.”. حاولتُ إقناعها بأن لدي نقود وأستطيع دفع ثمنها إلا انها اصرت على دفع النقود وهي تقول:
…” لايهم أنت غريب هنا ويجب علينا القيام بواجب الضيافة..أنت بعيد عن أهلك وقد تنفعك النقود في مكان ما”. دفعت هي النقود للشيخ وسمعتها تقول لصديقتها” عساها إبخت من كان السبب..أي واحد مهما كان”. أما جعفر فقد كان مشغولاً بنقد بائع اللبن والمعلبات ..إستدار نحوي وهو يقول:
…” فلنذهب ستغيب الشمس بعد لحظات وستكون هذه المنطقة خطرة بعض الشيء. إن زملائنا ينتظروننا وقد أعياهم التعب والجوع.”.
قبل أن نصل إلى الجامع مر من أمامنا ثلاثة من الأكراد المدججين بالسلاح .كانوا يسيرون وقد غطت وجوههم مسحة من الغرور وكأنهم يمتلكون هذه المنطقة منذ آلاف السنين. حينما إقتربوا من أمامنا لم يستديروا وحاولوا أن يخترقوا سيرنا وكأنهم يريدون – التحرش—بنا. لم يبتعد جعفر عن طريقة وظل يتقدم ، وقف ألأكراد الثلاثة أمامه وكأنهم يطلبون منه ألأبتعاد عن طريقهم بَيْدَ أنه ظل واقفاً يحدق في وجه أحدهم . قال الكردي بلهجة عربية غير جيده:
…” لماذا لاتبتعد عن الطريق؟” قال جعفر بغضب:” ولماذا لاتذهب من هناك..هل أن هذا هو الطريق الوحيد؟”. وقبل ان يكمل جعفر كلامه دفعه الكردي بيده بقوة إلا أن جعفر وبسرعة البرق مسك يده بقوة جعلت الكردي يصرخ من ألألم. أما الكردي ألأخر فقد صوب بندقيتة نحو صدر جعفر قائلاً بغضب:
…” إتركه وإلا مزقتُ صدرك برشقة من هذه البندقية”. لم يتركه جعفر وظل يحدق في البندقية. قفزتُ نحو جعفر صارخاً”..إتركه ..هل تريد أن تسبب لنا كارثة”. بقيت أصرخ في وجه جعفر طالبا منه ترك يد الكردي..في حين كان باسم يحاول إقناع ألأخر بضرورة إبعاد البندقية عن صدر جعفر. دون سابق إنذار جاء الكردي الثالث ودفعني بقوة نحو حافة الشارع. سقطتُ على ألارض وسقطت نظارتي الطبية وطارت السبحة الطويلة من يدي متدحرجة عند حافة الدكان القريب..وقبل أن انهض شاهدت نفس الفتاة التي دفعت سعرها تلتقط السبحة من ألأرض وتصرخ بلهجة كردية عالية:
…” ألا تخجلون من التعرض لهؤلاء المساكين؟ لو كان لديهم سلاح هل تستطيعون التعرض لهم؟” . الغريب أن الكردي أبعد البندقية عن صدر جعفر. .وجعفر ترك يد الكردي الذي كان لايزال يتألم. جاءت الفتاة الطيبة القلب مسرعة ومسكتني من يدي وهي تقول:
…” لاتهتم أيها ألأخ..خذ هذه هي سبحتك”. عندما أخذتُ نظارتي الطبية وجدتُ أن إحدى زجاجاتها قد إنفطرت. مدت الفتاة يدها وهي تريد أن ترى صلاحية النظارة. قالت على الفور” لاتهتم إنها لاتزال صالحة..سأعطيك ثمنها وتستطيع ان تشتري واحدة من السليمانية.” وبسرعة متناهية أخرجت – 25—ديناراً وهي تقول” أفخر نظارة هنا لاتتعدى هذه النقود”. حولت أن أعتذر عن أخذ النقود إلا انها قالت بأنها ستمزقها أمامي إن لم افعل ذلك. شكرتها ووضعت النقود في جيبي. حينما عدنا صوب الجامع قال جعفر:
…” لو لم تحضر هذه الفتاة في الوقت المناسب لكنت قد فقدت حياتي مئة في المئة. قررت الموت في هذه اللحظة،لم اتحمل حركة هذا الكردي اللعين. “لم يجبه احد فقد كان كل واحد منا غارقاً في أحزانه الكبيرة. أضاف قائلاً” لقد إشتركت في معارك لا تعد ولا تحصى في كل المناطق الشمالية وكان الموت بالنسبة لي كشربةِ ماء…لقد سأمتُ الحياة في هذه المدينه التائه”.
قلق علينا زملائنا لأننا تأخرنا عليهم بعض الشيء..إضافة الى ذلك كانوا جائعين جدا. ساد الليل ارجاء المدينة وهطلت ألأمطار بشكل غزير فكانت ليلة مزعجه حقا. كنا نتكور على ألأرض بلا غطاء وكانت الرياح تنفذ الينا من خلال النوافذ المفتوحة. استمرت حالتنا على هذه الطريقة أكثر من عشرة ايام . كانت تلك ألأيام صعبة جدا رغم الحرية النسبية التي كنا نتمتع بها. كانت ايامنا تسير على وتيرةٍ واحدةٍ مع قليل من الحوادث التي تحدث بين فترة وأخرى. عندما تشرق الشمس نخرج من الجامع..نذهب الى احد المطاعم القريبة لتناول ماعون من الشوربة وقطعة من الخبز. نعود بعدها الى ساحة الجامع كي نجلس في الشمس مستندين بظهورنا الى الجدار. كان أغلب الجنود يفعلون ذلك ويضعون أيديهم على خدودهم كأنهم مشردين من الدرجة ألأولى، صامتين وكأن الطيور على روؤسهم سارحين في أفكارهم البعيدة يحلمون بأختراق جدار الغربة والضياع والرجوع الى أهلهم وذويهم, كنا نجلس سوية جنبا الى جنب في أي مكان نراه مناسبا للجلوس .أحيانا كانت تحدث بعض المفردات ألأنسانية التي لايمكن نسيانها مهما غطتها صفائح الزمن الصعب . يجب أن تُذكر هنا حتى تكون شاهداً على مر العصور. حينما كنا نجلس في الشمس كانت بعض النسوة الكرديات يأتين الينا ويوزعن علينا نقوداً من فئآت صغيرة وحينما كنا نؤكد لهن باننا نملك نقوداً كافية لمواجهة الحياة اليومية ، كن يؤكدن لنا بأنهن يعرفن ذلك ولكنهن يشعرن بأننا سوف نكون في حاجة ماسة الى تلك النقود بعد فترة من الزمن..خصوصا ونحن نعيش بعيدا عن أهلنا. كان البعض منهن يشعرن بضرورة تقديم أي نوع من أنواع المساعدة لنا كوننا عراقيين ومن بلد واحد. عندما يرفض شخص أن ياخذ اي قطعة من تلك النقود فأنهن يلقينها عليه ويذهبن. أحيانا نجلس بعيدا عن الشمس والجدار كي لانتعرض لمثل تلك الحالات التي تزيد من بؤسنا وشعورنا بحالة الضياع التام . كنا نقضي أغلب ساعات النهار في التجول في الشوارع العريضة الطويلة كي نهرب من النسوة اللواتي يأتين الى الجامع للتصدق على الجنود.
بدأ بعض الجنود يعملون في شوارع المدينة وهم يرتدون ملابسهم العسكرية التي لايملكون غيرها. تُشاهد أحياناً جندياً يقف عند منعطف الشارع وهو يحمل – كارتونة… مملوءة بالمناديل الورقية وهو يصرخ بصوت مرتفع:” مناديل ورقية معطره فاخرة” . وتُشاهد مرة أخرى عند حافة الشارع ألأخر نائب عريف وهو يحمل صندوقاً من التفاح على كتفه ويصرخ:” تفاح…تفاح..” . وتشاهد نائب ضابط كبير السن نسبيا يحمل عدة علب من السكائر ويصرخ” سومر..سومر..”. كان قلبي يتمزق من الحزن على أؤلئك الصناديد الذين وصلت بهم الحال الى هذه الدرجة المأساوية. هؤلاء المقاتلين الذين إشتركوا في معارك قاسية كثيرة ..يتحولون على حين غرة الى باعة متجولين كأنهم مشردين في عالم ليس له نهايه ويصارعون العذاب من أجل لقمة العيش. في اليوم السابع سأمت من السير في الطرقات كالمعتوه بلا هدف معين..وضجرت من الحديث الرتيب المكرر بيننا كلما جلسنا سوية أو سرنا في الطرقات المنسية. قررت أن اختلي بنفسي بعض الوقت كي أطلق لتفكيري العنان وأهيم بعيدا عن الواقع المزعج. أخبرت الزملاء بأنني سأجلس خارج ساحة الجامع أي من الجهة الخارجية القريبة من الشارع الرئيسي كي أستمتع بدفيء الشمس قبل الغروب. بالكاد وجدتُ لي مكاناً عند زاوية الجدار الذي كان مكتظاً بالجنود الجالسين على ألأرض كالشحاذين. اسندتُ ظهري الى الجدار ومددت قدماي ووضعت قبعتي العسكرية فوق وجهي كي لاأرى أحدأ ولايرى عابر سبيل وجهي.أغمضتُ عينيَّ محاولاً الرجوع الى الماضي كي أستذكر جزءاً من حياتي الجميلة.لاأدري كم بقيتُ مستلقياً هناك؟ شعرتُ فجأةً أن دفيْ الشمس يسري في جسدي ويرخي أعصابي وأحسستُ أن قوة التركيزفي ذهني قد اصبحت ضعيفه أو معدومة تماماً.عادت لي صورة زوجتي وهي تودعني وتقول:” أنا خائفة ولاتجعل مني إمرأه أرملة “.ثم جاءت صورة ولدي الكبير—ذو الخمس سنوات—تحلق أمامي في الفضاء الفسيح ونظراته تتوسل إلي بعدم الرحيل بعيدا عن البيت. وعادت صورة والدتي العجوز وهي تتمنى أن أخدم في اي منطقه في البلد عدا السليمانية..وماتت بعد ثلاثة أشهر بسبب الحزن الشديد علي وفاضت روحي مع ذكرياتي وإزدادت نبضات قلبي وتدفقت دموعي شوقا على منطقتي. فجأة شعرت بيد تهز قدمي..فتحت عينيَّ بسرعة. شاهدت إمرأة متوسطة العمر تمسك طفلا بيدها وتقف الى جانبي. قالت:
…” أبو خليل..إذهب الى داخل الجامع..ستمطر السماء..لقد ذهب كافة الجنود الى داخل الجامع..هل أنت مريض؟ بالمناسبة لاتنسى النقود القريبة من قدميك.؟”.نهضتُ مسرعا ووضعتُ قبعتي العسكرية على رأسي. إلتفتُ الى اليسار ، كانت هناك كومه كبيرة من النقود. يبدو أن الماره كانوا يلقون الي بتلك النقود معتقدين أنني جلست هنا للتسول.جمعت النقود ووضعتها في جيبي وعدت الى الجامع. كان الزملاء ينتظرون قدومي بقلق. قال أحدهم:” أين كنت ياأستاذ؟ جاء دورك اليوم لجلب الطعام..أنت وعلي”.قال جعفر:” أنت وعلي تذهبان الى السوق..حاولا أن تجدا لنا شيئا ناكله..أعتقد أن مهمتكما ستكون صعبه بعض الشيء. غابت الشمس وسيكون السوق مقفلا. لو لم تتأخر لكنا ألأن نتناول طعامنا.”. الحقيقة أحزنني كلامه الذي إعتبرته نوع من التوبيخ. الحق معه. كل يوم كنت أتناول طعامي دون أن أخرج الى السوق. توجهت نحو الباب الخارجي مسرعا. تمنيت أن أوفق في مهمتي وأن أجد بعض المحلات التجارية لاتزال مفتوحة ألأبواب. ركض علي الى جانبي وهويقول:
…” إذا لم نجد محلاً مفتوحا سيكون موقفنا صعبا أمام الزملاء.” لم أقل شيء سوى أنني تمنيتُ في قرارة نفسي أن نكون عند حسن ظن الزملاء.
ركضنا نحو السوق الخاص ببيع ألأواني لأنه على حد علمي مزدحم طيلة النهار. كان السوق قد سادهُ الهدوء التام.أغلقت كافة المحلات التجارية أبوابها وتحول المكان الى بؤرة مخيفة ومرعبه..يشبه مقبرة غطاها الغبار. الحق يقال لقد شعرت بالخوف والحزن وألأرتباك في وقت واحد. الخوف لأن هذا المكان خطر جدا وقد يتم إغتيالنا من قبل أي شخص دون أن يعثر علينا أحد، والحزن..لأنني إذا لم أجد طعاماً سيبقى الزملاء بدون عشاء. وألأرتباك، لأنني ماذا سأقول لهم؟ كنت أسير كالمجنون من زقاق الى آخر الى أن توغلت في أعماق السوق المظلم لدرجة أن علي قال:” أستاذ، الى أين أنت ذاهب؟”. نظرت اليه بعصبية دون أن أنطق بكلمة. بعد فترة صمت قليلة قلت له” لن نعود حتى لو بقينا تائهين هنا كل الليل..يجب أن نجد شيئا ما..” فجأة سمعت صوتا ينادينني من الجهة ألاخرى من السوق المظلم.
…” أبو خليل..” استدرت ناحية الصوت القادم من خلف الظلام. كانت هناك إمرأة واقفة عند زاوية السوق وقربها طفلة في حدود العاشرة من عمرها. كانت تلوح لي بيدها وتطلب مني التوجه نحوها. قال علي بسرعه” لاتذهب..قد يكون ذلك فخاً لنا. “. توقفتُ في مكاني ورحتُ أوزع نظراتي بينها وبين علي. خشيت أن يكون كلامه صحيحاً..ولكن الفضول دفعني لمعرفة ماتريده مني.قلت على الفور: تعال لنرى ماذا تريد؟”. في البدايه ظل واقفاً في مكانه..لكنه حينما شاهدني اتقدم نحوها إندفع راكضا خلفي وفي لحظات قليلة أصبح الى جانبي. إمراة في الثلاثين من العمر لها مسحة من الجمال..ترتدي ملابس كردية براقة وعباءة عربية سوداء. قالت بلهجة كردية سريعة لم أفهم منها اي شيء إلا ان الطفله قالت بلهجة عربية ضعيفة ولكنني فهمت ما كانت ترمي إليه.
…” ماما تقول … هل لديك كيس نايلون كي تعطيك هذا الطعام؟ ” أخبرتها بأنني لاأملك أي كيس. عادت الطفلة راكضة الى الباب القريب منها وراحت تطرقه بقوة وحينما ظهرت فتاة في مقتبل العمر تحدثت معها بسرعة..في النهاية حصلت الطفلة على كيس نايلون أعطت الكيس الى أمها وراحت ألأخيرة تُفرغ قدرا من الدولمة داخل الكيس. راحت المرأة تتكلم بالكردية والطفله تترجم لنا.” ماما تقول أن هذا العشاء لكم. إنها خرجت تبحث عن أي شخص يمر من هنا كي تعطيه هذا الثواب بمنسبة حلول شهر رمضان المبارك وأمي ستكون سعيده إذا قرأتما سورة الفاتحه على أرواح عائلتها بعد تناول الطعام”.
أسكرتني رائحة الدولمة وبدأت أفرغها بيد مترجفة في الكيس وأنا ادعو لها بالخير والمحبة. قالت الطفلة” ماما تقول يجب أن تعودا بسرعة كي تتناولوها حارة “. عدنا الى الجامع بسرعة البرق، وأنا أركض كنت أقول لعلي” ألم أقل لك لاتحزن إن الله معنا..وهو كفيل بالأرزاق..ويرزق من يشاء”. كان بقية الزملاء واقفين عند الباب الخارجي للجامع ينتظروننا قلقين وحينما دخلنا صرخ جعفر”
…” ياالهي، لقد تأخرتما ..قلقنا عليكما كثيرا”. عندما سلمته ..الدولمة..قلتُ بأنتصار” خذ هذا من عند الله..طعامنا هذا اليوم مجاني..لن ندفع أي شيء..إنه حار جدا”. أخذ الكيس مني مذهولاً وبسرعة البرق أخرج قطعة صغيرة من النايلون من جيبه ثم فرشها على ألارض وأفرغ الطعام عليها وصاح ” ياإلهي..دولمة؟ إن هذا لشيء عجيب!!. ” ورحنا نأكلها بصعوبة لشدة حرارتها..فجأة تذكرتُ والدتي رحمها الله وكيف كانت تطبخ لنا مثل هذا الطعام.. وفاضت روحي ولم أعد أواصل ألأكل. وذهبتُ لأغسل يدي في مغاسل الجامع ودخلت المرافق الصحية بحجة الوضوء ورحت أبكي وأبكي وأبكي الى أن جفت دموعي وشعرتُ ببعض ألأرتياح. كان الزملاء قد جلسوا في أماكنهم وسط الجامع وقد وضع كل واحد منهم سيكارة في يدهِ وراحو يتهامسون بحديث متقطع حتى ساعة متأخرة من الليل.
……………………….
3– تغيير المكان—
حينما حَلَّ اليوم التاسع ازداد عدد الجنود بشكل ملفت للنظر وأزدحم المكان . شعرنا بعدم ألأرتياح وشعر الزملاء أن المكان اصبح يشكل بعض الخطورة فقد بدأ المسؤولين ألاكراد يزورون الجامع بين مدة وأخرى ويطلبون من الجنود أن يخبرونهم عن تواجد أي شخص ينتمي الى ألأستخبارات أوأي جهه أمنية ومن يخفي نفسه ويتم إكتشافهُ فيما بعد فأنه يُّعرض نفسه للخطر. وراحوا يؤكدون لنا أنهم لايريدون أن يسببوا أي ضرر لأي شخص..ولكنهم يريدون بعض المعلومات فقط . قررنا ترك الجامع الكبير والبحث عن أي جامع صغير آخر كي نكون بعيدين عن النظارة والخطورة. وجدنا مسجداً صغيراً في منطقة منعزلة عن المدينة المزدحمة. كنا ثلاثة عشر جندياً في غرفة صغيرة واحدة. كانت أجسادنا تتلاصق عند النوم. اشترينا قليلاً من الرز والشاي . كنا نعطيه الى أحد البيوت القريبة من الجامع فتطبخهُ صاحبة المنزل بكل ود واحترام وكنا نشكرها كثيراً على عملها الأنساني الرائع .. كنت غير مرتاح لتغيير المكان ولو أنه أهدأ قليلاً من الجامع الكبير. في صباح أحد ألأيام قال جعفر:” لماذا لانستقل إحدى السيارات ونذهب الى تركيا فقد نستطيع الخلاص من هناك؟”لم تنجح الفكرة فقد كان بعض الزملاء يرفض فكرة الذهاب الى أي بلد مجاور ومن ضمنهم أنا. وفي صباح اليوم التالي قال لي علي:” فلنذهب الى مدينة ..كلر..ومن هناك نعبر الجبال بأتجاه مدينة العظيم. ” كان علي يسكن تلك المدينة وأخبرني أنه إذا تمكنا من عبور الجبال الفاصلة بين مدينة كلر والعظيم فأننا نستطيع الخلاص بسهولة. وبالفعل ذهبنا..أنا وعلي وحسين بسيارة تاكسي على أمل الخلاص من الجحيم الملتهب في السليمانية. كان ألأكراد يمارسون الحرب ألأعلامية النفسية لتحطيم معنويات الجنود. كانوا يعلنون بالسماعات المثبته على السيارات من أن ألأكراد القوا القبض على ..علي حسن المجيد..ومرة أخرى من أنهم هاجموا موكب عزة الدوري وقتلوا كافة رجال حمايته.
حينما ترجلنا من سيارة ألأجرة في مدينة كلر كانت ألأوضاع صعبة جدا. الجنود يسيرون في الشوارع بلا هدف وحركة ألأكراد تحطم ألأعصاب. كل شيء مضطرب وهائج وكأن يوم القيامة قد أشرف على المجيء. سرنا في الشارع الطويل المؤدي الى خارج المدينة وبعد عدة كيلوا مترات إعترضنا كردي مسلح يشبه ألأنضباط بالعرف العسكري في جيش الحكومة المركزية. قال:
…” الى أين انتم ذاهبون؟”. أخبرهُ علي بأننا نروم الذهاب الى أهلنا بعد أن نعبر السلاسل الجبلية الممتدة بين العظيم ومنطقة كلر. نظر الينا بسخرية وهو يقول:
…” هل فقدتم عقولكم؟ لايمكن الذهاب من هناك ابداً. انتشرت دبابات الجيش الحكومي وتوزع أفراد البيش مركه في الجهة المقابلة وستكون هناك معركة عنيفة هذه الليلة..وستكونون أنتم بين كماشتين. من ألأفضل أن تعودوا الى السليمانية أو تسلكون هذا الطريق المؤدي الى – بمو –ومن هناك تذهبون الى إيران وتعيشون فيها بقية أعماركم”. أخبرناه بأننا نتحمل كافة العواقب. رفض بشده وكأنه كان قد فقد صبره. صوب سلاحه نحونا وهو يقول:” ليس أمامكم سوى طريقين ..أما السليمانية أو إيران”؟؟.
وبحزنٍ كبير وقلبٍ كسير عدتُ من حيثُ أتيت وقطعتُ طريقاً طويلاً نحو السليمانية. كنتُ محطماً تماماً وأنا استلقِ الى الوراء في المقعد ألخلفي للسيارة. كانت عينيَّ فقط هما اللتان تتابعان الطريق ألأخضر الممتد من كلر الى السليمانية. سهول جميلة وجبال ساحرة..لكنني شعرتُ أن كل شيء أصبح امامي معتماً قاتماً وأن تلك الجبال ماهي إلا أسوار سجنٍ رهيب. لم أعد أتحسس جمال الطبيعة ولم أعد أشعر بسحر السهول الخضراء. كل ما كنتُ أشعر به هو أنني سجين .. مقيد..ضمن هذه المساحات الممتده على طول البصر. إذن – الحرية— ليست أن تكون مطلق اليدين والقدمين. ألأن تنطلق بي السيارة نحو السليمانية بأقصى سرعة ولكنني لاأملك أي شيء من الحرية. أنا سجين المكان الممتد على طول المسافات. أشعر أنني أكاد أختنق . هل صحيح أنني سجين في جزء جميل من بلدي ولايحق لي الخروج منه أبداً؟. كلما تقدمت السيارة نحو السليمانية كلما تقدمت روحي نحو ألأنفلات من حلقومي وهامت في سماء العذاب ألأبدي. إذن لن أستطيع رؤية بغداد بعد ألأن ولن أر نهر دجلة. إذن سوف انسلخ عن جذوري وابقى هنا وحيداً العق جراحي وأهيم وحيدا في نزيف ذكرياتي.
توقفت سيارة التاكسي بالقرب من الجامع الكبير في وسط السليمانية وترجلتُ منها وحيداً. تركني علي في كلر وقال بأنه سوف يجد طريقاً الى مدينة العظيم . وقد فشل في ذلك لأنني وجدته في أحد معسكرات ألأسر بعد خمسة شهور. لفتني شوارع المدينة المزدحمة وإزداد عذابي أضعافاً مضاعفة فلم أجد ايا ً من زملائي في الجامع الكبير ولا في أي منطقه أخرى. بحثتُ عنهم كالمجنون هنا وهناك وسألتُ عنهم كل شخص يقع في طريقي ولكن يبدو أنهم ضاعوا الى ألأبد .اسودت الدنيا في عيني وشعرتُ أنني سأفقد صوابي هذه المرة. دون وعي توجهتُ صوب أحد المحلات التجارية المتخصصه في بيع لعب ألأطفال ولاأدري لماذا فعلتُ ذلك. فجأه شعرت بتيار كهربائي يخترق روحي وأعصابي ويحيلني الى كومة من الخراب. شاهدتُ لعبه كان لها وقع الصاعقة على نفسيتي…دراجه نارية صغيرة يمتطيها راكبها..إنها نفس اللعبة التي كنت قد إشتريتها لولدي الصغير قبل عدة شهور حينما إنتقلنا الى البيت الجديد. طافت دموعي من شدة التاثر وعلمتُ أنني لن أراه بعد ألأن . عدتُ الى الجامع الكبير مسرعاً وكأنني قد تلقيتُ صفعه مهلكة على رأسي . جلستُ عند حافة الجدار الداخلي للجامع أنقل نظراتي برعب وحزن نحو حركة الجنود . كان هناك شاباً يقف الى جواري يرتدي الملابس المدنية ينظر اليَّ بين فترة وأخرى نظرات غريبة. دون مقدمات قلت له ” هل أنت كردي من محافظة السليمانية؟”. إبتسم بأرتباك قائلا” أنا إيراني.” صرختُ على الفور” إيراني؟ ..كيف وصلت الى هنا؟”. غادر الجامع مسرعا دون أن يلتفت الى الوراء . تضرعتُ الى الله أن يساعدني في هذا المأزق الذي أنا فيه. وأنا في غمرة تضرعي وتوسلاتي الى الله سمعتُ صوتاً يناديني . إلتفتُ ناحية الصوت وإذا بباسم يصرخ:
…” أين أنت يارجل لقد بحثنا عنك في كل مكان . غيرنا مكاننا ..سنذهب الى جامع أخر فقد بدأ الجامع الصغير يكتظ بالجنود. سنبحث عن مكان أقل خطورة. قال جعفر بأننا إذا لم نجدك خلال ساعة سنذهب بدونك”. قفز قلبي من الفرح حينما شاهدتُ باسم . احتظنتهُ ورحت أقبله بشغف وكأنني لم أره منذ مئات السنين . إندهش لتلك الحركة الغريبة التي قمت بها وقال” ماذا حل بك يارجل؟ هل أنت مريض؟ لماذا تقبلني هكذا؟” لم أجبه عن تساؤلاته وشاهد قطرات دمع قد تدحرجت من عينيّ . صمت قليلاً ثم سحبني من يدي صوب الباب الخارجي للجامع دون أن ينبس ببنت شفه.
سرنا في السوق المزدحم الذي خيم عليه الظلام، وبدأتْ أفواج المارة تسرع كل الى مهجعه. تلقفتنا الطرق المتعرجة كأنها ثعابين ملتوية.انحدرنا الى شارعٍ ضيق . قبل أن نصل قال باسم ” إنهم ينتظرون هناك عند حافة ذلك المنعطف. لقد جاء بعض الجنود وأنضموا الينا، سوف نُعرَّفك عليهم إنهم من مناطق مختلفة من بغداد. طلبوا من جعفر أن نقبل رفقتهم. إنهم شباب طيبوا القلب.” لم يعد يهمني من سيرافقنا..المهم أنني وجدتُ زملائي الذين عشتُ معهم تسعة أيام . قضيتُ الليلة التاسعة في إضطراب وعدم راحه. كانت هناك أصوات نارية كثيفة في سماء مدينة السليمانية ولاأدري سببها..هل يطلقون النار عشوائياً أم على أهداف محددة؟ بدأنا ننام في غرفة صغيرة في أحد الجوامع الصغيرة وكنا احد عشر شخصاً. مكان ضيق جداً بالنسبة لعددنا لدرجة أنني كنتُ احسُّ بعظام جسد الزميل الذي ينام قربي . إنتهت تلك الليلة وسارت ألأمور إعتيادية باديء ألأمر إلا أن عاصفة جديدة لاحت في ألأفق لم نكن نتوقعها. كنا نسير في أحد الشوارع تائهين بلا هدف نحاول أن نقضي الوقت وإذا بشاحنات تقف عند حافة الجامع الكبير ويبدأ الأكراد المدججين بالسلاح يأمرون الجيش بالصعود الى تلك الشاحنات وراحت مكبرات الصوت تهدر في الجو المشحون تعلن ” على كافة الجنود التوجه الى الشاحنات لغرض نقهم الى مكان أمين ” وعاد الصوت يقول” من يختبيء من الجنود ونجده لاحقا سوف يكون عقابه شديداً”. وراح ألأكراد يبحثون عن الجنود في كافة ألأماكن التي يتواجدون فيها…الجوامع، المقاهي، الشوارع،الفنادق.
وتسلقتُ الشاحنة مع زملائي ونحن صامتين لانعرف ماذا سيكون مصيرنا وماهي الجهة التي نتوجه اليها. وإنطلقت السيارة الريم بسرعة..ومن بعيد ظهرتْ لنا هضاباً مرتفعة ومساحات خضراء وجبال تناطح السحاب. إنهم ينقلوننا عن طريق حلبجة القديمة. الحقيقة أن المنطقه جميلة جداً تشبه المناطق في الدول ألأشتراكية. شاهدتُ بعض ألأشياء التي لم أشاهدها في أي منطقة في العراق..آثار بيوت ودكاكين محكمة لم يبق منها سوى ألأطلال، وعدد لابأس به من الناس معظمهم من ألأكراد الذين كانوا يبيعون السلاح والعتاد بشكل علني. إفترش كل شخص ألأرض ووضع أمامه العتاد الذي يريد بيعه. توقفنا قليلا وأشتريتُ سكائر – بغداد – كانت ذات صناعة جيدة جدا. ركبنا السيارة مره أُخرى وسارت بنا في طريق طويل بين جبال كثيفه مزعجة. كانت مواضع الجيش العراقي تظهر في الجبال المترامية الأطراف التي كانت تُستخدم كحصون دفاعية أثناء حرب الثمانينات . كان الفصل قد إرتدى حلة الربيع الزاهية وكانت بعض الفتيات يتسلقن الجبال فرحات بعيد نوروز . أما أنا فقد كانت روحي منقبضة وراحت الدموع تنهمر من عينيّ . أنا ألان سائر في طريقي نحو الضياع والتيه.
وصلنا الحدود ألأيرانية حوالي الثالثة عصراً. عند الحدود كانت هناك عوائل عراقية كثيرة جداً تريد الدخول الى إيران ولاأدري لماذا تدفقت هذه ألأعداد الهائله من العوائل ؟ هل هربوا خوفا من صدام..أم أنهم خائفون من ” علي كيمياوي”؟. كانت مجموعة من الجيش ألأيراني تنتظر هناك وبعد التدقيق في هويات وأوراق كل جندي قال المسؤول ألأيراني” الجنود فقط هم الذين يُسمح لهم بالدخول . أما العوائل فالى وقت أخر”. ودخلتُ الحد الفاصل بين ألارض الطيبه وعالم الضياع . شعرتُ أن روحي تنفصل عن جسدي وأنا أنظر الى الوراء حيث ألأرض المعطاء التي وُلدتُ فيها وترعرت فيها وتزوجت فيها ودرستُ فيها.من بعيد حيث السراب المبهم شاهدتُ شبح والدتي يرفرف عند الخط الفاصل بين جذوري وضياعي يحلق فوق الجبال والسهول يحاول اللحاق بي ويمنعني من الدخول . شاهدتُ شبحها يلطم خده تصرخ بقوة” إرجع ياولدي..ستضيع هناك”. كانت مناجاة ذلك الشبح الحد الفاصل بين الحياة والموت . صرختُ بأعلى صوتي ولكن ظل الصوت حبيس القلب لم يخرج الى الفضاء الفسيح”: وداعاً ياأمي الحبيبة. لن أراكِ بعد ألأن.” وماتت أمي بعد شهرين من ضياعي.
وضعونا في خيمة عند الحدود . جلسنا على ألأرض كل واحد ينظر الى ألأخر لايعرف ماذا يقول؟. جاءت سيارة كبيرة تعود لأحد التجار ألأيرانيين تروم الذهاب الى السليمانية وهي محمَّلة بالتفاح . فجأة صعد الجندي ألأيراني الى الشاحنة وأخذ صندوقيين من التفاح وراح يوزع تفاحة لكل واحد منا ثم أخذ الباقي الى خيمتة. كانت تلك التفاحة الشيء الوحيد الذي تناولتهُ طيلة ذلك اليوم . بقينا ساعة واحدة بعدها جاءت شاحنة أخرى وأمرونا بالصعود . كنا متلاصقين الى جانب بعضنا البعض ورافقنا حراس إيرانيين مدججين بالسلاح. كانوا ينظرون الى ملابسنا العسكرية بأعجاب على الرغم من انها كانت متسخة وغير مرتبة. كانت ملابس الجنود ألأيرانيين متسخة وغير مرتبة أبدا.عندما إنطلقتْ السيارة بدأ الحرس ألأيراني يأخذ النطاق العسكري من كل جندي عراقي لأنه معجب به جدا. كانت المسافة بين ” طويلة” – وتلفظ – ” إطْويله – وهي المنطقه الحدودية الفاصلة بين الخط ألأخير لحدودنا والمنطقة ألأخرى التي كانت مقراً للقوات ألأيرانية حوالي ثلاث ساعات بالسيارة . الطريق من الحدود الى هذه المنطقة مخيف جداً لم يسبق أن شاهدت مثله أبداً. جبال شاهقة جدا وطريق ضيق لسيارة واحده وهناك وادٍ عميق جداً أخشى أن أنظر اليه من الفتحات الصغيرة للسيارة . عند الغروب وصلنا الى المنطقة. كانت هناك غرفتين صغيرتين ملاصقتين لجبل شاهق . طلبوا منا الترجل من السيارة والجلوس أمام تلك الغرفتين . وجدنا جنوداً عراقيين كانوا قد وصلوا قبلنا. بأرتباك وتعب وقلق تعرفنا على بعضنا البعض.
يتبع …..