18 ديسمبر، 2024 2:12 م

جحيم الأيام // الحلقة الثانية والعشرون

جحيم الأيام // الحلقة الثانية والعشرون

توالت الإستنطاقات واختار كل شخص الطريق الذي يراه مناسبا له. تبادلنا العناوين والتلفونات على أمل أن نلتقي يوماً ما في بلدنا الحبيب. كانت الساعات الأخيرة في تلك المنطقة القريبة من حدود بلدنا من أشد وأحرج الساعات التي مررتُ بها خلال تلك السنوات العجاف. كان العلم العراقي المثبت على الرابية المرتفعة يتراءى لي من بعيد شامخاً يرفرف مع النسيم الهاب على تلك الأرض الطيبة.تلك القطعة من القماش التي تحمل كل معاني التاريخ والنضال والصراع ضد الإمبريالية والصهيونية.من بعيد شاهدتُ يد الجندي العراقي ترتفع في الفضاء تلوح لنا عبر المسافات. تقدم الزمن وغابت الشمس وغابت معها روحي ومعنوياتي.على حين غرة شاهدتُ صديقي – أبو فيروز- كان مضطربا نوعا ما وقد ارتسمت على وجهه كآبة ظاهرة.حاولت أن أقنعه بضرورة العودة معي إلى أرض العراق لكنه أكد لي بانه لايوجد هناك أحد ينتظره في العراق وانه يخشى من شيء خفي أو لنقل يخاف من السلطة العراقية حسب مافهمته منه. في الحقيقة أنا أعرف تماما كل شيء عن حياته الخاصة وهو يعرف كل شيء عن حياتي الخاصة ولذلك أعطيته الحق في رغبته في البقاء وربما الانتقال إلى دولة أخرى فيما بعد.كل شخص حر في حياته.تركنا بعضنا البعض وتوجهت إلى السيارة التي تنقلنا إلى الحياة مرة اخرى.يجب الاعتراف هنا للتاريخ أني أحببت هذا الرجل كصديق وأخ رغم اختلاف الفكر الواسع بيننا لكنه كإنسان رائع.تحركت الحافلات وتحركت معهن مشاعري وراح قلبي يضرب بعنف.هل صحيح أن الأمل المفقود شرع يتحقق رويداً رويداً وهل صحيح أن السراب الوهمي راح ينشر خيوطهُ بوضوح عبر الحدود الممتدة ما بين البلدين؟وهل صحيح أن سنوات القحط والجفاف ستعود خضراء من جديد ؟ شعرتُ أن المسافة قد طالت إلى ملايين الكيلومترات على الرغم من أن المسافة بين موقعنا الحالي والحد الفاصل لبلدنا لايبعد سوى امتار قليلة. عند الحد الفاصل لبلدنا الجميل توقفت الحافلات شاهدت ثورة عارمة من المشاعر الجياشة لإبناء وطننا الحبيب.تلاقفتنا أيادي المسؤولين وكل واحد منا يمسكه شخص يرتدي ملابس أنيقة تفوح منه رائحة دجلة والفرات.في اللحظة التي أوقفني فيها مراسل تلفزيون العراق وسألني عن مشاعرنا لم أقل إلا(أشعر أني وُلِدْتُ من جديد). حينما انطلقت بنا حافلات الوطن العزيز نحو العاصمة بغداد كان الجميع صامتاً كأن الطير على رؤوسنا جميعا.بالنسبة لي كانت آلاف الأفكار تتقاذفني وتحيلني إلى كومة من التساؤلات التي لا تنتهي.

وجدتُ نفسي أفكر بالحياة من جديد – الحياة التي كنتُ قد نسيتها أحد عشر عاما.على حين غرة وجدت نفسي أخاطب ذاتي بصمت (يا الهي لقد تركتُ لزوجتي وأطفالي عشرة دنانير فقط يوم 16-3-1991 عندما التحقتُ إلى وحدتي العسكرية في كركوك وفي هذه اللحظة لا أملك فلساً واحدا فكيف سأدخل البيت وأنا لا أملك أي شيء؟كيف سنعيش وماذا سأشتري لأولادي غدا؟ حينما تعبتُ من التفكير في أمور الحياة التي تنتظرني في البيت سلمتُ أمري إلى الله وهدأت من روعي وأنا أخاطب روحي بصمت من جديد(طالما أن الله سبحانه وتعالى هو المسؤول عن الأرزاق في كل الكون الذي خلقه فسيدبر أمري إن شاء الله).ترجلنا من الحافلات لا نعرف ماذا نفعل أو أين نذهب؟ فجأة تقدم ضباط من رتب مختلفة ورحبوا بنا كثيراً وبمنتهى الأدب والتقدير قال رئيسهم بلهجة ودية:(أهلاً بكم جميعا .. تفضلوا لتناول وجبة العشاء وبعدها سنقوم بإجراء الترتيبات اللازمة ان شاء الله). همس سطام في اذني بلغة انجليزية وكان فخوراً لأنه صار يتحدث بطلاقة(listen my teacher .He says,” Dinner,may be we will eat some meat .Be careful do not eat too much because you will hurt your stomach). وراح يضحك بصوت مرتفع . ومعناه إسمع يا معلمي هو يقول عشاء وهذا يعني ربما سنأكل لحم لذلك لاتأكل كثيراً لأنك ستؤذي معدتك.كانت لحظات بالنسبة لي لحظات تاريخية حقا.شعرت أننا نعود للحياة من جديد بكل ماتعنيه هذه العبارة من معنى.بعد الإنتهاء من تناول وجبة الطعام الفاخرة وقفنا في طابور طويل كل واحد منا ينتظر دوره للدخول إلى الطبيب المختص للفحص.بعد الفحص الطبي وقفنا في طابور آخر لنستلم هدية رئيس العراق النقدية وإنْ كانت بسيطة لكنها حلت لنا أو بالأخص لي مشاكل مادية كثيرة.انطلقت بنا الحافلات مرة أخرى صوب العاصمة الجميلة بغداد الحبيبة. كان المعسكر الذي تناولنا فيه طعام العشاء على الحدود العراقية.اخترقنا شوارع بغداد الرائعة روعة الحياة ذاتها. لم أصدق أن هذه الشوارع تحتضنني مرة أخرى! لدي فيها ذكريات لاتنتهي أبداً.فجأةً هجم علي تفكير جديد ونحن نقف أمام المنظمة الحزبية( أين ساذهب؟ من سيأتي من أقربائي لإصطحابي إلى البيت؟) تذكرتُ أن ولدي كان عمره خمس سنوات عندما تركت البيت والأبن الآخر ثلاث سنوات والبنت سنتين وأمي كانت عجوز ربما فارقت الحياة وأنا بعيد عن البيت.قررتُ أن أترك التفكير في هذا الموضوع وقلت لنفسي( سأظل في المنظمة إلى أن يأتي شخص ما.) تركتُ كل شيء للخالق العظيم فهو قادر على أن يُدبر الامور.حينما اقتربنا من المنظمة كانت هناك أفواج من الجماهير تنتظر عند الباب الرئيسي . تحول الليل إلى مايشبه النهار وكأن شوارع بغداد قد تفجرت بشراً من مختلف الأعمار. بقيتُ أسندُ جسدي الى الكرسي المريح وكأن الأمر لايمت لي بصلة فأنا متأكد من أن أحد لا ينتظرني مع ذلك الحشد الجماهيري المتفجر.

بعد لحظات وأنا مستسلم للقدر بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى سمعتُ طرقات قوية على النافذة القريبة مني لكنني لم التفت إلى الطارق حيث كنت أظن أن احدهم يستفسر عن شخص ما ربما كان معنا أو شيء من هذا القبيل . كنتُ في وضع لا أستطيع فيه حتى الكلام.قال الشخص الذي كان يجلس قربي(هناك شخص يضرب على النافذة ويطلب مني أن أجعلك تنظر اليه).في اللحظة التي أدرتُ فيها رأسي شعرتُ كأن تياراً كهربائيا يجتاح كل ذرة من ذرات كياني.صرختُ بأعلى صوتي ( حسن…حسن..حسن…) رحتُ أردد تلك الكلمات كأنني مجنون. كان حسن ولايزال أقرب الناس إلى قلبي منذ الصغر.هو الآخر ضاع قبلي في سنوات الغليان كان ذلك عام 1988 كان ملازما في الجيش العراقي ذرفتُ عليه دموعاً شديدة الحرارة.لم أرهُ منذ عام 1988 حتى لحظة عودتي حيث استقبلني هو.أي قدر هذا الذي يفرق الأحباب والأصدقاء بسبب عنجية شخص أو أكثر فتدخل البلدان في حروب طاحنة. عندما ترجلنا من الحافلة ودخلنا القاعة الكبيرة في المنظمة الحزبية صرخ حسن بأعلى صوته بأنه ينتظرني لنعود معا إلى البيت. في اللحظة التي خرجت فيها بعد تسجيل المعلومات والعنوان خرجت إلى الساحة الامامية الخارجية لأجد حسن ينتظرني على أحر من الجمر. تبادلنا قبلات لا تنتهي كان لقاءاً مؤثراً جداً. قبل أن نغادر المكان تقدم نحوي شاب يافع وهو يصرخ(هل تعرفني هل تعرفني؟)حاولت أن أسترجع كل ذكرياتي البعيدة لكنني لم أنجح في التعرف عليه أبداً. حينما شاهد علامات الارتباك على وجهي صرخ (انا ابن شقيقتك…أنا ماهر).صرخت و أنا أمسكه بين ذراعي ( واوو لقد أصبحت رجلا…كم تغير شكلك). سحبني ماهر من ذراعي وهو يقول ( اركض سيتجمع الناس حولك ولن تستطيع التخلص منهم..أسرع خالوا)وبالفعل تجمعت نسوة كثيرات وهن يسألن عن أبنائهم المفقودون.لكي أتخلص من الأسئلة صرخت بأعلى صوتي ( نحن أسرى عام 1991 وليس أسرى الحرب العراقية الإيرانية …نحن أسرى الخليج من لديه سؤال عن ذلك فأنا مستعد) . سحبني ماهر من ذراعي نحو سيارتة القريبة من الشارع الرئيسي.بسبب شدة فرحي العظيم بمشاهدة حسن – أنستني كافة الأخبار الحزينة التي صبها علي حسن في لحظة اللقاء فعرفت أن والدتي ماتت هما وحزنا علي بعد شهرين من إختفائي وأن زوجته طلقته غيابيا وتزوجت رجلاً متزوج ولديه أطفال وأن أحد الأشخاص اسمه – هادي منصور – قد إحتال على شقيقي وسرق منه نقود كثيرة بحجة أنه يستطيع أن يعيدني إلى أرض الوطن عن طريق التهريب…أي انسان هذا الذي يتاجر بمشاعر الاخرين…لن (أحلله) أبداً وهو مات في السنة الماضية أي عام 2018 كان يحتال على الناس.أخبرني عن أشياء كثيرة جداً حدثت خلال تلك الفترة الزمنية التي اختفيتُ فيها عن الوطن الحبيب. في تلك اللحظة قال لي حسن بأنني يجب علي أن اذهب معه إلى بيتهم لأحلق ذقني الطويل واستحم قبل الذهاب إلى زوجتي وأطفالي وفعلت ماكان يطلبه مني . وصلت البيت في الثانية والنصف بعد منتصف الليل.كانت زوجتي مذهولة حقا لمشاهدتي. لم أتعرف على أطفالي الصغار في بداية الأمر. تركتهم في عمر الخامسة والثالثة والثانية. أي جريمة هذه التي إرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان بكل ماتعنيه هذه العبارة من معنى. توالى الأقرباء على بيتنا في تلك الليلة حيث وصلتهم الأخبار في لمح البصر. تحول الليل إلى صباح وطالت القبلات الحارة وتفجرت الدموع الحارة وأنا مذهول من كل شيء.مذهول من كوني أجلس في بيتي بعد كل تلك السنوات المرعبة.تركني الأقرباء عند الرابعة صباحا كي أخذ قسطا من النوم.

يتبع……