..بعدها قال بصوت أجش:
…” إذا كان أحدكم لديه رمانة يدوية او اي سلاح فليلقيه أمامي فوراً. سنفتشكم جميعا..أن وجدنا شيئا من هذا القبيل لدى أي شخص فأن حياتة سوف تتحول الى جحيم.”. لم ينبس أحد منا ببنت شفة. خيم صمت مخيف على وجوهنا جميعا . كانت القلوب تدق بعنف..وألأعصاب ترتجف بخوف. بعد التفتيش خرجت المجموعة دون أن تعثر على أي شيء. تنفسنا الصعداء وأحسسنا بنفحة جديدة من الحياة تنسل الى ارواحنا المضطربة ونفوسنا القلقة على الرغم من أن الخطر لازال محدق بنا.
يحل الليل وتزحف جيوشه السوداء الكئيبة لتعم المكان وتبدأ مأساة جديدة لاتنتهي . كانت تلك الليلة بالنسبة لي من أصعب الليالي التي عشتها خلال سنواتي ألاربعة والثلاثون. شاهدتُ في حياتي مآسي كثيرة ومررتُ بظروف يمكن أن أطلق عليها بالزمن الصعب..بيد أنني لم أشاهد عذاباً كعذاب تلك الليلة. كان السرداب مظلماً خالياً من اي بصيص للنور. لم تكن لدينا أي وسيلة إضاءة أخرى. تركونا بلا ماء..بلا طعام..وشيء أخر صعب جداً.. بلا مرافق صحية. حينما شارفت الساعة على التاسعة ليلاً صرخ أحد الجنود بأعلى صوته جعل جسدي يرتعش من التأثر عليه:
…” إخوان..إخوان..إنقذوني..لدي إسهال شديد جداً. ساموت ألأن من ألألم..حاولوا أن تجدوا لي مرافق صحية بأي ثمن”. صدرت أصوات مكتومة ودمدمات كثيرة من بين البؤساء القابعين في الظلام. أحدهم يقول بسخرية وبلهجة عامية” هسه هي وكتها”..ومعناه هل هذا هو الوقت المناسب؟ . وشخص آخر يقول” ماذا نستطيع أن نفعل لك؟ كلنا في حاجة ماسة الى المرافق الصحية. حاول أن تتحمل الى الصباح”؟. بدون سابق إنذار نهض أحد الرجال الشهامى حقاً وصرخ دون أن أميز وجهه في الظلام الدامس.
…” لاتهتم ياأخي..سوف أرتب لك الحال”. وقفز الى زاوية السرداب البعيدة حيث كان يجلس فيها رجال مكتظين. قال بأدب:
…” عفوا تحولوا الى الجهة ألأخرى سوف نبني مرافق صحية هنا”. دون أن يعترض احد منهم على طلبه نهضوا وتحسسوا طريقهم في الظلام وإنتقلوا الى الجهة ألأخرى وبعضهم يسحق قدم هذا ويتعثر بجسد ذاك. ظل يبحث خلف الدواليب المدرسية..يفتح هذا الصندوق ويفتش في صندوق آخر..الى أن صرخ بفرحٍ غامر وكأنه كان قد وجد ما كان يرمي اليه:
…” هذه الصفيحة المعدنية سوف تكون مرافقنا الصحية لهذه الليلة الجهنمية”.
بشجاعة لايمكن أن تُنسى راح يزيح الدواليب الطويلة دافعاً إياها بصعوبة الى الزاوية التي أرادها أن تكون موضعا مناسباً للتبول والتغوط . بعد هنيهة من الزمن صاح بسرور”
…” تعال ياأخي لقد أصبح المكان مناسبا لقضاء حاجتك”.بسرعة البرق قفز المسكين وكأنه كان يريد التخلص من حبل مشنقة قد إلتف حول رقبتة…كانت تلك الحادثه تفوق الوصف. كنا صامتين تماما..كانت آهاتهِ وأناته تمزق نياط ألأفئدة حقاً. كانت الرائحه النتنه تنبعثُ في آفاق السرداب بطريقة تصيب ألأنسان بالغثيان. والغريب بعد أن قضى ذلك المسكين حاجته بجهدٍ جهيد أصبحت تلك الصفيحه المكان الرسمي لقضاء حاجتنا جميعاً. عند إقتراب عقارب الساعة من الثانية عشرة ليلاً رقدتُ على جهتي اليسرى بين أحمد وجعفر. كلما حاولت دفعه الى الوراء قليلا كي أتنفس الهواء.. يحاول أن يدفع جسده الى الخلف كي يقدم لي مساحه أوسع..إلا ان الجسد الممدد خلفه يدفعه مرة اخرى لأنه يأخذ جزءاً من حقه في النوم . خلاصة القول..كنا مصطفين على جوانبنا كأننا ملاعق طعام تم وضعها في خزان خاص بطريقة دقيقة. همس أحمد في أذني ” سوف أموت من الجوع..لم أذق شيئاً في الصباح ولا عند الغداء..إذا بقيتُ على هذه الحالة الى يوم غد سافقد السيطرة على نفسي ولن أستطيع أن أخطو خطوة واحدة إذا أخرجوننا من هذا المكان”. تأثرتُ لحالة جداً. شعرتُ أن مستغيثاً يطلبُ طلقة الرحمه للخلاص من آلامه . بحثتُ في جيب قمصلتي العسكرية ..تحسستُ موضع التمرات القليلة التي كنت أحتفظ بهن منذ الصباح. كنت قد إختطفتهن من الكيس الذي كان في المدرسة قبل أن نغادرها ووضعتهن في جيبي تحسباً لأي طاريء وكان تحسبي في مكانه. رحتُ أحسب التمرات باصابعي فوجدتهن عشرة أو أكثر بقليل. دون أن أصدر أي صوت أخرجت ثلاثه وسحبتُ يد أحمد واضعاً إياهن في وسط يدهِ ووضعت إصبعي ألأخر فوق فمه كي لايتكلم بصوت مسموع يودي في النهاية الى إكتشاف أمرنا. الجميع يئن من الجوع والعطش لذلك ينبغي مراعاة مشاعر ألاخرين المعذبون في ألأرض أمثالنا. سمعتهُ يلوكها بصوت مكتوم .أعطيتُ جعفر نفس العدد في حين رحتُ اضع الباقي في فمي الواحدة تلو ألأخرى وامضغها ببطيء كي استمتع بها الى أقصى درجات ألأستمتاع. تقدم الليل وراح أغلب ألاشخاص يصدرون شخيرا مسموعاً. حاولتُ أن أغمض عيناي قدر المستطاع إلا أن النوم جافاني . بين فترة وأخرى أهمس في أذن أحمد:
…” هل أنت نائم؟ أنا لااستطيع النوم!!”. كان أحمد يُصدر أنيناً خافتاً يدل على أنه شارف على ألأستغراق في النوم….أو لنقل أن جحافل النوم بدأت تغزوا عيناه رويداً رويداً.
تركته ينام لعله يحلم أحلاما سعيده تنتشله من هذا الجحيم. راح ذهني يتقهقر إلى الوراء لأجد نفسي أفكر في حالتين مأساويتين حدتث هنا قبل مغيب الشمس جعلت كل عضلة من عضلات جسدي ترتعش. ألأولى ..كنتُ أسمع صوت إمرأه تبكي بحرقة عند باب السرداب وتطلب من الحرس الكردي بصوتٍ حزين يمزق القلب ويحيل الروح إلى رماد.. تتوسل اليه قائلة:
…” الله يحفظك..زوجي محبوس هنا في السرداب وهو مسكين وفقير ..هو شرطي بسيط ولم يؤذي أي أحد طيلة وجوده هنا في كركوك..نحنُ من محافظة أخرى..ماذا نفعل جئنا الى كركوك وراء لقمة العيش..دعني أراه فقط..عندي أربعة أطفال..إرحم بحالي”. كانت بين فترة وأخرى تصرخ بصوت مرعب مكسور مدحور :
…” حميد..حميد..حميد..هل أنت على قيد الحياة؟..ماذا سافعل إذا أنت مت؟”. ثم تجهشُ في بكاءٍ مرير. كانت أعصابي ترتعش مع كل شهقة تطلقها في ذلك الصمت المميت. كنت أبكي معها بصمت ..تمنيت أن أمتلك كل القنابل اليدوية في تلك اللحظة وأفجر بها نفسي والقابعون معي في الظلام وكل الحراس الذين لايعرفون الرحمة في هذا العالم . ولكن أنى يكون ذلك ونحن هنا في هذا المكان أضعف منها بكثير. كان حميد يصرخ بأعلى صوته وهو جالس أمامي على بُعد عدة خطوات:
…” خديجه ..لاتخافي..أنا في صحة جيدة..إذهبي للبيت..إهتمي بالأطفال..بالله عليك إذهبي ..لاتعذبينني..قلتُ لكِ أنا في صحة جيدة..”. كنتُ أتابع كل كلمة بقوة..أقسمتُ مع نفسي أنني يوما ما سأكتب كل كلمة كانت خديجه تقولها..وكل كلمة كان حميد يتلفظها..إنها تاريخ العراق ألأسود في زمن صعدت فيه القلوب الى الحناجر..
وبجهدٍ جهيد طردتُ تلك الصورة المؤلمة لأجد نفسي أتخبط في صورة مرعبة أخرى . إنها صورة رباح التي لن تختفي من ذاكرتي حتى مماتي. كان رباح مجروحاً أثناء المناوشات التي حدثت بين الجنود وألأكراد. جاءوا به مخضباً بدماءه وألقوه عند باب السرداب من الخارج . كان يئن ويصرخ من شدة ألألم وهو مستلقٍ على ظهره. لم يقدموا له أي علاج. كان يصرخ بشكل يحطم النفس البشرية ويسحق أي عنصر من عناصر المقاومة لدى أي إنسان. كان يردد بين لحظة وأخرى:
…” آه..سأموت..بناتي سبعة..عندي سبع بنات..إرحموني..ألألم يقتلني..أريد ..ماء.”. أما الحرس الواقف أمام الباب فقد تحجر قلبه…وفقد كل ذره من ذرات ألأنسانيه الكامنة في روحه الخبيثه. كان يرفسة بين فترة وأخرى ويقول له:
…” هذا جزاء كل من يقاتل مع صدام. أنت بعثي خبيث”.إستمرت حالة رباح أكثر من ساعة على هذه الحالة..وفي لحظة ألأنهيار النفسي التي كنت أعيشها سمعتُ عدة إطلاقات دوت في الصمت المرعب..وصرخ رباح بصوتٍ مكتوم..وخمدت أنفاسه الى ألأبد. لقد أطلق الحرس عليه الرصاص كي يتخلص من توسلاته. طارت روحهُ الى السماء..إنتهت حياتة بين عذاب أمدي في جيش صدام وبين تلك الجروح البليغة التي كانت تعصره وتذيقه الويلات.
حدثت دمدمة بين المتواجدين معي في السرداب..بعدها حل صمت مخيف. سمعتُ بعضهم يهمس” سوف يقتلوننا الواحد تلو ألاخر مثل هذا المسكين”. كنت أشد تألماً على رباح من كل المتواجدين لسبب واحد..” كان رباح من نفس الوحدة العسكرية التي كنت أنتمي اليها..تعرفتُ عليه قبل يوم واحد من ألأنسحاب من—المطلاع—في الكويت. جلس في باب الموضع الدفاعي الذي كنت فيه وراح يتحدث معي بطريقه لطيفة.. كأنه كان يستمد مني قوه خفية. حدثني عن ظروفه الصعبة وعن بناتة السبعة. حينما وصلتُ الى وحدتي العسكرية في الشورجة في كركوك وجدته ُ هناك . كان جندياً بطلاً حقاً. كان النقيب باسم يقول عنه:
…” رباح بطل حقيقي..لقد جلب معه جهاز – الراكال—على ظهره من صحراء الكويت الى هذا المكان”. كانت صرخاته الأخيرة..لحظة إطلاق الرصاص عليه من قبل ذالك الحرس الذي ليس في قلبه رحمه ترن في اذني وتجعل أعصابي ترتعش حتى لحظة كتابة هذه السطور عام 2011م. من هو المسؤول عن كل هذه آلآلام البشرية التي يُعاني منها أبناء العراق؟ هل هو صدام؟ هل هي أمريكا؟ هل هم ألأكراد؟ هل هي أنا أم انت..أم ماذا؟ أسئلة تدور في ذهني منذ زمن طويل………………………………………..
كلما تقدم الليل إزدادت رغبتي الشديدة لأي نوع من أنواع الطعام..ولكن دون جدوى.عندما أشرقت الشمس تسلل ضوء خفيف من النافذة العليا وإنحدرت أشعتها معلنة إنبثاق يوم جديد قد يكون له دور مصيري في حياتنا.. همس جعفر في اذني:
…” لماذا لانهرب من هذا السرداب المرعب؟ إن بقائنا هنا خطر جدا وقد تحدث نتائج وخيمة كلما تقدم النهار”. نظرتُ اليه بعينين منفتحتين منتفختين من السهر الطويل. أصابتني نوبة شديدة من التساؤلات حول ذلك الأقتراح المستحيل. قلتُ على الفور وبطريقة الهمس:
…” كيف..كيف..هل أنت مجنون؟ كيف نستطيع العبور من هذا الباب الحديدي الموصد؟ وكيف نستطيع إجتياز هذا الحرس اللعين؟”. صمت جعفر وجالت عيناه في كافة أرجاء المكان..غمز بطرف عينه اليسرى وهو يهمس في أذني:
…” من هناك..ذلك المكان قد يكون مناسباً للهروب”. قمتُ بمسح شامل بنظراتي المرهقه لتلك النافذه الملاصقه لسقف السرداب . اعتقدتُ أن عملية الهروب من تلك النافذه يُعتبر ضرباً من ضروب المستحيل. دون تردد قلتُ له :
…” إذا تمكنتَ أنت من الوصول الى النافذة سوف التحق بك على الفور..ومهما كانت النتيجة”. نظر جعفر الى أحمد ثم تطلع الى وجهي وكأن كلماتي قد شحذت همتة وأضافت لجسده طاقة غير مرئية. قال على الفور:
…” سوف أتسلق الجدار وحينما أصل الى القمة سأسحبك”. بدأ يصارع الجدارين القريبين من بعضهما البعض وكانت أقدامه تتزحلق على الجدار كلما دفع أحدهما في أعقاب ألأخرى. كانت عينيَّ مسمرتان اليه وأنفاسي مُحتبسة ..كنت كمن يشاهد لعبة الحياة والموت..ولحسن الحظ كانت النافذة الشاهقة ألارتفاع خالية من القضبان الحديدية. دفع زجاجها بكل قوة فتهشمت الى الفضاء الخارجي محدثة صوتاً مزعجاً لكافة الرجال القابعين في السرداب. كانوا يتطلعون اليه بنظرات ملؤها الحيرة وألأرتباك والتردد. كل فرد كان يعتقد أن تلك الطريقة سوف لن يُكتب لها النجاح لعدة أسباب..منها أن الحرس الخارجي سوف ينتبه لتلك الضوضاء وسيعيده الى مكانه مكيلاً له أشد أنواع السب والشتم. أصبح جسده على ألأرض الخارجية ورأسه إمتد الى جهتي وراح يصرخ بعصبية:
…” إسرع لاتجعل هذه الفرصة الذهبية تذهب أدراج الرياح”. نظرتُ الى الحقيبة العزيزة جداً على قلبي كونها تحتوي على أشياء كنتُ قد جلبتها من البيت وستكون لها أهمية فيما إذا بقيت معي فترة أطول من الزمن. صرخ بنفاذ صبر :
…” اترك الحقيبة ..اتركها..لن تستطيع تسلق الجدار إذا كانت معك”. دون وعي بدأتُ أتسلق الجدار ألأملس بصعوبة بالغة. في النهايه مد جعفر يده وسحبني بقوة… في لمح البصر كنا نسير في الشارع المحاذي لذلك السرداب. كيف هربنا ..لاادري!! . حينما خرجنا من القبو لم يكن هناك أي حارس..أين إختفى..لااحد يعرف. ظل بقية الرجال في السرداب..لم أر سوى سبعة رجال يتسلقون الجدار. تركتُ حميد خلفي يلعق جراحه بصمت..وحتى هذه اللحظة لاأعرف ماذا حل به وبالأخرين. قبل أن أصل الى خارج القبو سمعت أحدهم يقول” لن أهرب فهذا شيء خطر جدا”. كنا سبعة جنود من وحدات عسكرية مختلفة.
رياح آذار الباردة عند الصباح ألهبت وجهي بسياطها. شعرتُ بجوع شديد يخترق أمعائي فيجعل حركتي صعبة جداً. كنا نمر من أمام منازل كثيرة جدا إصطفت على جانبي الشارع . النسوه والفتيات وقفن في أبواب تلك المنازل ينظرن الينا وكأننا إنحدرنا من كوكب أخر. كانت بعض الفتيات يطلقن تعليقات لاتليق بالوضع المزري الذي كنا نخوض فيه. قالت إمرأه بصوت مرتفع:” لاتخافوا..سلام..سلام.” أرعبتني تلك الكلمات فقد قالتها بطريقة تدل على أشياء كثيرة تلوح في ألفق، قلت مع نفسي:
…” ماذا تقصد بكلمة سلام..وما معنى..لاتخافوا؟”. صاحت أخرى” أنتم طلقاء..طلقاء”. وصاحت أخرى” تعالوا..خذوا هذه الكمية من الخبز..أنتم جائعين وهذا يظهر على وجوهكم”. ترددنا في البداية من التقدم نحوها و اعتقدنا أنها تسخر منا..وركضتُ نحوها فوضعتْ ثلاثة أرغفة في يدي ..وراحت توزع الخبز على بقية الجنود البؤساء حقاً. والغريب أنني لم أستطع أن اضع لقمة واحدة في فمي على الرغم من جيوش الجوع الشرسة التي كانت تزحف في أمعائي بلا هوادة. أحسست انني متسول قذر في بلادي. تقدمنا في السير نحو المجهول..وأقول المجهول لأننا لانعرف أين نذهب. ألأرباك والفوضى قد سيطرتا على كافة الشوارع. شاهدتُ سيارات حكومية متنوعة مليئة بالأكراد المدججين بالسلاح وهم يطلقون العيارات النارية في الهواء وكأنهم يعيشون عيداً خاصاً. هل صحيح مايحدث في هذه المدينه الجميلة؟
كركوك – عروس—الثروات الخالدة والجمال الساحر..فجأة تتحول الى مدينة دموية خالية من أدنى معاني الرحمة وألأنسانية. دون سابق إنذار صرخ بنا أحد ألأكراد المدججين بالسلاح:
…” توقفوا..أين أنتم ذاهبون؟”. كان هذا الرجل يقف في باب أحد المنازل وقد وقفن الى جانبه ثلاتة نسوه..ورحن يضحكن لتلك الحركة الفجائية التي قام بها ذلك الرجل. نظرنا الى بعضنا البعض مذهولين لانعرف ماذا نقول؟ لأننا لانعرف ان نجيبه باللغة الكردية ..كما أن حركته الفجائية أدخلت الرعب الى قلوبنا..وأعتقدتُ أنه سوف يُطلق النار علينا فوراً. قفز أحد الصبيان الى جانبه متحدثا باللغة الكردية قائلا:
…” إتركهم..إنهم جنود غرباء مساكين”. أمر الرجل الصبي بقوة قائلا :
…” خذهم الى الجامع..هناك جنود كثيرون ..سوف نتخذ بهم قرار خاص فيما بعد”. مسك أحد الجنود يد الصبي وهويقول:
…” أرجوك خذنا الى الجامع ..لاتتركنا لوحدنا..نحن لانجيد اللغة الكردية.” شعر الصبي بالأعتزاز وهويسمع أحد الجنود يطلب منه البقاء معنا. دخلنا الجامع. مكان مقدس تحول فجأة الى مهجع يغص بالجنود من كافة الوحدات العسكرية. معتقل نظيف ويشعر فيه ألأنسان بالأمان بعض الشيء. إتكأ جنود كثيرون على جدرانه باسترخاء وتكدست ألأحذية خارج الباب بشكل ملفت للنظر. جلستُ في ركنٍ بعيد من أركانه محاولاً ألأختلاء بنفسي كي أعيد الى روحي الحائرة نوعاً من ألأتزان والهدوء النسبي . جلس عدد من الجنود على شكل جماعات يتبادلون أطراف أحاديث مختلفة. كان بعض ألأطفال اليانعين يحملون الشاي بين فترة وأخرى ويوزعونه على الجنود الجالسين على ألأرض..ولاأدري هل أن ذلك الشاي كان مجانا أم مقابل نقود قليلة لأنني لم أذق قدحاً منهُ. بين فترة وأخرى كنت اسمع طلقات نارية في الهواء لااعرف سبباً لها. شعرت بحاجة شديدة لتناول أي شيء من الطعام فقد إقتربت الساعة من الواحدة ظهراً دون ان أضع لقمة واحدة في فمي على الرغم من إمتلاكي ثلاثة أرغفه من الخبز—الخبز الذي أعطته لي تلك المرأة–. حاولتُ ان أمضغ قطعه صغيرة ولكن حالتي النفسية منعتني من ذلك.أعدت القطعة الى جيبي وأتكاتُ على الجدار اراقب مايدور حولي.
بدأت قوافل أخرى من الجنود تتوافد على الجامع وكأن ألأكراد كانوا يخططون لجلب المزيد من الجنود الى ذلك المكان في انتظار خطوه أخرى. في لحظة تفكير بعيدة عن المكان..شارداً مع أحلامي ومعاناتي..شاهدتُ شخصاً يرتدي الملابس العسكرية الخضراء وقد دل مظهره الخارجي على أنه رفيق حزبي يحتل مكانه مرموقه قبل حدوث هذه ألأحداث. إقترب عمره من الخمسين، ذو لحيه بيضاء ووجهاً مدوراً وكأن العز قد رسم معالمه عليه بشكل ملحوظ . جلس الى جانبهِ ملازم أول طيار دلت ألأحاديث الهامسة بينهما على أنهما اب وولدهِ. بين فترة وأخرى يهمس الشاب في اذن أبيه:
…” لاتخف ياوالدي..لن ادعهم يمسوا شعرة واحدة من رأسك حتى لو فقدتُ حياتي..تحلى بالصبر وأترك الباقي لي”. كان ذلك الحوار الهامس بين ألأبن ووالده قد رسم في قلبي نوعين من ألأحاسيس : ألأول…شعرتُ بشفقة على ألأب وهو ينظر الى ولدهِ الطيار وقد إرتسمت في عينيه علامات رعب لاتوصف. كان ينظر الى ولده بصمت غريب وكأنه يودعه الوداع ألأخير. والشيء ألأخر شعرتُ أن موقف هذين الشخصين خطر وأن تواجدي الى جوارهما قد يسبب لي نوعا من المشاكل غير المتوقعة. فكرت بالنهوض والجلوس في مكان أخر قد أجد فيه متسع من الوقت للتفكير وألأبتعاد عن عناصر ألأثاره والمخاطرة..إلا ان هناك دافعاً مباغتاً دفعني للمكوث قليلاً ومتابعة مايجري بين ألأب وإبنه.
وأنا في خضم ذلك ألأضطراب دخل عدة أشخاص أكراد مدججين بالسلاح وقد ظهرت وجوههم كثيفة الشعر. وقفوا خلف رجل لايقل عنهم قسوة وصرامة. أخذ الرجل يدقق النظر في كافة وجوه الجنود الجالسين..عم المكان صمت رهيب وكأن يوم الحساب قد حل..راح يفرك لحيته بيده وكأنه كان يستجمع قواه الفكرية لأيجاد الضالة المنشودة التي كان يبحث عنها في هذا التجمع البشري المكتظ. شعرتُ أن قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي حينما مسحني الرجل بنظراتة الخاطفة..ولكنه إبتسم فجأة وهو يقول بتهكم:
…” آه..أنت الرفيق الحزبي الذي كنتُ أبحثُ عنه منذ زمن طويل. سوف أنتزع كل شعره من شعرات وجهك ألأبيض”. راح الرجل المسكين ينظر الى الكردي بطريقة تمزق نياط ألأفئدة. كان يرتعش تماماً وقد غطى وجهه إصفرار شديد وكأن الموت قد أصبح بالقرب منه. أما الضابط الطيار الشاب فقد بدأ يتوسل بطريقة حطمت قلبي تماما :
…” أنا في شاربك..أقسم لك أن والدي لم يفعل أي شيء. أنا إبنه الوحيد. أمي وزوجتي تنتظران خارج الجامع . لاتحاول إيذاء والدي. خذني مكانه إن كان هذا يسعدك . إتركه فقط”.
شعرتُ برغبه شديدة للتقيؤ..أغمضتُ عينيَّ كي لااشاهد مايجري أمامي..كم تمنيتُ أن اصرخ بأعلى صوتي” لاتتوسل أيها الطيار الشاب..أنت واحد من الصقور الذين كانوا يجوبون سماء الوطن في زمن الحروب الماضية..أنت واحد من الرجال الذين لايهابون الموت. نعم..إن والدك في لحظات الموت..لكن لاتتوسل.إنك تحطم أعصابي وأنا الجندي البسيط. أرجوك..إتركهم يمزقون والدك ويمزقونك..ولكن لاتتوسل هكذا.” بيدَ أن الغصه القاتلة كانت قد أخرستني وجعلت الكلمات تتجمد في حنجرتي . بقيتُ أراقب المشهد عن كثب. مشهد لايمكن أن انساه مادمتُ حياً. تقدم الرجال الذين كانوا يقفون خلف قائدهم. سحبوا الرجل مع ولده الطيار بعنف.أغمضت عينيَّ كي لاارى الطيار وهو يحاول تثبيت غطاء رأسه العسكري حينما دفعه أحد ألأكراد، وسقطت (…البيريه)…على ألأرض. لم يلتقطها أحد ولم يسمحوا له بالتقاطها ووضعها على رأسه مرة أخرى. حينما أصبحوا خارج الجامع تطلعتُ الى البيريه وقد سحقتها ألأقدام. كانت بالنسبة لي تمثل كل تاريخ الجيش العراقي. شعرتُ أن دموعاً حارة تحرق عيناي ورحتُ أهمس في نفسي دون أن أظهر صوتاً مسموعاً :” أيها الشرف العسكري المسجى على ألأرضِ بلا حراك. أيها الوطن المثخن بالجراح، تئن بصمتٍ دون سواك. أيتها ألأرض الطيبة، هوى الصقر على ألأرض بلا حراك. ماذا سيقول التاريخ عن شعبٍ أكل بعضهم البعض وتهاوى الشرف العسكري على ألأرض بلا حراك.”
في لمح البصر سمعت رشقة لا بل رشقات من بنادق وصرخات نساء جعلتني أحترق رغبة للخروج صوب بوابة الجامع . كان الرفيق الحزبي ملقى على ألأرض وقد غطت الدماء كل بقعة من بقاع جسده وتهاوت جثة الضابط الطيار فوق صدر والده وإمتدت يداه تحتضنان رقبة والده وكأنه يحاول إنقاذ والده في أخر لحظة. كانت زوجة الشاب الطيار تلطم وجهها وتصرخ بشكل يمزق شرايين القلب وتندب حظها الذي دفعها الى هذا القدر المحتوم. أما زوجة الرفيق الحزبي …والدة الطيار…فقد كانت تمزق شعرها وتلطم خدها وتصرخ بصوت يُرعب القلوب. وقف بقية ألأكراد الذين إشتركوا في إطلاق الرصاص ينظرون بانتصار..الى رئيسهم.. وقد ظهرت على وجهه إبتسامة تفاؤل. لم أعد أستطيع تحمل المشهد فعدت الى داخل الجامع هربا من ألأنهيار النفسي. كان قلبي ينبض بسرعة وأنا أجلس في نفس الزاوية التي كان الرفيق الحزبي يجلس فيها. رحتُ أنظر الى المكان الشاغر الذي كان يجلس فيه الطيار الشاب وقلتُ لنفسي:
…” ياالهي ..هل هذا واقع أم خيال؟ قبل لحظات كان إنسان يجلس هنا وكانت تعتريه آمال وأحلام لأنقاذ والده وفي لمح البصر تحول الى عدم..الى جثه هامده.طارت روحه الى الفضاء الفسيح. لو كان ذلك الطيار على قيد الحياة لكانت أمامه فرص كثيرة ..من يدري قد يغير وجه التاريخ؟ يالسخرية القدر.
مضت ساعة بعد منتصف النهار..فجأةً تحول المكان الى بؤره من الضجيج والحركة الملحوظة. صدرت دمدمات مكتومة وأصوات غير مفهومة عمت أرجاء المكان. اخذ البعض منهم يضع غطاء راسه العسكري والبعض ألاخر يعدل من وضع ملابسه وكأنهم يستعدون للرحيل الى مكانٍ ما. دون سابق إنذار دخل رجل كردي ذو صوت جهوري وملابس متسخة يحمل رشاشة في يدهِ وشرع يصرخ بصوتٍ مرتفع: