18 ديسمبر، 2024 1:47 م

جحيم الأيام / الحلقة الثامنة

جحيم الأيام / الحلقة الثامنة

…” لاتنسى أن رحمة الله وسعت كل شيء. أن شاء الله سنعود إذا كتب لنا الله النجاة من هذا التخبط اللامنتهي. فلنسلم أمرنا الى الله ونحاول أن نعيش يومنا. فكر في نفسك الآن وحاول أن تحافظ على صحتك كي تعود لها سالماً فهي تنتظرك”. بقيت أتكلم وأحاول أن أعطيه بعض النصائح العقيمة، والحقيقة كنت أحاول أن أقنع نفسي وليس هو. شعرت أنني أتحدث الى نفسي وليس الى هذا الرجل الغريب الذي قذف به الزمن المرعب في طريقي دون أن يكون لي سابق معرفه به إلا في أيام معدودة أثناء التحاقي الى ذلك اللواء اللعين. إستدرتُ الى أبو مريم فوجدته قد أغمض عينيهِ وراح في سباتٍ عميق من النوم وكأنه طفل قد إستسلم الى نوم هاديء بعد أن سحره صوت أمه وهي تنشد له نشيدا مبهما .
من بعيد من خلف الجبال التي تحيط بالمعسكر الرهيب كانت أصوات الحيوانات البرية تمتزج مع الرياح الباردة جدا ً فتدخل في قلبي مزيجا من ألأحساسات المتناقضة . أحياناً أشعر بالأرتياح النسبي وأحياناً أخرى يدخل قلبي رعب وخوف لاينتهي . كانت ألأفكار المرعبة تقذفني من صوب الى أخر وتحيل روحي الى بؤرة من التفاعلات المتباينة. بقيت مدة من الزمن على هذه الحال حتى شعرت بجحافل النوم تزحف الي شيئا فشيئا..وفي النهاية رحت في سبات من النوم المضطرب حتى بزوغ الشمس…..لتبدأ رحلة عذاب أخرى………………………………………………………………………………
5- حياة جديدة –
…………………………………………………………………………………….
أشرقت الشمس وجاء يوم جديد وتململت ألأجساد المرهقة في مهاجعها. فتحتُ عينيَّ ، لازال أبو مريم وبقية الزملاء يغطون في نوم عميق. جلستُ في حذرٍ شديد كي لا أُوقظ النائمون. سافرت نظراتي المرهقة هنا وهناك كأنني نائه بين أنقاض الحزن وأكوام البؤس باحثا عن طريق مضيء في ليلة معتمة . شعرتُ أن روحي منقبضة الى مافوق التصور. هل حقاً أنني الآن مُستلقٍ في أرض الضياع والتيه ؟ إذن هذه هي نهاية المطاف. وهل هذا هو إنتظار” كودوا”. لقد إنتظرتُ كودوا ردحاً من الزمن على أمل أن يأتي ولكن حقا أن كودوا هو الموت والفناء والدمار ونهاية ألآمال وألأحلام . حينما درستُ مسرحية ” في إنتظار كودوا” في السنه الرابعة من دراستي الجامعية ..قال ألأستاذ ” أن هذه المسرحية تمثل الحياة والموت بأدق تفاصيلها، فنحن نولد ونعيش وتراودنا أحلاماً كثيرة على أمل تحقيقها ونبقى ننتظر وننتظر وتمر السنين وتبقى أحلامنا مطوية خلف عجلة الحياة وكلما تقدم العمر نبقى ننتظر وفجأةً ننهار ونموت وتُوارى أجسادنا الثرى ويبقى الحلم بلا تحقق ويبقى ألأخرون في إنتظار كودوا وكل واحد يحلم بأن كودوا سوف يأتي في السنة القادمة وهكذا تستمر عجلة الحياة والموت”. تذكرت كل شروحات ألأستاذ حول تلك المسرحية..لقد إنتظرتُ كودوا أربعة وثلاثون عاما ًولكن لم يأتِ هذا المدعو — كودوا — . لقد كان كودوا – عفواً أقصد حلمي أن أنهي الجامعة وأسافر الى كافة أقطار العالم وأكتب مئات الكتب، ولكن أين كودوا الذي كنت أحلم به ؟ إنه الضياع التام .
صرخ جعفر وبقية الزملاء:
…” فلنذهب الآن للبحث عن مكان مناسب كي نجعل منه مهجعا لنا طيلة مدة مكوثنا في هذه ألأرض الموحشة.” وبسرعة البرق بدأت أطوي بطانياتي وسرتُ معهم وسط الوحل والطين الذي يغطي كاحل القدم. سرنا جنبا الى جنب وكأننا نريد أن نستمد القوة والمعنويات من بعضنا البعض. بدأ الجنود التائهون ألأخرون — خمسة آلآف جندي – من مختلف الوحدات والمحافظات يسيرون هنا وهناك في مجاميع متفرقة كل مجموعة تبحث لها عن مكان مناسب. المكان الذي نحن فيه ألأن عبارة عن مساحه كبيرة جداً من ألأرض محاطة بجبال شاهقه وبأسلاك شائكة والحراس منتشرين على طول تلك المساحه المستديرة. كان المكان قد تم بناءه في عهد الشاه..معسكراً للجيش قد شيد من الحجر. قاعات كبيرة وصغيرة منتشرة على مسافات متباعدة عن بعضها البعض. قسم منها مسقف والقسم ألأخر بلا سقف وكأنها أطلال لأحد المواقع ألأثرية القديمة. ألأرض خليط من ألأشواك والنباتات البرية وألأعشاب. لاتوجد طاقة كهربائية ولايوجد ماء صالح للشرب.كان هناك عدد قليل من ألآبار المنتشرة على مسافات متباعدة. مياهها قذرة لاتصلح حتى للحيوانات. في بداية المعسكر توجد غرفة صغيرة إتخذها الحراس مقراً لهم. كنا نتسابق فيما بيننا للبحث عن مكان نتخذ منه مسكناً لنا. لم يوزعوننا على تلك القاعات والغرف القذرة كي نعرف أين نسكن وأين نعيش طيلة تلك الفترة المرعبة التي قضيناها هناك ومدتها خمسة أشهر. كانت من أرعب وأشد أيام حياتي. كان الجو في تلك المنطقة الجبلية شديد البرودة على الرغم من أننا كنا في بداية الشهر الرابع من عام 1991. بعد البحث الدقيق والطويل من قبل مجموعتي الصغيرة عثرنا على غرفة صغيرة في نهاية المعسكر قريبة من ألأسلاك الشائكة. أصبح عددنا ثلاثة عشر شخصاً – المجموعة التي جئت معها بالأضافة الى أشخاص آخرين تعرفنا عليهم لأول مرة. نظفنا المكان من القاذورات وألأحجار وبعد عناء شديد إفترشنا ألأرض واضعين بطانياتنا على التراب. حينما إستقرينا بعد ساعات من الجهد الشاق..جلس كل واحد من على فراشه الملاصق للأخر بشكل يقزز النفس. لم نتناول أي شيء في الصباح وشارفت الساعة على الثانية عشرة والنصف نهاراً. وضعت حقيبتي الصغيرة تحت رأسي وأتخذتها وسادة وفعل ألأخرون مثلي. عند الواحدة والنصف من بعد الظهر جاءت سيارة كبيرة تشبه الشاحنة العسكرية التي نقلتنا الى هذا المكان. إنتشر الخبر من أن تلك الشاحنة كانت تحمل الطعام لنا. فرحنا كثيراً وركضنا نحوها كالمجانين. خمسة آلآف جندي عراقي أسير يتجمعون حول تلك السيارة. أخذ الجنود ألأيرانيون يصرخون علينا طالبين منا ألأبتعاد الى الوراء. بعد جهدٍ جهيد تم تقسيمنا الى أفواج وسرايا وحظائر كي نستلم ألأرزاق اليومية، وأستمرت هذه العملية أكثر من ساعتين. في النهاية ذهب جعفر كي يجلب الرز لمجموعتة التي تتكون من ثلاثة عشر شخصاً. حينما كان يوزع الحصه الى ثلاثة عشر بائسا كنت أنظر الى يده وأكاد أفقد صوابي من شدة الجوع. حينما قال جعفر ” فليأخذ كل واحد أناءه…بسرعة البرق إلتهمتُ حصتي البالغة قدحً صغيرا من الرز. كانوا قد وزعوا لنا أواني بلاستيكية ذات الأستعمال الواحد، إلا إننا إستعملناه مدة طويلة من الزمن لحين توزيع أوانِ معدنية فيما بعد.
لم أشبع أبداً وكنتُ أحتاج خمسة أوانٍ أو أكثر كي أرتوي. تظاهرت بالشبع وحمدت الله على تلك النعمة. إنتهى الباقون من تناول طعامهم في حدود الساعة الرابعة والنصف عصراً. أسدل الليل ستائره وحلت معه معاناة جديدة تضاف الى سجل معاناة البؤساء.لم يوزعوا لنا أي شيء من الطعام في تلك الليلة أي كان الغداء هو عشاء وفطور. إستمرت الحالة على هذه الطريقة مده من الزمن.إضطررنا الى إتخاذ طرق وأساليب أخرى كي نحصل على العشاء. إقترح أحد الزملاء أن يُبقي كل شخص ملعقتين من حصته من الرز كي نضع عليه قليلا من الماء وقطعة صغيرة من الخبز الجاف ونسخنه في علبة معدنية عل الناروبذلك سيجد كل شخص ماسيأكله عند العشاء. كانت تلك الطريقة تعتبر إكتشاف عظيم بالنسبةِ لنا حيث وجدها أحد الزملاء عند إحدى المجموعات في إحدى الغرف البعيدة عنا أثناء زياته لأحد ألأصدقاء. ولعدم توفر العلب الفارغة” قواطي” فقد إنقسمنا الى مجاميع صغيرة – كل أثنين – يطبخون معاً ، وكان أبو مريم معي.
لو تحدثتُ عن المعاناة في ذلك المعسكر لأحتجتُ الى آلاف ألأوراق وآلاف الساعات ولكنني ساحاول ألأقتصار على بعض ألأشياء العامة لأن ألأيام كانت تتكرر ..متشابه في سيرها. عند الصباح كنا نجلس منهوكي القوى من شدة الجوع. في بعض ألأحيان كنا نحصل على قدح صغير من الشاي مع قطعه من القند..والقند هو نوع من السكر يشبه ” زر الطاولي..النرد” وأيام أخرى لانحصل على شيء. عندما تشرق الشمس يبدأ الجنود بالحركة هنا وهناك كأنهم ديدان جائعة تبحث لها عن طعام معين . يأخذون المساحات الممتدة جيئة وذهاباً كأنهم هائمون على وجوههم بلا هدف. فجأه تكوّن سوق عجيب. كل واحد أخرج من جيبه حاجه معينه وراح يصيح بصوت حزين مشجعاً ألأخرين على شراءها. مثلاً نجد شخصاً يمسك ساعته اليدوية ويصيح” ساعه..ساعة جيده للبيع”..وألأخر يمسك خاتمه الذي إنتزعه من إصبعه وراح ينادي ” خاتم ذهب..خاتم ذهب”. وفي غضون عدة أيام تطور السوق بشكل عجيب. تشعر وكأنك تسير في سوق حقيقي. بدأت السكائر تظهر في السوق وكذلك الخضراوات وحتى التفاح. ياالهي من أين تأتي هذه المواد؟ في النهايه فهمت الموضوع. كان بعض ألأكراد من الجنود العراقيين ينسقون مع الحراس ويعطوهم النقود العراقية وهؤلاء يجلبون لهم البضائع في اليوم التالي مقابل عمولة معينة. كان ذلك المعسكر سجن من نوع يختلف عن بقية السجون المنتشرة في هذا العالم في زمان ما ومكان ما. الحراس يتواجدون بالقرب من ألأسلاك الشائكة التي تحيط بالمعسكر ولايتدخلون في أي شيء. يستطيع الشخص منا أن يسير ساعات طويلة دون أن يعترضه أحد من الحراس، ولكن الويل لمن يقترب من ألأسلاك الشائكة.
في هذا المعسكر كانت ألأمطار تسقط بغزاره جدا وتستمر أحيانا عدة أيام بلا إنقطاع. ألارض تصبح كأنها بحيرات متلاطمة ألأمواج وألأرض طينية جداً لدرجة أننا لانستطيع ألأنتقال من مكان الى أخر إلا بشق ألأنفس. الغرف التي نسكنها – تنفذ من سقوفها مياه ألأمطار بسهولة. البطانيات تصبح رطبة لدرجة أننا لانستطيع النوم تحتها إلا بعد أن نعرضها للشمس ساعات طويلة. مرعب ذلك المكان ومرهق لدرجة الموت. كان لدي 400 دينار عراقي حينما دخلت هذا المعسكر في اليوم ألأول من شهر نيسان. بدأت أشتري من السوق كباقي الجنود الذين يمتلكون النقود. ظهرت ظاهرة غريبة في السوق زعماؤها اؤلئك الذين باعوا ضمائرهم وركضوا خلف الجشع والطمع. كانت كافة نقودي من فئة ال” 25″ دينار…. الطبع….كما يسمونه هناك، وليس سويسري……أي أصلي….. لم أسمع بهذه ألأشياء إلا هناك. وظهر تاجر طويل عريض المنكبين يرتدي سروالا كرديا مع العلم أنه كان رئيس عرفاء في الجيش ..إسمه..فائق.ويبدو أن هذا الفائق قد فاق الجميع في طريقة تقربه للحراس ألأيرانيين. راح يفعل أشياء عجيبة أدت به الى الثراء الفاحش.راح هذا الشخص يتفق مع الحراس ويخبرهم أن هذه النقود” الطبع” …ليس لها قيمة وهي أقل من قيمة العملة ألأصلية بعشرة دنانير. وسقطت هذه العملة تماما وبدأتُ أعطيه ورقة من فئة خمسة وعشرون ديناراً ويعطيني خمسة عشر ديناراً فقط..أي خسارة عشرة دنانير في كل ورقة. ويبدو أن تلك الطريقة كانت حيلة من جانبه ليمتص أكبر عدد ممكن من ألأوراق النقدية من تلك الفئة. كان يبيع أرخص نوع من أنواع السكائر بأحد عشر ديناراً للعلبة الواحدة وهو مبلغ خيالي بالنسبة لي ولغيري. وبين عشيةً وضحاها وجدت نفسي لاأملك ديناراً واحداً فقد أنفقت نقودي على السكائر وقليل من التمر والطماطة. في إحدى المرات إشتريتُ أربع تمرات بدينارين ..تصور عزيزي القاريء هذا الغلاء الفاحش. في أحد ألأمسيات الباردة جدا كنت أسير لوحدي من مكان السوق الى الغرفة التي أسكنها مع ثلاثة عشر شخصا وكانت الشمس قد شارفت على الغروب كأنها خجلة من تلك الظروف التي كنا نعيشها. كنت اسير وحيداً مهموماً يمتص الجوع كل طاقه كامنه في خلايا جسدي المنهك وقبل أن أصل الى المكان الحزين الذي أسكنه شاهدت قشر برتقال أصفر. جحظت عيناي لرؤية ذلك الكنز الملقى على قارعة الطريق. التفت الى اليمين والى الشمال كي أتاكد من أن شخصاً لايراني وبسرعة البرق إختطفت ذلك القشر ..الثمين. أزلتُ عنه ألأتربة وبقية ألأوحال العالقة فيه. وضعته في فمي وشرعتُ أمضغه بلذه لاتضاهيها لذه. جلست عند حافة الطريق وتظاهرت بتأمل الطبيعة . بعد ألأنتهاء من تناول القشر رجعت الى فراشي وأستلقيت على ظهري ورحت أفكر وأفكر” من هو الشخص الذي تناول تلك البرتقالة الكاملة وتسائلت في نفسي ..لماذا القى ذلك القشر ؟ لماذا لم يتناوله مع البرتقاله؟ حقا إنه مبذر.”
رحت أفكر مع نفسي وأقول” : إذا رجعت يوما ما الى بلدي سأزرع كل حديقة الدار بالبرتقال وكافة الفواكه ألأخرى..سوف أجلس تحت ظلالها ساعات طويلة أمعن النظر في تلك الطريقة المتناسقة التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى في صناعة تلك الفواكه والثمار.ساذهب الى السوق كل يوم وأشتري جميع الفواكه الموجودة هناك”. تداعيات وأحلام وآمال تعصف بي لدرجة الجنون. إنه الحرمان ..آه..الحرمان والفاقة قد تحيل ألأنسان الى حيوان ..الى وحش كاسر. وإستمرت ألأيام تسير ببطيء ..أيام متشابه مليئة بالجوع والبرد والضياع. من المشاهد التي لن أنساها أبداً ، مشهدين حدثتا لي وللأخ أبو مريم. المشهد الأول” جاءت سيارة المواد الغذائية – عفواً – سيارة القصعة كما يُطلق عليها في العرف العسكري. كانت السيارة قد شقت طريقها بصعوبة بين الوديان والجبال الممتدة على طول المعسكر. كان الهم الوحيد في ذلك المكان هو ” قدح الرز” . كان البعض يجلس على مرتفع وهم يراقبون بعيون جائعة قدوم السيارة. كانت السماء تمطر مطراً غزيراً والرياح الباردة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة. فجأةً صرخ أبو مريم بصوت متحمس” جاءت السيارة..فلنذهب. تجمع الجنود حولها من يدري قد نحصل على قليل من الرز ألأضافي.”. حاولت إقناعه بأنه لاتوجد فائدة من التجمع حولها. حاولتُ عدة مرات أن أفعل نفس الشيء إلا أن كافة محاولاتي باءت بالفشل. إنهم يوزعون الى الفوج بعدها الى السرايا ومن ثم الى الحضائر المتكونة من عشرة أشخاص. كان رضا حلبوص رجلاً طويلاً ذو عضلات مفتولة فقد قضى طيلة حياتة العسكرية في صنف المغاوير. ذهبنا نشق طريقنا في ألأرض الموحلة وتحت زخات المطر التي لاتنقطع. كان أبو مريم قد أحضر إناءاً شفافا كالذي يستخدم لمرة واحدة. أخبرني أنه سوف يحاول أن يمد يده الطويلة الى الجندي ألأيراني الذي كان يوزع الرز من دخل السيارة العالية. وقفت بعيداً أراقب الحالة بعينين جاحظتين وأنا أنظر الى القدر الكبير الذي تفوح منه رائحة الرز الحار. ظل الجندي ألأيراني يصرخ بصوت هائج ويأمر المتجمعين بالأبتعاد عن السيارة لأنه لاتوجد فائدة من التجمع هناك. كان صديقي يغطي رأسه بقطعة من النايلون كي يحمي راسه من زخات المطر التي لاتنقطع. ظل مادا يده بعناد ولم يبتعد عن مكانه رغم صياح الجندي ألأيراني .حينما شاهد إصرار أبو مريم نظر اليه برهة من الزمن ثم أخذ ألأناء منه . قفز قلبي فرحا وقلتُ في داخلي” ياالهي!! لاأصدق ذلك.لقد أخذ الجندي ألأيراني إناء أبو مريم وهذا معناه حصه إضافية وإذا حصل هذا الشيء فهذا يعني أنني سوف أشبع هذا اليوم.”. ظلت عيناي مسمرتان على ألأناء الذي لايزال في يد الجندي المسؤول عن توزيع الطعام. ظلت يد أبو مريم تمتد الى ألأعلى كي لايسمح لأحد بأختطافه منه. وحلت الكارثه. شعرتُ وكأن السماء إنطبقت على ألأرض. لقد سحق الجندي ألأناء ورماه بأقصى قوة بعيداً في ألأرض الموحلة. إنكمش وجه أبو مريم وظلت عيناه مسمرتان في وجه الجني المتحجر القلب وأرتجفت شفتاه من الغضب وخامرني شعور بأنه سوف يقفز الى داخل السيارة الكبيرة ويسحق ذلك الجندي كما سحق ” ماعونه”. لم أعد أحتمل المشهد. إستدرتُ بوجهي صوب الجهة ألأخرى كي لاأرى علامات ألأنكسار على وجه صديقي المسكين.إستدار صديقي المسكين وأنسل بهدوء من بين الجموع الهادرة التي لاتزال تصرخ بأعلى أصواتها تطلب حصه إضافية. عندما إقترب مني بجسده الضخم وروحه الشفافه قال بذل وإنكسار” ماكو قسمه ياصديقي” وتركني واقفاً أنظر نحو اللاشيء.
ظلت عينيَّ تحدقان في البخار المتصاعد من القِدر الكبير داخل السيارة ولكنني لم أكن أر أي شيء فقد كانت روحي ساهمة تحدق نحو ألأفق البعيد. لقد أعادت لي رائحة الرز والبخار ذكرياتي القديمة عندما كنت أرافق الوفود الصحفية في واجبات رسمية ..حيث أقف أمام قدور الرز اللذيذة في مطعم ريحانه في فندق الرشيد ومطعم دنانير في فندق الشيراتون. أبقى أنظر لاأعرف من أي قِدر أغترف غرفة من الرز ولاأعرف هل أتناول السمك أم الدجاج أم اللحم. لقد كانت أياماً تشبه ليالِ الف ليلة وليلة.كانت أيام مرهقة وعمل شاق ولكن الزمن كان يمضي أشبه بعرس يومي يحدث في مدينة ألأحلام………………………………………………………………………………..
أما الحدث ألأخر فهو” : في يوم ما وعند حلول الساعة الواحدة ظهراً طلب مني أبو مريم أن نخرخ من الغرفة الكئيبه ونسير بأتجاه موقع وقوف سيارة الطعام كي ننتظر قدومها عند الساعه الثالثه عصرا. سرنا جنبا الى جنب صامتين ..لاتوجد عباره واحدة نتبادلها لأن الحزن الشديد بسبب الجوع قد لف حباله حول معنوياتنا لدرجة الهلاك. فجأةً قال جندي المغاوير ” أبو مريم” :” لاأستطيع السير ..أشعر أن ركبتاي ترتجفان”. جلس على ألأرض وراح يفركهما بيديه. جلستُ قربه وكأنني أجلس أمام طفل رضيع لايقوى على النهوض. جاء من بعيد شاب في مقتبل العمر يحمل إناءاً من الرز البارد كان قد إستجداه من غرفة الجنود ألأيرانيين. كان يحمل ألأناء بطريقة فخورة وكبرياء لايضاهيه شيء على مدى عصور التاريخ. توقف قربنا ينظر الينا بشيء من ألأحتقار والتساؤل في نفس الوقت. قلت له بدون حياء ” هل يمكن أن تعطيننا قليلاً من الرز ؟ صديقي جائع جداً ويكاد يلفظ أنفاسه ألأخيرة من شدة الجوع..إنه لايقوى على الحركة”. ظل ينظر الينا بعدم إكتراث وذهب بعدها دون أن ينبس ببنت شفة. تبعتهُ نظراتنا بيأس وكأننا نودع حلماً شفافاً قد تحول الى رماد في لمح البصر. حينما أصبح على بعد أمتار قليلة توقف وأدار رأسه الينا. بلا مقدمات عاد الينا وسألني بالحرف الواحد” هل أنتما من نفس الفصيل؟”. لاأدري ماذا كان يقصد بهذا السؤال ولكن دون وعي قلت” نعم..نعم.” أخذ حفنتين من الرز أعطاني واحدة وألأخرى للصديق أبو مريم. نظرت الى حفنة الرز في يدي كأنني شحاذ متمرس في هذه الصنعة منذ ولادتي. أما صديقي فقد كان يوزع نظراتة بين حفنته وبين وجهي لايدري ماذا يقول. دون سابق إنذار بدأ يلتهم حصتة بشراهة وكأنه لم يذق طعاما طيلة حياته. أعطيته قليلا من حصتي فقد شعرت أنه تحول الى طفل صغير.
حينما بدأ الصيف يزحف نحو منطقة (كرند) شعرنا أن حرارة النهار قد بدأت تشتد رويداً رويداً وأصبحت حرارة الشمس لاتطاق. كنا نمكث في الغرفة القذرة أغلب ساعات النهار لأننا كنا نخشى ضربة الشمس . إستمرت ” العصيدة ” تمثل عشاؤنا اليومي وهي كما ذكرت سابقا عبارة عن ملعقتين من الرز يتم خلطها مع قطعة صغيرة من الخبز الجاف جدا وقدح من الماء توضع في علبة معدنية قذره سوداء” قوطية ” ويتم تسخينها على النارالى أن تمتزج المواد بصورة جيده فيتحول الطعام الى شيء عديم اللون والطعم والرائحه. كافة الجنود العراقيين البالغ عددهم خمسة آلاف رجل كانوا يستخدمون هذه الطريقه مما جعل عملية إيجاد شيء نحرقه صعباً جداً فقد كانت كل مجموعة تأخذ المساحة الكبيرة للسجن جيئة وذهاباً لغرض جمع الحطب. بعد مدة من الزمن نفذت جميع ألأعواد وألأوراق المبعثرة هنا وهناك وحتى ألأشواك اليابسة اختفت تماما.أصبحت عملية إيجاد نار بالنسبة لي شخصيا شيئاً مقرفاً ومزعجاً جداً. كنت أذهب مع الصديق أبو مريم الى مسافات بعيدة نبحث عن عيدان صغيرة أوقطع من الخشب بَيْدَ أننا نعود بخفي حنين كما يقول المثل – أي نعود صفر اليدين –. في أحد المرات طلب مني أبو مريم أن أذهب وحدي فقد كان مصاباً بأسهال دموي حاد ولايقوى على الحركة. إنطلقت وحيداً أخترق المجاميع المختلفة من ألأجساد المتحركة بلا أرواح وكأنهم هياكل عظمية تسير نحو المجهول. البعض ألأخر منهم كان قد إفترش ألأرض ساهم في أفكاره الحزينة . . والبعض منهم قد وقف قرب البئر القذر ينتظر دوره للحصول على جرعة ماء بتلك الخوذه العسكرية التي أكلها الصدأ تماما وقد تم ربطها بسلسة حديدية كي لايسرقها أحداً ما ويتخذها إناءاً يستفيد منها في حياته اليومية الرتيبة. بينما كان البعض ألأخر يبحث بين الصخور عن قطعة يابسة من ألأشواك كي يجعلها ناراً ملتهبة عند حلول الظلام. طاقات بشرية هائلة ولكنها محطمة وتم الحكم عليها بالضياع تماما ولو أستخدمت هذه الطاقات الكامنة فيهم لغيرت وجه التاريخ . استمرت قدماي تسيران بين تلك الجموع وكأنهما تتقدمان نحو حتفي . كلما إبتعدتُ عن المكان الذي يرقد فيه صديقي المريض كلما ازدادت وحشتي وكآبتي المحرقة..فقد كنت كل يوم أسير الى جانبهِ نتبادل أطراف الحديث. حديث مكرر حتى سأمتُ سماعه ولكن ليس باليد حيلة كما يقولون. كان صديقي الطيب القلب فلاحاً من الدرجة ألأولى..شبه أميّ وإذا حدثته عن شكسبير و دي.أج.لورنس وجالز ديكنز فأنه يفتح فمه مندهشاً وكأنه يستمع الى حديث باللغة الصينية. كان يقول لي أحياناً بأنه لايفهم ماأقول ولايدري عن أي شيء أتحدث ولهذا السبب كنتُ أطرح عليه سؤالاً مكرراً كل يوم كي أتركه يتحدث بأنفعال ورغبة لدرجة أنني كنت أشاهده يمسح عيناه بين فترة وأخرى علامة التأثر وألأنفعال. كنت أسأله السؤال التالي:
…” حدثني ياأبا مريم عن قصة زواجك وكيف نهاك إبن عم الفتاة حينما سمع بأنك تقدمت لخطبتها؟”. ويبقى يسرد لي حديثاً سمعته آلاف المرات بَيْدَ أنه يشعر بسعاده لاتوصف حينما يستعيد تلك الذكريات ويحدثني عن إبنتة الوحيدة وكيف أن جدتها ” أي والدتة” تحبها ولاتسمح لأي إنسان بالأقتراب منها”.
بدأت الشمس تلملم أذيال أشعتها في إستعدادٍ طبيعي للأفول خلف الجبال. بحثتُ في كل مكان عن قطعة خشب أو أحراشاً يابسه أو أشياء مهشمه إلا أن كافة محاولاتي باءت بالفشل الذريع. كلما ضعفتْ الشمس كلما طار صوابي لأنني إذا لم أجد شيئاً ما أجعل منه ناراً عند حلول الظلام فهذا يعني أنني وأبا مريم سوف لن نتناول طعام العشاء ولن نحصل على العصيدة اليومية. غابت الشمس وشعرتُ بحقد على الطبيعة …..أستغفر الله لي ولكم من هذا القول..ولكنني قلت لنفسي لماذا لاتنتظر الشمس دقائق أخرى لعلي أجد شيئاً ما..إلا أن الطبيعة لها قوانين وحيثيات دقيقة جدا رسمها الخالق عز وجل ولاتنتظر المحرومين والمعذبين في ألأرض كي يشقوا طريقهم بهدوء وإطمئنان. أصبحت الجموع المتحركة أشباحاً عند حلول الظلام وبدأ الناس- ” الجنود” ينسحبون الى غرفهم الى القذرة كي يستلقوا على فراشهم في الظلام. عدت حزينا مهموما لاأطيق الحديث مع أي مخلوق بشري، وهيأت نفسي لجوع شديد طيلة ليلة مرعبة. وقبل أن أصل المكان الذي يرقد فيه صديقي مع بقية الزملاء شاهدتُ شيئاً مطروحا عند حافة إحدى الصخور. لم أستطع تمييزه من بعيد..وكلما إقتربتُ منه إتضح الشكل المدور ألأسود. وبسرعة البرق قفزت نحوه وإذا به حذاء قديم جدا لأحد الجنود. إلتقطته بسعادة لاتوصف. حدثت نفسي بأن ذلك الحذاء يمكن أن يكون نارا مستعرة تكفي لطبخ عشاؤنا في ذلك اليوم ، وعلى عجل من أمري ركضت حاملاً الحذاء صوب صديقي الممدد على فراشه كالجثه الهامدة. قلت على الفور حينما شاهدت أبا مريم