في نهاية كل عام دراسي , يتخرج من الجامعات الحكومية والكليات الاهلية عددا كبيرا من الشباب بشهادات مختلفة من الدبلوم التقني والبكالوريوس والدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه , ويقدر عددهم حاليا قرابة المائة الف في كل عام , وهم من مخرجات السياسات التي اتبعت منذ اعوام تحت شعار توفير مقعد دراسي لكل خريج من الدراسة الاعدادية , والتي بدأها بلدنا في ثمانينات القرن الماضي واستمرت بذات الوتيرة لأهداف غير واضحة منذ انطلاقها لحد اليوم , وإذا كانت هذه السياسات غير ملائمة في توجهاتها من حيث تكاليفها العالية وأهدافها غير الواضحة , فقد جاء الوقت الذي نسال فيه اين يذهب فيه هؤلاء الشباب في مجال ايجاد فرص عمل لهم تعينهم في التصدي لاحتياجاتهم المادية لتوفير مصدر دخل مناسب لهم , باعتبارهم انتقلوا من كونهم طلبة الى مستوى الخريج الذي يجب ان يعتمد على نفسه وليس اهله في تمويل مصروفاته وتكوين مستقبله المهني والاجتماعي , فضلا عن الشعور بالانجاز من خلال تقديم ما هو مفيد في مجال الاختصاص الدراسي .
وربما نعذر من اوجد هذه السياسات واستمر في تطبيقها عندما كانت الدولة بحاجة الى الاختصاصات من حيث الكم والنوع , او عندما كانت موارد الدولة عالية ولا يعرفون كيف ينفقونها فاغرقوا الجهاز الاداري الحكومي في التعيينات المركزية وغير المركزية , ولكن الصدمة التي تعرض لها البلد بعد انخفاض اسعار النفط وارتفاع عدد العاملين في الدولة الى 4 ملايين وبكلفة تقترب من 50 تريليون دينار سنويا , رغم ان بعض الاحصاءات تشير الى ان معدل عمل الموظف العراقي لا تزيد عن 10 دقائق يوميا , هي من استفزت المسؤولين للتوقف عن هدر الاموال في التعيينات بالوظائف الحكومية من خلال اختصار التعيين على الاحتياجات الفعلية فحسب , ولأن العلاقة بين الجامعة والمجتمع يجب ان تكون علاقة تكاملية وغير منعزلة , فانه من واجب الجامعات اما تقليل حجم القبول او توجيه مخرجاتها لأسواق العمل بحيث تتوفر فرصة عمل للخريج لكي لا يعيش الضياع , باعتبار ان الخريجين من الموارد البشرية الوطنية ويجب استثمار هذا المورد بالشكل الصحيح .
ان قبول جميع الاطفال في المدارس الابتدائية تحت عنوان التعليم الالزامي ومعالجة الامية , له فوائد تربوية وتعليمية وتنموية بحيث يمكن تبرير تكاليفها وجهودها , اما قبول جميع الطلبة من خريجي الدراسة الاعدادية في التعليم الجامعي والضغط باتجاه زيادة عدد المقاعد في الدراسات العليا , فانه لا يمكن تبريره قط الا عند توفير فرص العمل للخريجين , وهذا التوجه يمكن ان يكون صحيحا في حالة ولوج افكارا جديدة وفاعلة في اعداد الطلبة وتهيئتهم فعليا لما بعد التخرج ومنها التركيز على التعليم المهني والتقني , بافتراض انه اكثر قدرة في الاستجابة لحاجات اسواق العمل من الايدي العاملة , فوجود الملاكات المهنية والتقنية اسهم في احداث تطورات مهمة في القطاعات الاقتصادية في بريطانيا وكوريا والصين والولايات المتحدة وغيرها من التجارب العالمية , لدرجة ان عدد الدارسين في التعليم التقني والمهني يبلغ 45% في بعض الدول وتتفوق نسبة الاناث على الذكور , في حين ان نسبة الدارسين في التعليم المهني والتقني في بلدنا لا تتجاوز 5% من مجموع الدارسين , رغم حاجة البلد لإجراء تغييرات هيكلية في الاقتصاد العراقي لتحويله من احادي الجانب على النفط الى متعدد مصادر الدخل .
وخلال مدة عمل هيئة التعليم التقني في العراق للسنوات 1969 – 2014 , لم تستطيع هذه الهيئة من احداث انتقالة متكاملة في نوعية مخرجاتها بحيث تكون قادرة على تمكين الخريجين جميعا في الحصول على فرص العمل في الاسواق , ورغم انجازاتها العديدة والمهمة الا انها عانت بعض المشكلات التي تراكمت من العقود السابقة , اهمها ضعف التنسيق والتكامل مع مؤسسات التعليم المهني والتقني التي تقع خارج التعليم العالي , وتقادم بعض المناهج الدراسية وحالة الترهل الاداري فيها كونها تدير 46 تشكيلا من المعاهد والكليات التقنية وتنتشر في 15 محافظة من جميع النواحي , وعدم تكامل الربط بين المخرجات وأسواق العمل والاضطرار لقبول مدخلات بمعدلات ودرجات منخفضة في اغلب التخصصات , مما يؤثر في ضعف الدافعية للدارسين , والافتقار الى الورش والمختبرات ومتطلبات التدريب العملي في القطاعات غير الحكومية , وعدم وجود جهة رابطة للتعليم المهني والتقني داخليا وخارجيا , ناهيك عن محدودية تبني الافكار المبدعة والخلاقة وتوظيفها في حقول العمل لزيادة الانتاج من خلال إدخال التقنيات الحديثة التي تنعكس ايجابيا على جودة الخريج .
وكادت هذه الامور ان تستمر لأمد غير محدود لولا حصول تغييرات مهمة ابرزها , منح الصلاحيات الادارية وغيرها للتشكيلات كافة وعدم الرجوع للهيئة الا في بعض الامور الحصرية , والسعي لإعادة هيكلة الهيئة من خلال تحويلها الى اربعة جامعات تقنية ( الفرات الاوسط , الوسطى , الجنوب , الشمال ) والتي حررتها من العقد البيروقراطية , وإعادة النظر في المناهج لمواكبة احدث التقنيات وبتقدم تدريجي يمتد لخمس سنوات وبمعدل 20% في كل عام , وإجراء تحديثات جوهرية في الورش والمختبرات وإعادة النظر في طرق وأساليب وتوقيتات التدريب العملي للطلبة والتطبيقات بما يضمن التركيز على المهارات وتوظيفها في مختلف القطاعات , والتنسيق مع الاتحاد الاوربي للاستفادة من خبراته ودعمه في صياغة استرتيجية التعليم المهني والتقني للسنوات 2014 – 2023 ووضعها موضع التطبيق , وتبني فكرة حاضنات الاعمال بما يجعل الخريج قادرا على العمل فور تخرجه من خلال عقد اتفاقات مع القطاعات الاقتصادية في تبني الخريجين في مجال التدريب والدخول في اسواق العمل , فضلا عن فسح المجال في إنتاج براءات الاختراع ونشر البحوث ذات معامل التأثير العالمي .
وقد تم انجاز العديد من التغييرات والتحولات في مدة قياسية لم تتجاوز سنتين ( 2013 – 2014 ) , رغم ان بعضها يحتاج الى اضعاف تلك السنوات , ولم تكن تلك التغييرات بإضافة تخصيصات من الموازنة الاتحادية وإنما من خلال الاعتماد على اقتصادية الانفاق وتفعيل الامكانيات الذاتية من خلال تطبيق هدف الجامعة المنتجة , ولم يكن المتحقق بجهود فردية وإنما من خلال تعاون الجميع في ولوج اساليب غير مطروقة ومنع الهدر في الموارد المتاحة من خلال توجيهها وتوظيفها بالشكل الصحيح , وقد كان لرئيس هيئة التعليم التقني الدكتور المهندس عبد الكاظم الياسري , ادوارا مهما في طرح الافكار المبدعة وتسويقها لغرض تبنيها من قبل العاملين بدلا من فرضها عليهم بقرارات , وتمكنت الفرق التي شكلها من اختصار الوقت واستثمار الامكانيات المتاحة وقيادة الفعاليات بشكل كفء , وبنكران ذاته تحول من رئيس لهيئة تضم 46 معهدا وكلية الى قائد ميداني لمشروع التغيير الايجابي , واستطاع صياغة جميع التغييرات وإدخالها حيز التطبيق بموجب السياقات الرسمية واعتماد التغيير من خلال الاقناع , باعتباره من التكنوقراط ولا ينتمي لأية جهة سياسية لكي تسانده إذ عول على مواطنته وإيمان من شاركه في مجال توجيه الاهداف لخدمة العراق .
ان الغرض من التغييرات التي حدثت في هيئة التعليم التقني التي تحولت الى اربعة جامعات تقنية , هو ان لا تكون الجامعات الى منتج للعاطلين عن العمل وإنما العكس , وقد لا تظهر نتائج هذا التغيير فورا لأنها بحاجة الى دعم وإسناد من الجهات المعنية , سيما و ان البعض حاول عرقلة هذا التغيير والتشكيك بتوقيته , رغم ان الانتقالية والنتائج كانت محسوبة بدقة , ولكن حصلت بعض التغيرات ومنها ان تخصيصات الجامعات التقنية الجديدة حسبت على الموازنة الاتحادية لعام 2015 والاستحداث قد تم في 2014 , كما ان الظروف الامنية عطلت بعض التشكيلات التقنية
في المناطق الساخنة , والاهم من ذلك ان ما يحتاجه الانتقال الصحيح بضوء اتفاقية ال TVET التي اشرنا اليها تحتاج الى تشكيل مجلس اعلى للتعليم التقني , ليكون حافظا لهوية التعليم التقني وبشكل يتواصل مع الجهود والأموال التي انفقت لبناء التعليم التقني في العراق , وهذا المجلس بإمكانه ان يكون صمام الأمان للتعليم التقني وبما يطمأن المخلصين على عدم انصهار الهوية التقنية .
ان التمسك بفكرة انشاء مجلس التعليم التقني , ليس هدفه اضافة حلقة ادارية مضافة , في الوقت الذي نشارك الآخرين فكرة ترشيد اجهزة الدولة , كما ان الهدف ليس اضعاف دور الجامعات التقنية في هيئة الرأي في الوزارة , وإنما لإضافة قوة للتعليم التقني للتحوط من أي مساس بهويته والاتفاق على المشتركات في مجال المناهج والعلاقة والتنسيق مع مؤسسات ال TVET من دون اضافة اية اعباء ادارية او املاءات تخل باستقلالية الجامعات التقنية , فالمجلس المقترح يمكن ان يضيف للجامعات التقنية ولا يأخذ من صلاحياتها قط , فبدلا من ان تنسق كل جامعة لوحدها في مجالات الانفتاح على البيئات ذات العلاقة المحلية والعالمية وإدخال التقنيات الحديثة , فان المجلس سيشكل النافذة المشتركة لغرض الاستفادة من جميع اشكال الدعم والتنسيق , والهدف النهائي هو ان تكون للجامعات التقنية انماطا متطورة في اختصار الزمن وتحقيق التقدم وعبور المستعصيات , فما يتم التعويل عليه وطنيا هو انتقال التعليم التقني الى حالة متقدمة في معالجة المشكلات التقنية الوطنية , والسعي لاحتضان طاقات الشباب لتوفير فرص العمل لهم بعد التخرج ليكونوا منتجين فعلا وليس عالة على المجتمع . والأمر لا يحتاج سوى الى تكييف قانوني لهذا الانتقال .
ونأمل ان تتبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فكرة انشاء المجلس , كبديل عن هيئة التعليم التقني وسوف لا يؤدي ذلك الى اية اضافة في الامكانيات او تحميل الدولة لأية تبعات مالية او نفقات اضافية , فمثلما انتقلت موجودات وملكية المعاهد والكليات التقنية الى الجامعات التقنية , فان الانتقال سيكون من هيئة التعليم التقني الى المجلس وبشفافية كاملة , , كما نأمل من مجلس الوزراء ان يتبنى هذا المشروع الوطني باعتباره رافدا مهما للاقتصاد العراق , فالهدف هو ان يتحول التعليم التقني الى منتج للطاقات وارض خصبة لتبني المبادرات والإبداعات للعاملين والطلبة , وبشكل يجعل هذه الجامعات حالة متقدمة في البناء والتطوير وتهيئة ملاكات تقنية , تمتلك الرغبة والقدرة في التحول من طالبين للعمل الى صانعين لفرص العمل لهم ولغيرهم من العراقيين , قد يعتقد البعض ان ذلك حلما من الصعب تحقيقه , ولكن الحلم من الممكن ان يتحول الى دافع لإخراج الطاقات المكنونة , وبنفس الطريقة التي تحول فيها حلم الجامعات التقنية الاربعة الى واقع فعلي ليس بالصدفة , وإنما من خلال العمل ليلا ونهارا لتحويل الطموح للواقع عندما تحضر الكفاءات الوطنية بضمير عنوانه خدمة العراق والتجرد عن الغايات الفردية , ومما يطمأن الى سلامة هذا التحول ان من يقوده هو من اثبت القدرة في انشاء الجامعات التقنية بوقت قياسي , الذي اشرنا اليه في هذه المقالة ولا نريد تكرار اسمه من باب الابتعاد عن الشخصنة فحسب , والهدف النهائي هو ان تكون الجامعات مصانع وطنية للطاقات التي تعمل عوضا عن انتاج العاطلين .