18 ديسمبر، 2024 1:57 م

جحيم الأيام / الحلقة الحادية عشرة

جحيم الأيام / الحلقة الحادية عشرة

7— ليلة القبض على البريء —

كان يوماً ثلجياً…لأول مرة في حياتي أشاهد القطن الأبيض يتساقط من السماء. أصابني الذهول وأنا أنظرصوب ذلك المنظر الثلجي الساحر. كنتُ حائراً لا أعرف ما الذي أفعلهُ في تلك ألأمسية.دون وعي أخرجت كافة ملابسي القذرة ورحت أغسلها في ذلك الجو الصقيعي. نشرتها على الأسلاك الشائكة المخصصة لنشر غسيل الأسرى البائسين. وقفتُ عند عتبة الباب الحديدي أتطلع إلى الملابس وهي تتحول إلى قطع ثلجية كأنها رقائق معدنية خفيفة. جاء المساء وغابت الشمس ودخلنا القاعات بناءاً على أوامر الحرس.أُضيئت الأنوار الخافته داخل القاعة وتسلق البائسين أسرتهم فقد إزدحم المكان داخل القاعة. كان سريري في الطابق الثالث ملاصقاً للسقف المتجمد. كان زميلي باسم أو أبو رشا يجلس إلى جانبي على سريره الملاصق لسريري. لأول مره أخذت أنظر إليهِ بطريقة غريبة ، ِعرفتُ أنها الساعات ألأخيرة معه. كان باسم رجلاً مثقفأً مؤدباً إلى أعلى درجات الأدب والكياسة. نزعتُ نظارتي الطبية وحاولت أن أجد لها مكاناً مناسباً كي لاتسقط وتتهشم. دون وعي أخرج مسماراً من جيبه ولا أدري كيف إحتفظ به ولماذا كان يحتفظ به وراح يدق المسمار في المنطقة القريبة من السقف.أخذ مني نظارتي وعلقها بهدوء.تمددت على فراشي القريب من فراشه وكأنني أحاول إستمداد قوة خفية من روحه المستقرة. نظرت إلى السقف وشعرت أن نظراتي تنفذ داخل الجدران الصخرية أو كأنني أستقرأ المستقبل المجهول.شاهدت خطوطا وهمية إرتسمت في ظلام داكن خلف أروقة الزمن الممتد على طول المساحات الشاسعه خلف المجهول. دون أن يلتفت إليّ وقد تمدد هو ألأخرقال بهدوء” أنا خائف من المستقبل . لقد تحول المستقبل بالنسبة لي إلى ظلام أبدي.هل نعود يوما ما إلى أرض الوطن ونمارس حياتنا كباقي البشر الآمنين؟”. لم أنتبه إلى كلامه الوهمي فقد كنت ساهماً في محيط قلقي واضطرابي. دون أن أجيبهُ على سؤاله قلت بصوت هامس” باسم هل تعتقد أننا سنمضي هذه الليله دون أن يحدث شيئاً ما؟ إسمع لقد علقتُ ملابسي على الأسلاك الشائكة إذا حدث لي شيء ما خذ الملابس وأحتفظ بها في حقيبتك لحين عودتي . حافظ على نظارتي وعندما تعود إلى أرض الوطن إحملها إلى بيتنا إنها أمانة عندك”. إستدار نحوي مضطرباً. كان ينظر نحوي بوجههِ الشاحب وكأنه ينظر إلى جثة هامدة ملقاة على قارعة الطريق. قال بتلعثم:

…” ماذا تقصد؟ لماذا تتكلم هكذا؟ هل أنت على مايرام؟”. كان يطرح علي تلك ألأسئلة بذهول ملحوظ. قلت له بصوت واهن:

…” إسمع أشعر أن هذه أخر ليلة أقضيها هنا معك.غداً سيكون هذا السرير الذي أرقد عليه خاوياً. حاول أن تتذكرني بين فترة وأخرى.لاتنسى الأيام والليالي التي قضيناها سوية. لقد كنت بالنسبة لي أخاً عزيزاً وصديقاً وفياً. لايمكن أن أنسى تلك اللحظات التي كنت تقص فيها لي قصة ” أطفال القطار السريع” حقا إنك قاريء جيد وقاص من الدرجة الأولى. لقد جعلت دموعي تتساقط بسبب الطريقة الساحرة التي كنت تلفظ فيها الكلمات. لا أنسى تلك اللحظة التي قدمت لي فيها سيجارتك الوحيدة التي كنت تحتفظ بها في محفظتك المتواضعة عندما قلت لك بأنني في أمس الحاجة إلى سيجارة الآن ولكن من أين أستطيع الحصول عليها. لقد كانت تلك اللحظات التي كنت تسير فيها إلى جانبي ونحن نذرع القاعة الثلجية في الساعة الثانية عشرة ليلاً يوم 11/12/1991 عندما كنت أنا حرس قاعة في الليل وقلت لي بأنك تريد أن تشاركني عزلة ذلك الليل والجميع نائمون. كنا نتحدث أحاديثاً طويلة مختلفة عن الكتب والأفلام والحياة بصورة عامة” . نظر صوبي بطريقة غريبة وقد ظهر على وجهه قلق ملحوظ وهو يقول:

…” أشعر بالخوف من طريقتك في الحديث معي بهذه الصورة. ماذا تشعر الأن ؟ هل أنت مريض؟”. قال ذلك وهو يحاول البحث عن سيجارتين كان قد وضعهما تحت وسادته. قلت مبتسماً:

…” لاتهتم إنها هلوسة الوداع. انس الموضوع..أنا أمزح معك”. إستلقيتُ على ظهري وحاولتُ أن أُغطي رأسي بالبطانية ذات الرئحة الكريهة والتي كان قد إستخدمها آلاف الأسرى قبلي وقبل أن أسحب البطانية حدثت ضوضاء وحركة غير طبيعية في القاعة. جاء ” كريمي” الجندي المرعب الشكل. كان رجلاً طويل القامة. كان الأرشد العراقي يقف الى جانبه ( ومن لايعرف معنى كلمة الأرشد تعني هو الرجل العراقي من بين الأسرى المكلف بتنسيق العمل ما بين العراقيين والجانب الأخر). وقف كريمي ينظر إلى كافة الأسرّه وبدون تردد أخرج ورقه صغيرة من جيب بدلته العسكرية وراح ينادي بصوت مرعب ذاكراً أسماء كثيرة. والغريب أنه كان ينادي إسماً وهمياً فعلى سبيل المثال كان هناك أكثر من ” أحمد..وأكثر من كاظم، وحينما صرخ بعضهم” أحمد من ….وكاظم من.. وحسين ..من…” قال كل شخص يسمع إسمه بدون ذكر إسم الأب والجد فليخرج”. وخرج مايقرب من الثلاثين شخصاً. كان ينظر إلى كل شخص يقترب منه ويقول له ما اسمك؟ وحينما يُجيبهُ يأمره بالخروج إلى ساحة السجن الثلجية. حينما جاء دوري وقلت له إسمي ظل يحدقُ ويدقق النظر في وجهي وأخيراً قال ” …إخرج معهم..” كان يسير أمامنا وأحد الحراس المدججين بالسلاح خلفنا . سرنا من القاعةِ التي كنا نسكن فيها إلى المقر الرئيسي للمعسكر في جو مظلم بارد جداً. لم أكن أرتدِ سوى السروال والقميص الخاص بالسجن. كان جسدي يرتعش من شدة البرد.

سرنا خلف ” كريمي” صامتين كأننا نسير في موكب جنائزي. بسرعة البرق نظرتُ إلى ملابسي المتجمدة فوق الأسلاك الشائكة. كانت الملابس الوحيدة التي لاتزال معلقه على الأسلاك فقد حمل كل الأسرى ملابسهم إلى داخل القاعة. قلتُ مع نفسي ” وداعاً أيتها الروح المعلقة هناك بلا حراك. وداعاً ياباسم. وداعاً يازمن الرفقة والصحبة في ليالِ الغربة والضياع”. إشتدت الرياح كثيراً وإزدادت برودة الطقس إلى درجة لاتطاق. وصلنا غرفة ضابط الإستخبارات القريبة من المقر الرئيسي. جاء جندي أخر وصرخ بصوت مرعب ” عودوا جميعاً ما عداك” كان قد وضع يده على كتفي وكأنه كان يريد التأكد من أنني لن أعود معهم. بقيتُ واقفاً وحيداً عند الركن الأمامي الأيمن لتلك الغرفة التي كان يجلسُ فيها ضابط الإستخبارات. جاء جندي أخر من الأحواز يتكلم العربية وقال بهدوء” تفضل بالدخول.” كان هناك رجلاً يرتدي الملابس المدنية يجلس إلى طاولة صغيرة ومصباحاً صغيراً يتدلى من السقف. وقفتُ أمامه ووقف الجندي إلى جانبي. رفع المسؤول نظراته نحوي” ياالهي إنه نفس الشخص الذي شاهدتهُ — عندما كان قاسم الزاهدي …سامحه الله – يقف إلى جانبهِ في ذلك اليوم المشؤوم. نظر إليِّ لحظاتٍ سريعة ثم أشار برأسهِ دون أن يتفوه بحرفٍ واحد. أخرج الجندي قطعة من القماش السميك من جيبهِ وربط عينيَّ بأحكام وقيد يداي إلى الخلف ومسكني من ذراعي اليسرى وأقتادني إلى خارج الغرفة. كنتُ أتعثرُ في مشيتي لأنني لم أعد قادراً على رؤيةِ أي شيء. كانت برودة الطقس تنفذُ إلى عظامي.كان يحاول تهدئتي بعض الشيء وهو يسحبني من يدي كي لا أسقط على الأرض. حاولتُ أن أكون طبيعياً وأنا أسير إلى جانبهِ بَيْدَ أن الخوف من المجهول كان قد سيطر على قلبي تماماً. قبل أن نصل إلى الغرفةِ الأخرى طلب مني أن أقف لحين عودتهِ. سمعتهُ يتحدث إلى أشخاص آخرين بلغةٍ لا أفهم منها أي شيء. وبسرعة البرق سمعتُ هدير محرك سيارة . توقفت السيارة بالقرب مني. سحبني شخص آخر دون أن ينبس ببنت شفة.

أحسستُ بوجود عدة أشخاص معي داخل السيارة. سمعتُ صوت أسلحتهم وهم يضعونها إلى جانبهم. كنتُ في المقعد الخلفي من سيارة اللاندكروز. جلس ثلاثة أشخاص إلى جانبي وقبل أن تنطلق السيارة دفعني أحد الأشخاص وأجبرني على الإستلقاء على جانبي الأيسر. قلتُ مع نفسي وأنا مُقيد اليدين ومعصوب العينين ” يا إلهي؟ هل أنا خطر إلى هذه الدرجة؟”. كان الجميع داخل السيارة صامتين وكلما حاولتُ إتخاذ وضعاً مريحاً دفعني أحدهم بأخمص بندقيتهِ مُعتقداً أنني أحاول الإنقضاض عليهم وتمزيقهم. ظلت السيارة تشقق عُباب الليل والبرد والصمت والظلام نحو مسرحٍ مرعب تم ضمي اليه دون مبرر سوى أنني أتحدث اللغة ألأنكليزية . كان هدير محرك السيارة هو الصوت الوحيد الذي يصل إلى مسامعي. برودة الطقس الثلجي تنفذُ إلى عِظامي من خلال النافذة المفتوحة. آلاف الأفكار المرعبة تغلفُ ذهني وقلبي وأنا مستلقٍ في وسط السيارة ، لا أعرفُ إلى أيِّ جهةٍ أنا سائرٌ في هذا الليل مع هؤلاء الذين ينتمون إلى تاريخٌ غريب وفئة بشرية تختلف عني في كلِ شيء. بين فترةٍ وأُخرى كان صوت إحدى السيارات السريعة يصل إلى أُذُني كطيفٍ قادمٌ من المجهول. دون وعي رحتُ أقرأ مع نفسي مقتطفات من القرآن الكريم كي أطرد عن روحي شعور الوحشةِ والرهبةِ والخوف من المجهول. الغريب أنني شعرتُ فجأةً بشعورٍ مريح ولم أعد أشعر بوجود المدججين بالسلاح بالقربِ مني. أحسستُ أنني أمتلكُ العالم في تلك اللحظة. شرع الجندي الجالس قرب السائق يعبث بجهاز المذياع وفجأة سمعتُ صوت – راديو مونتِ كارلو – كم تمنيتُ أن يُبقي المؤشر على تلك المحطة ولكنهُ أزالها بسرعةِ البرق. حينما بدأ المذيع – مهيار حيدر – يتحدثُ عن أشياءٍ مختلفة في هذا العالم. عرفتُ أنه لا يُريدني أن أسمع أي شيء بالعربية – وذلك لإ حترازاتٍ أمنية -. تلك اللحظات القليلة جداً قذفتْ في ذاكرتي ملايين الذكريات التي كانت لها دوراً إيجابياً للتفاعل مع ذاتي والخوض في أعماق الرغبةِ للهروب من ذلك الزمن الجهنمي الذي كنتُ أمرُ فيه. عادَ كل تاريخ حياتي أمامي في تلك الدقائق – مرحلة الصبا والشباب، واستحضرتُ كافة ذكرياتي مع تلك ألإذاعة التي كنتُ أستمعُ إليها بإفراط منذُ عام 1973 إلى لحظة مغادرة البيت عام 1991م. الغريب أن صورة القرية البسيطة التي كُنتُ أعيشُ فيها يوماً ما قد جاءت إلى ذهني في تلك اللحظات العصيبة.

عام 1973 كنتُ أمتلك جهاز مذياع صغير أُعلقهُ في كتفي أثناء الليل حينما أذهبُ إلى مقهى القريةِ الصغيرةِ . لا أذكرُ أنني كنتُ أستمع إلى إذاعةٍ غيرها في ذلك الزمن. كانت لي نشاطات كثيرة مع تلك الإذاعة بالذات. كنتُ أُراسلها مئات المرات ولطالما سمعتُ أسمي وعنواني يُذاع من خلالها. كانت تلك اللحظة التي سمعتُ فيها تلك الإذاعة قد مزقتْ قلبي وكدتُ أفقد صوابي. حاولتُ تعديل وضعي غير المريح بَيْدَ أن الجندي القذر الذي كان يجلس قربي دفعني بقوة محاولاً منعي من الحركة والبقاء على الحالةِ ألأولى وهي حالة الاستلقاء على جانبي . شعرتُ أن السيارة تسلكُ طُرقاً مرتفعة ثم تعود لتهبط طرقاً منخفضة. على حين غرّه توقفت السيارة وترجل الحراس. توقفت سيارة أخرى إلى جانب سيارتنا. سمعتُ حواراً دارَ بينهم لم أفهمهُ مطلقاً شعرتُ بالمرتفعات والمنخفضات التي كانت تقطعها العجلة العسكرية وكانت جلستي لاتقل مرارةٍ عن جلستي في السيارةِ الأولى. أحسستُ بقسوة الأيادي التي كانت تدفعني للتمدد داخل العجلة، لا أعرف لماذا يفعلون معي ذلك؟ هل أنهم يريدون أن يبعثوا الرعب في قلبي ؟ هل يريدون أن يقولوا لي بأنهم يقظين في حراستهم لي؟ أم أنها الحرب النفسية التي يحاولون تطبيقها على أسيرٍ لا حول له ولا قوة إلا التضرع إلى الله كي تسير الأمور بصورةٍ طبيعية؟ كانت بوادر الاقتراب من المدينةِ قد لاحت في أُفق نفسي فقد ازدادت أصوات السيارات وشعرت أن عجلتنا شرعت تتوقف بين فترة وأخرى بسبب الازدحام الشديد. آلاف الأسئلة كانت تدور في ذهني، لماذا يأتون بي إلى مركز المدينة؟ في أيِّ بقعةٍ من العالمِ أنا الآن؟ هل أنا خطرٌ إلى هذه الدرجة؟ توقفت السيارة ودخلتْ بنايةٍ لا أعرف إلى أيِّ جهةٍ تنتمي . أحسستُ ذلك من خلال الحديث الذي دار بين السائق وأحد الأشخاص الواقفين في الباب الرئيسي لأحد المعسكرات. خمد محرك السيارة وترجل الحراس. بقيتُ مستلقياً داخل السيارة. أحسستُ أنني مخلوق لم يعد له وجود في هذا الكون، مجرد جسدٌ بشري تتصارعُ داخلهُ ثوراتٌ من الأفكار التي ليس لها أهمية في هذا الواقع المرعب. بعد فترة قليلة من الزمن سحبتني يد بهدوء دون أن يتفوه صاحبها بكلمةٍ واحدة. لَفّ ذراعهُ حول جسدي وراح يقودني بصمتٍ تام. قلتُ بالعربية ” إلى أين تأخذني؟ أين أنا الآن؟ لم ينبس ببنت شفة وكأنه أخرس تماماً. ظل يستدير بي إلى اليمين ثم إلى اليسار…يلتف حول أحد الأحواض المائية.. يصعد درجاتٍ عديدة يهبط سلالم مختلفة الأنواع . حقاً أنها مسرحية هزلية تلك التي كان يُمثلها معي .أدركتُ أنه كان يريد أن يجعلني أظل الطريق، كان أحياناً يدور في نفس المكان. لم أطق معهُ صبراً فقلتُ بالعربية ” لماذا تفعل هكذا معي؟ أنا لا أعرف أين أنا الآن؟ هذه طريقة سخيفة للتعامل مع أشخاص خطرين أمثالي. لماذا لا تأخذني مباشرة إلى رئيسك؟” ولشدة دهشتي أجابني بلغةٍ عربيةٍ ركيكة ” كلام..لا..ممنوع…كلام”. لزمتُ جانب الصمت وعرفتُ أن الشخص الذي يرافقني يفهمُ قليلاً من كلامي.

أدخلني إلى رواقٍ طويل متوهجاً بإنارةٍ ساطعة فقد أحسستُ بالضوء دون أن أرفع قطعة القماش السميكة التي وضعوها فوق عينيَّ. بعد قليل وجدتُ نفسي في غرفةٍ تحتوي على خزاناتٍ كثيرة للملابس. رفعوا قطعة القماش عن عينيَّ ثم وقف أحد الجنود خلف ستارةٍ قريبةٍ وقال بالعربية الركيكة ” ملابسك..أخلع…إرتديها…هذه”. ومعناه – اخلع ملابسك وأرتدي هذه -. شعرتً ببعض الإحراج لأنني لم أكن أرتدي ملابسي الداخلية ، لقد تركتها معلقة على الأسلاك الشائكة في ” برندك”. حينما فهم ما كنتُ قد أشرتُ إليه ألقى إليَّ ” لباساً داخلياً وفانيلة “. بسرعة كبيرة خلعتُ ملابسي – ملابس الأسر- ألقيتها إليه ثم ارتديت البدلةِ الأخرى الخاصة بالسجناء وهي لباس رمادي اللون رُسِمَ عليهِ ميزانٌ للعدالة. كان يراقبني من وراء الستار وحينما أتممتُ عملية تغيير الملابس ألقى إليّ بالقناع السميك طالباً مني أن أضعهُ فوق عينيَّ بأحكام. دون وعي قلتُ له ” تواليت.. أحتاج تواليت”. قادني من يدي اليمنى وعند باب المغاسل وقف خلفي ونزع النقاب ثم دفعني إلى الداخل وأقفل الباب الحديدي من الخارج. وقفتُ مذهولاً فهذه أول مرة أُشاهد فيها ” مرافق صحية” نظيفة منذُ أن وطأت قدماي معسكرات الأسر قبل سنه تقريباً. وبينما أنا أُطيل النظر إلى كل ركنٍ من أركان المكان سمعتُ صوت الجندي يصرخ ويستعجلني للخروج. حينما خرجتُ طلب مني الجلوس مواجهاً لأحد الجدران وقدم لي عشاءاً ” علبة مرق فاصوليا وقطعة من الخبز” . حاولتُ أن أتذوق الطعام ولكنني لم أستطع. دفعتُ الطعام بعيداً وقلتُ له بطريقة الإشارة ” ماء.. أريدُ ماء فقط” . قدم لي قدحاً ” بلاستيكياً ” من الماء تناولتهُ بسرعةٍ كبيرة كما لو أنني كنتُ أخشى أن يستردهُ مني دون توقع. نهضتُ وسحبني من يدي وقادني في رواقٍ طويل. صمتٌ رهيب لم أسمع أي شيء وكأن هذا المكان لا ينتمي إلى عالمُ الحياة. وقفتُ أمام أحد الأبواب الحديدية بينما راح الجندي يفتحُ قفلاً كبيراً وبلهجةٍ عربية غير مفهومة قال ” أنت بيتي..أنت بيتي”.حاولتُ أن أفهم العبارة ولكن دون جدوى ، وفي نهاية المطاف فهمتُ أنه يريد قول ” هذه غرفتك..هذه غرفتك”.

يتبع …