتي وأكون مرتاح البال بشكل لايعرف الشك مطلقا.أشعر أن الله سبحانه وتعالى سيرزقني بشيء – مهما كان صغيرا- وبالفعل لا ينتهي ذلك اليوم إلا وحصلتُ على شيء ما بطريقة لا أتوقعها ابداً. أما عندما تحكني باطن قدمي اليمنى او اليسرى فأن شيء مزعج سيحدث بعد قليل أو أثناء فترة من فترات ذلك اليوم. تكررت الحالات مئات المرات ولم تخطيء مرة واحدة. لم أعد أحتمل هذه الحالة فتحدثتُ الى صديقي وتلميذي – سطام.كنتُ جالساً على سريرهِ في القاعة الثانية.كنا ندرس احدى الروايات العالمية باللغة الإنجليزية وهي – عناقيد الغضب – وعلى حين غرّه شعرتُ بحكة شديدة في باطن قدمي اليمنى فقلت لصديقي ( ياستار ..ستحل بنا كارثة خلال هذا اليوم) .

انتبه صديقي لكلامي وراح يضحك بشكل هستيري ساخرا من كلامي. عندما هدأ وعاد إلى طبيعته الاولى قال بأنني أذكره بجدته حينما كانت تحكي لهم قصص خرافية عن السعلوة وغيرها من الخرافات المعروفة لأغلب الناس. قلت له بهدوء: حسناً أتمنى ان تكون هذه المرة خرافات على حد قولك..سأكون في غاية السعادة ان مضى هذا اليوم دون خسائر تسبب لنا ازعاج كبير.إذا حدث شيء يعكر صفونا فأنك ستكون مدين لي بقدح كبير من الشاي الحلو- ) . قال بسرعة ودون تفكير( نعم على الرحب والسعة) . مرت ساعة أو أكثر وتقريبا نسينا الامر ولكن فجأة سمعنا حركة غير مألوفة وصياح وضربات ابواب وماشابه ذلك. دون سابق انذار جاء الطوفان وغطت السيول المزعجة ارواحنا الفتية المرهقة في نفس الوقت وتحول الهدوء النسبي الى أمواج من الاضطرابات النفسية والجسدية.هجمت مجموعة من الحراس المكلفة بمراقبة المعسكر الذي نعيش فيه وصار كل جندي يصرخ بصوت مزعج يأمر الجميع بالخروج من القاعات النتنة مع اصطحاب كل الممتلكات التي نملكها. في غضون فترة قليلة من الزمن وجدنا انفسنا نقف في طوابير مضطربة في الساحة الخارجية تحت شمس محرقة.حلت بنا اللعنة وتمزقت احلامنا مرة اخرى وضاع ماكنا قد حصلنا عليه من اوراق صغيرة وكبيرة واقلام رصاص وجاف وضاعت جميع الكتب الإنجليزية التي حصلنا عليها بشق الانفس.تحول وجه سطام إلى صفحة من اللون الأسود والأحمر وكافة الألوان الأخرى التي تخطر على ذهن اي انسان وثارت ثائرته وتحولت اعصابه إلى كومة من الرماد. كانوا قد جردوه من كل شيء ..كل ورقة وقلم كان قد حصل عليها بطريقة لايعرفها إلا الله سبحانهُ وتعالى. أصبحت حالته النفسية مزرية جدا وتصورت انه سيفقد عقله. شاهدته يصرخ في وجه الجنود الذين وقفوا عند المدخل الرئيسي وهم ينثرون اشياء كثيرة من – كيسه- وكان المسكين يتوسل بهم واليهم أن لايصادروا دفاتره التي اشتراها بطعامه وقوته.ولكن آنىّ للبائس المسكين الدفاع عن نفسه في غابةٍ من الوحوش والبرابرة.دخل سطام القاعة يجر اذيال الحزن والضياع والذل والانكسار والتأزم الروحي. لم اقترب منه مطلقا فقد كان لايتحمل اي انسان في تلك اللحظات العصيبة. أما أنا فقد أخفيت قلمي الجاف في ملابسي الداخلية تمكنت من الاحتفاظ به بشق الأنفس. عند توزيع الشاي الليلي جاء سطام الى مكان نومي حيث كنت جالسا لوحدي. قال دون مقدمات : (استاذ ..انت مدعوا الآن لتناول قدح من الشاي الحلو ارجو ان ترافقني الى المكان الذي اعيش فيه – اي السرير- . ) هبطتُ من سريري وحملت قدحي معي . قال : ( الحق معك يا استاذ. لقد آمنتُ منذ هذه اللحظة – بالحكة – التي تحدث في باطن قدمك..لقد جردوني من كل شيء . لم أعد أملك اي شيء لا قلم ولا دفتر ولا كتاب. ماذا سأفعل الآن لا أستطيع البقاء هكذا بدون دفتر أو قلم أشعر بالاختناق ) .

توالت الأحداث مثل تلك الحادثة لدرجة انها اصبحت بالنسبة لي شيء لايمكن النقاش فيه. احيانا عندما كنت اجلس مع سطام أمزح معه واخبره بان قدمي تحكني كثيراً وعندها يتحول لون وجهه الى اصفر ويرتعد وتضطرب اعصابه ولكن حينما اشهد مدى اضطرابه اقول له بسرعة بانني امزح معه. عندها يعود اللون الطبيعي الى وجهه.أما–أبو فيروز- فكان لايؤمن أبداً بهذه الخرافات على حد قوله – لكن بعد تواتر الحكايات الكثيرة اصبح يؤمن بهذه الحالة لدرجة انه احيانا كان يسألني كل صباح فيما اذا كانت قدمي قد – حكتني هذا اليوم أم لا – في احدى المرات جاء الأرشد الايراني وراح يصرخ بصوته المرعب أن نخرج إلى الساحة الخارجية لأن ضابط الأمن سياتي بعد قليل للتفتيش.خرجنا مذعورين يرتطم بعضنا البعض الآخر.عندما وقفنا في الساحة الخارجية بطريقة منتظمة تحت اشعة الشمس الحارة ننتظر قدوم ذلك الرجل الصعب الذي خلا قلبه من اية رحمة . سألني – أبو فيروز -( ماذا تقول الآن؟) اجبته بهدو بأن قدمي لم تحكني ولم أشعر بأي شيء وطالما انها لم تؤشر عندي فحتى هذه اللحظة لايوجد شيء مخيف.طال انتظارنا واحرقت الشمس وجوهنا.شاهدنا الجنود يتراكضون وهم مذعورين فقد شاهدوا ضابط الأمن يتقدم نحو باب النظام الخارجي.اصطف الجنود استعدادا لتقديم التحية له. نظر – أبو فيروز- ناحيتي هامسا( ماذا تقول الآن؟) اجبته بأن قدمي لم تحكني ولا اعرف هل ستكذب هذه المرة أم أن شيء آخر سيحدث بعد قليل. قلت له مازحا ( يبدو أن جهاز الحاسوب في قدمي قد تعطل ) ضحك أبو فيروز وهمس قائلاً: ( الم اقل لك أنها خرافةَ) . تقدم ضابط الأمن نحو بوابة معسكرنا ولكنه قبل أن يدخل صاح عليه شخص ما وتركنا وعاد من حيث اتى. بقينا ننتظر في الشمس المحرقة ننتظر دون جدوى.همستُ نحو أبو فيروز – ماذا تقول الآن؟- همس ( لا أعرف يبدو ان قضية قدمك لها حكاية غامضة) .

تكررت الأحداث وكل يوم تبرهن تلك الحالة على مزيد من البراهين العجيبة.سأذكر حادثة أخيرة حتى لا أتمادى في ذكر الحوادث التي ليس لها نهاية.في مرة من المرات كنت جالسا بالقرب من الصديق ملازم اول ابراهيم وكنا نتحدث في مواضيع متنوعة وفجأة شعرتُ بحكة شديدة في باطن قدمي اليسرى وعلى الفور قلت له( ياستار ستحدث حالة مزعجة جدا هذا اليوم) وكان الوقت ليلا. ضحك ابراهيم من كل قلبه وقال بسرعة – يبدو أنك متأثر بحكايات العجائز – اخبرته بهدوء ( اتمنى ان لايحدث اي شيء).بعد دقائق قليلة ذهبتُ إلى فراشي وذهب هو إلى القاعة الاخرى ليشاهد التلفاز. قبل أن أنام على سريري جاء مسرعا وقد تغير لون وجهه تماما وراح يؤشر لي بالهبوط من سريري- كنت انام في الطابق الثالث- حينما وقفتُ إلى جانبه قال وقد سيطر على وجهه قلق ظاهر (الآن آمنتُ بكل ماتشير اليه قدمك…لقد تشاجر (….) مع (…..) وسالت دماء غزيرة من كلا الطرفين المتنازعين.منذ هذه اللحظة سأقبل أي شيء تقوله لي حول هذا الموضوع ) .عدتُ إلى فراشي وقد سيطرت على روحي حالة غير طبيعية من كآبه حادة جدا.

يتبع …..