18 ديسمبر، 2024 8:36 م

جان وسيمون: وجهاً لوجه

جان وسيمون: وجهاً لوجه

 إنها علاقة ذات بُعد مركّب؛ فكري وروحي وعاطفي وجسدي.. علاقة إنسانية صادمة للمألوف والتقليدي والمتعارف عليه؛ خارقة للأعراف البرجوازية المنافقة والكاذبة وتقاليدها الهشة. علاقة لم تخلُ من ارتباك ( أكاد أقول؛ ومن التباس ) في الخفاء وفي بعض التمظهرات المتراوحة بين الشائعات والفضائح، وإنْ بدت للعيان، غالباً، مثالية راسخة منتجة وعصرية بإفراط.. علاقة نفذت ذبذباتها إلى عقل وتفكير قطّاع واسع من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومزاجه، ليس في أوروبا فحسب، وإنما في مناطق أخرى من العالم أيضاً، حتى وصلت أصداؤها إلى محيطنا الثقافي العربي، وإن متأخراً كما جرت، وتجري، العادة.
   حديثي هو عن جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار اللذان خلقا معاً أسطورتهما الخاصة.. وصورتهما اللافتة التي خلّفاها على إثر تلك العلاقة أضفت الجاذبية والقوة والغموض الآسر على شخصيتيهما. فلا سارتر ولا دي بوفوار كان يمكن أن يتركا الأثر الذي تركاه في ذاكرة الثقافة العالمية لولا حضور أحدهما إلى جانب الآخر. وظلّت دي بوفوار تسأل نفسها دائماً؛ ماذا لو لم يلتقيا؟. فلقاؤهما القدري كان السبب الأهم في شهرتهما ورواج أعمالهما. وحتى في شهرة ورواج أعمال بعض المحيطين بهما.
   تلك الحياة الغنية الحارّة، المفعمة بالإثارة والشغف والإبداع؛ الصاخبة والمضطربة، ما زالت تغري كتّاب السيرة للخوض في تفاصيلها التي تبدو وكأنها غير قابلة للنضوب وكما لو أن صاحبيها ما زالا يواصلان حياتهما المشتركة عبر قراءات وتأويلات واكتشافات الفضوليين الذين ينبشون في تلافيف الكتب والصحف والدوريات والرسائل ويستنطقون شهود العيان الذين ما زالوا على قيد الحياة علّهم يقعون على أسرار جديدة تخص تلك العلاقة. وما زال جمهور القراء يجدون المتعة في قراءة سيرة سارتر ودي بوفوار، وربما أكثر من قراءة مؤلفاتهما الأدبية والفكرية.
   يلاحق هازل رولي في كتابه ( سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر: وجهاً لوجه.. ترجمة؛ محمد حنانا.. الهيئة العامة السورية للكتاب 2012 ) تجليات علاقة الاثنين، وتواصلاتها المعرفية والعاطفية والجنسية، لاسيما العاطفية والجنسية، وتموجاتها مدّاً وجزراً. وامتداداتها المتشعبة إلى حيوات ومصائر آخرين من الرجال والنساء. ومع هذا لا يعد المؤلف كتابه هذا كتاب سيرة بل “قصة علاقة” يقول عنها: “أردت أن أصوِّر هذين الشخصين عن قرب في لحظاتهما الحميمية. وسواء اعتقدنا أنها واحدة من أعظم قصص الحب في التاريخ أم لم نعتقد، فهي بالتأكيد قصة حب عظيمة. تماماً كما أراد سارتر وبوفوار لحياتهما أن تكون”.
   حين تحدثتْ عن ليبنتز، وهي في الحادية والعشرين من عمرها في جامعة السوربون “صدم سارتر جمالها ولمعانها، صوتها القوي وحديثها المتلاحق”. فأخذ يتقرب منها عاملاً على إغوائها حتى فتنت به.. كتبت في يومياتها: “بدا لي عقله جبّاراً على نحو مميّز، إني معجبة به وأشعر أيضاً بالامتنان الكبير للطريقة السخيّة التي قدّم بها نفسه”. وقد رأت عالمها المحدود أضيق من عالمه الثري. والسؤال الذي يبحث رولي عن إجابة عليه هو إن كانت بوفوار، قبل التقائها سارتر، “ابنة مطيعة من البرجوازية الفرنسية”، تحوّلت بتأثير سارتر الطاغي إلى “امرأة حرة التفكير قامت أكثر من أية امرأة في فرنسا في القرن العشرين بصدم تلك البرجوازية”. أم أنها مضت، بتشجيع من سارتر، في الطريق الذي اختارته بتصميم مسبق، ومن دون هوادة؟. لقد سحرها سارتر بكلامه عن الحرية والمسؤولية، وكيف أن معظم الناس يفرّون من حريتهم لأنها ترعبهم إذ تضعهم في مواجهة العالم، وأمام مسؤولية أن يخلقوا حياتهم من غير إذعان للقوانين والأعراف المرعية. حاثّاً إياها على معانقة حريتها: “هي ذي الحياة التي كنت أنتظرها”، تدوِّن في دفتر يومياتها، وتضيف: “لم يسبق لي أن عشقت القراءة والتفكير إلى هذا الحد. لم يسبق لي أن كنت حيّة وسعيدة، أو تخيلت المستقبل المشرق. آه، أشكرك جان ـ بول”.
   كان سارتر مأخوذاً بها، وإن لم يرغب بامتلاكها عقلاً وروحاً وجسداً، لكنه سعى لإعادة تكوينها كائنةً حرّة! مستقلة، وهنا المفارقة. ففي ذلك الوقت المبكر من سنوات علاقتهما، وكما ستعترف، فيما بعد، كانت بوفوار تشعر بنفسها ( في حضرة سارتر ) كائناً ثانوياً، ومفكرة طفيلية. كان هو يطرح بين الآونة والأخرى نظرية جديدة، وكانت هي، بعقلها التحليلي الحاد، تكتشف عيوب جدله ونظريته. تُدهشه قدرتها العقلية وتُربكه، فيتهمها بالافتقار إلى الأصالة.. يقول لها: “حين تفكرين على اساس معضلات، فأنت لا تفكرين أبداً”. بيد أنه سيبقى يعتمد عليها، إلى حد بعيد، طوال حياته، من خلال أدائها لهذا الدور؛ نقد نظرياته وتقويمها.
   عاش سارتر ودي بوفوار حياة متقشفة، نسبياً، من الناحية المادية.. كانت غريزة التملك لديهما بالغة الضعف، لاسيما عند سارتر.. ولعهما بالكتابة، وشعورهما الضاغط بالمسؤولية الأخلاقية في الوقوف إلى جانب المضطهدين والمظلومين والمهمّشين كان أقوى، بما لا يُقاس، من نزوعهما إلى الترف البرجوازي وهناءة العيش. وقد روّض سارتر نفسه على العمل تحت أي ظرف، وفي أي مكان، هو الذي كان يبذّر نقوده بأسرع مما يكسبها.. كان باستطاعته أن يكتب في المقهى العاج بالثرثرة، والقطار المزدحم، والحديقة العامة. وبقيت بوفوار تتنقل بين غرف الفنادق، لمدة طويلة، حيث لا تتوفر الخدمات الكافية، ولا الهدوء، ولا الطعام الجيد أحياناً.. ولم تحصل على منزلها الخاص إلا في فترة متأخرة من عمرها. ومعاً وقعا على معنى حياتهما في الكتابة والإبداع، وبشرط غير مدوّن، لكنه امتزج بلحمهما ودمهما وأعصابهما وضميريهما؛ أن يظل كل منهما مخلصاً؛ فكرياً وروحياً، لصاحبه، وحتى آخر نَفَس.
   تروي بوفوار عن المرحلة المبكرة من علاقتهما، حيث لم يكن سارتر ليكتفي ( جسدياً ) بامرأة واحدة: “لم أكن أريد ترك سارتر، لأني كنت أحبّه حينئذ عاطفياً وفكرياً، وأردت أن أبقى معه. كان عذباً جداً وبريئاً جداً، ويشعر دائماً بالأسف نتيجة علاقاته مع فتيات أخريات”. وستتورط، هي الأخرى، بعلاقات حب صاخبة، ولذيذة، ومؤلمة مع رجال مختلفين. غير أن تلك الوشيجة الخفيّة، الدافئة، المرنة، والقويّة مع سارتر لم يكن لها أن تنقطع، ومهما اشتدّت صروف الدهر.. كان ذلك بتعبير بوفوار عقداً مبنياً “على الحقيقة وليس العاطفة”.. تقول أودري ( صديقتهما المشتركة ): “كانت علاقتهما من نوع جديد، لم أر شيئاً مماثلاً لها. لا أستطيع أن أصف حتى الآن ماذا كانت تشبه حين كانا معاً. كانت قوية جداً إلى درجة أنها جعلت الآخرين، أحياناً، حزانى بسبب فقدهم لمثلها”.
   اهتم سارتر بالسياسة أكثر مما فعلت بوفوار، وسعى ليهبط بالفلسفة من برجها العاجي إلى الشارع، إذ يغدو أي شيء، أي حدث، مهما كان تافهاً وضئيل الشأن موضوعاً يمكن أن يُناقش ويُحلل في حقل الفكر والفلسفة. وقد عثر على ضالته في ( الفينومينولوجيا/ علم الظواهر ). من هنا جعل من تفاصيل حياته المادة الرئيسة في معظم كتبه الإبداعية. وكذلك فعلت بوفوار، حيث عُدّت كتب السيرة التي نشرتها، في نظر كثر من النقّاد والقراء، أفضل ما أنجزت.
   نصحها سارتر بحماس: “لِمَ لا تضعين نفسك في كتابتك؟”. في البدء وجدت الفكرة غريبة ومقلقة، فليس من السهل أن تفصح عن أسرارها الذاتية، وتُجري مكاشفة صريحة مع النفس. وأيضاً هناك الآخرون الذين لهم صلة بتلك الأسرار، وقد ينفجرون غضباً إذا ما رأوا أنفسهم مفضوحين بين الكلمات والسطور.. في تلك الآونة كانت الكتابات المتضمنة للبوح الذاتي الحميمي نادرة.. ترددت بوفوار كثيراً قبل أن تقدم على المغامرة؛ أن تحكي عن رغباتها الخبيئة، عن علاقاتها الحسّية المضطرمة مع الرجال والنساء، وعن المماحكات والصراعات في أجواء باريس الفكرية والأدبية مثلما خبرتها، وكانت جزءاً منها مع رفيق عمرها سارتر. وكانت بحاجة إلى بعض الوقت، إلى فاصلة زمنية كافية كي تستعدّ ذهنياً ونفسياً قبل أن تعرض الغسيل، كله أو بعضه، في العراء، وأمام الملأ.
   حين اندلعت الحرب العالمية الثانية، وغدت فرنساً طرفاً فيها، كان سارتر جندياً احتياطاً، في وحدة خاصة بقياس الطقس، في منطقة الألزاس.. سيكتب لبوفوار بأنه لا يريد أن يتركها خلفه: “لأنك ستصبحين وجوداً صغيراً حرّاً يجول حول العالم، وسأغدو غيوراً..”. غير أنه يعود ليحثّها على مواصلة حياتها القصيرة من دونه إذا ما علكته أسنان الحرب القاسية.. يقول في رسالته: “في الواقع، ومهما حدث، لم أشعر من قبل بهذه الحدّة بأنك أنا”. أحس بأن حياته لم تعد تخصه وحده، إنها لها كذلك. وقد حققا، نوعاً ما، طوال السنوات اللاحقة، صورة عمّا بالمستطاع تسميته؛ وحدة الوجود ووحدة المصير بين عاشقين حرّين تسري بينهما فيوضات الفكر، والمشاعر المتّقدة.. يقول سارتر: “أحسست بأن العالم صحراء من غير بوفوار”. ولطالما قرّعته في رسائلها، أو سجالاتها معه، على أخطائه وحماقاته. وقد ارتضى منها ذلك الدور؛ أن تصبح هي ضميره الأخلاقي. وعلى الرغم من هذا كله لم يكونا عشيقين مثاليين مخلصين لبعضهما بالمعنى الجسدي الشهواني للكلمة.